وربما أثار هذا الذي أقوله شيئا من العجب والتساؤل: كيف تقول إننا نتنكر للعلم الطبيعي بحكم ثقافتنا الضاربة بجذورها في أعماقنا، وأمامك عشرات من الجامعات العربية وما تحتوي عليه من كليات للعلوم؟ وما على المتعجب المتسائل إلا أن يتعقب دارسي العلوم هؤلاء في حياتهم الخاصة، إذن لأذهلته الازدواجية الرهيبة التي أشرت إليها منذ حين؛ فدارس العلوم في جامعاتنا قد يبلغ أقصى المدى في علميته وهو في المعمل، حتى إذا ما عاد إلى داره، وسامر خلانه في ساعات الفراغ، خرج المخبوء من بين جوانحه، وأخذ يتحدث أحاديث الخرافة كما يتحدثها سائر الناس.
ليست المسألة هنا مسألة طائفة من القوانين العلمية يحفظها طلاب العلوم، بل هي قبل ذلك وبعد ذلك منهاج للنظر، إذا ما اصطنعناه بحق، ألفيناه يجاوز حدود الكتب والمخابير، ليصبح طريقة للنظر في شئون الحياة العملية كلها، من سياسة إلى اقتصاد إلى عمران والتزام بقواعد الصحة وغيرها من جوانب العيش؛ فإلى أي حد نقيم هذه الأشياء كلها على نهج علمي قويم؟ يقيني أننا في هذا الطريق ما نزال نحبو خطواته الأولى؛ والمثقف العربي إزاء هذا كله ، متأزم لا يدري أيساير الموجة العامة في لا علميتها ليقال عنه إنه لم يغترب عن ثقافة أمته، أم يصد الموجة ليدخل شيئا من علمية النظر في رءوس الناس لترضى عنه روح عصره؟
ولهذه الازدواجية في حياتنا الثقافية بين العلم واللاعلم، نتيجة تثير الغيظ عند المثقف الذي يحس خطورة رسالته؛ وهي أن كثيرين من رجال الثقافة منا، يستخدمون للأفكار طريقة بروقرسطيس في الأسطورة اليونانية القديمة، التي يقال فيها إن بروقرسطيس قد أقام على طريق المسافرين نزلا يستريحون فيه، لكنه جعل الأسرة كلها ذات طول معين، فإذا كان النازل عنده أقصر من السرير وضعه في آلة أعدها لتمط الجسد حتى يطابق طول السرير؛ وإذا كان النازل عنده أطول من السرير، جذ ساقيه ليقصر إلى الحد المطلوب، فلا ينجو من شره إلا مسافر شاءت له المصادفة المواتية أن يكون في طوله مطابقا للطول المطلوب.
وهكذا يفعل مثقفونا حين ينقلون لنا أفكارا من ثقافة العصر؛ فهذه الأفكار وهي على حقيقتها عند أصحابها، قد تكون في أعين جمهورنا أقصر مما ينبغي لها أو أطول، فعندئذ ترى المثقفين منا - إخلاصا منهم لأهواء الجمهور - يمطون تلك الأفكار أو يجذونها، حتى تطابق الصورة المقبولة، حدث هذا في مجال الفكر الفلسفي وفي مجال الفكر السياسي على حد سواء؛ وليس هذا التشويه الفكري الذي نقترفه، هو من قبيل التوفيق الذي عرف به أسلافنا الأمجاد، حين نقلت إليهم فلسفة اليونان وعلومهم، وأخذوا يلتمسون نقاط التلاقي بين الثقافة الوافدة وبين تعاليم الإسلام؛ فعملية التوفيق بين الطرفين عند أسلافنا تطلبت منهم جهدا فكريا مخلصا دام لنا مع الزمن، أما التشويه الذي نصيب به ثقافة عصرنا عند نقلها، فبهلوانية يأباها الضمير وترفضها معايير الفكر الناضج السليم.
ومن أنواع التشويه، بل من أشدها شيوعا بيننا، أن يتصدى رجال الثقافة منا، لما يزعمون أنه رد على ثقافة الغرب، دون أن يكونوا قد ألموا إلماما صحيحا بما يردون عليه، فسرعان ما تنتشر بيننا أفكار مبتسرة، لا هي غربية ولا هي شرقية.
5
فإذا خلا موقف المثقف من أمثال هذه العيوب، التي هي عيوب خلقية في المقام الأول، كانت هنالك أفكار كثيرة من ثمار العصر، يتمنى المثقف لو أذاعها في الناس، لكنه يصطدم بعوامل تسد عليه الطريق؛ فالفكر عندنا تابع للسياسة، وكان العكس هو الأجدر، وقد يكون لنا عذرنا في هذا الترتيب، لكوننا نجتاز مرحلة انتقال تتطلب شيئا كثيرا من الحكمة العملية ووحدة النظر، لكن ذلك لا ينفي أن يثقل العبء على ضمير المثقف، الذي يضع سلامة الفكرة قبل نوازع السياسة.
وكان من نتائج ذلك، أن ترك صفوة المثقفين مشكلات الحياة الحقيقية التي كانت بحاجة إلى جهودهم، وانصرفوا إلى أشياء لا يتقدم بها المجتمع ولا يتأخر، ولك أن تقارن هذا الموقف الذي ينسلخ فيه المثقفون عن تيار الحياة الواقعة، لا أقول أن تقارنه بالصلة الوثيقة بين الفكر والحياة الفعلية في بلاد غير بلادنا، بل أن تقارنه بما كان يحدث عند أسلافنا العرب وهم في عز مجدهم، لترى كيف كان الفكر وجها آخر لتيار الحوادث، حتى لتستطيع أن تستدل تاريخهم من أفكارهم، وأن تستدل أفكارهم من تاريخهم؛ لأن الفكر وتيار الحياة عندهم كانا وجهين لشيء واحد؛ فحتى علماء اللغة وهم يبحثون في اللغة أصولا وفروعا، ونقاد الشعر وهم يجمعون الشواهد، أقول حتى هؤلاء لم يكونوا يفعلون ما يفعلونه وهم معلقون في الهواء، بل كانوا يفعلونه لصلة وثيقة بينه وبين ما اعترضهم من مشكلات توجب فهم القرآن على وجهه الصحيح، أو توجب المفاضلة الأدبية بين جماعة وجماعة؛ إنه لما اختلفت مدرسة البصرة مع مدرسة الكوفة في نحو اللغة، الأولى تريد أن تقعد القواعد العقلية، والثانية تريد الاحتكام إلى السوابق لا إلى قوانين العقل في التفرقة بين الصواب والخطأ، كان هذا الاختلاف بينهما انعكاسا لموقف في الحياة العقلية نفسها، ولم يكن اختلافا منبت الروابط بأرض الواقع.
فأين حياتنا نحن الفكرية التي اغتربت عن واقعنا في حالات كثيرة وخطيرة، أقول أين هذه الحياة المغتربة من حياة الذين صحت منهم العزائم، ووضحت الأهداف، وإزاء هذا كله يتأزم ضمير المثقف بمعناه الصحيح.
اغتربت صفوة المثقفين عن مشكلات حياتنا، فلم تجد الغوغائية ما يردها ويلجمها؛ وذلك أنه من أميز ما يميز المثقف الأصيل رغبته في تحليل الفوارق بين المعاني التي قد تتقارب إلى حد التشابه الشديد؛ على حين أن الفكر الغوغائي أميل إلى دمج المعاني المختلفة كلها في لفظة واحدة، يظنها واضحة وهي من الغموض في ظلام أسود من حندس الليل؛ إذا قال المثقف معاني من أمثال: حرية، ديمقراطية، عدالة، مساواة، إلى آخر هذه الأسرة الكبيرة من المعاني الشائعة في عصرنا، لم يفته الاختلافات الكثيرة التي قد تقع في استعمال الناس لهذه الألفاظ، ثم يعمد إلى تحديد ما يريده من كل لفظة منها إذا استعملها، لكن تحليلاته وتحديداته غالبا ما تقع عند الجمهور على آذان صماء.
ناپیژندل شوی مخ