ساند شخص ما يمتلك ثروة وسلطانا عظيمين أمر صياغة هذه النصوص في أوائل القرن الثامن قبل الميلاد. فقد كانت تكلفة البردي وحده هائلة، وكان المشروع في مجمله مطمحا مجنونا، مثلما يحدث أحيانا في مستهل ظهور تكنولوجيا جديدة. فمثلا، مجمع المعابد الحجري الأبعد شأوا في مصر - الذي يحيط بهرم الملك زوسر المدرج والذي أقيم حوالي 2600 قبل الميلاد - هو أيضا الأقدم. كان إملاء القصائد عملا مجهدا وباهظ التكلفة، إلا أن التجار العوبيين كان لديهم الوسائل ومن خلال علاقاتهم الشرقية استجلبوا تكنولوجيا الكتابة. من المرجح أن تكون «الإلياذة» و«الأوديسة»، وكذلك قصائد هيسيود من مقاطعة بيوتيا المجاورة، قد دونت على جزيرة عوبية، وكانت بحوزة العوبيين في بادئ الأمر.
ماذا كان يمكن أن تكون دوافع ناسخنا لصياغة نصوص بهذا الطول والتعقيد اللذين لم يسبق لهما مثيل؟ ماذا فعل ناسخنا - الذي كان مدعوما بثروة وهدف غير معلوم - بالنصوص ما إن صارت بين يديه؟ إن كان هو مخترع الأبجدية، إذن فقد كان هو الإنسان الوحيد في العالم القادر على قراءة النصوص الأولى، إلى أن استطاع آخرون تعلم أسرار طريقته. نحن نعرف أن نصوص هوميروس قد صارت أساس التعليم اليوناني بحلول القرن السادس قبل الميلاد؛ فمن القابل للتصديق أنها كانت أساس التعليم اليوناني بدءا من وقت اختراع الأبجدية.
هوامش
الفصل الثاني
ملحمتا هوميروس عند المؤرخين
يرغب عالم فقه اللغة في معرفة أصل أول نص «للإلياذة» و«الأوديسة» (ولكنه لا يريد على الإطلاق أن يعرف عن بداية التقليد الذي جسدته تلك النصوص، والذي لا بد أن يكون بالغ القدم). يشارك المؤرخ عالم فقه اللغة اهتمامه الشديد بمعرفة الزمن الذي صيغت فيه الملاحم المكتوبة، ولكنه يرغب في أن يستخرج من نصوص هوميروس أكبر قدر ممكن من المعلومات عن حياة الناس وما كانوا يفكرون فيه. لقد أنشد هوميروس «الإلياذة» و«الأوديسة»، وصاغ شخص ما نصا من أنشودته. ولكن ماذا كان مقدار اعتماد عالم الملاحم العتيق هذا على الخيال الشعري وما مدى عكسه للعالم الحقيقي، الذي - ذات يوم - عاش فيه شاعر حقيقي؟ هذا هو التحدي الذي يواجه المؤرخ. (1) هوميروس والعصر البرونزي
شكل 2-1: المؤلف أمام أسوار طروادة السادسة التي تعود إلى حوالي 1250 قبل الميلاد. تميل الأسوار الدقيقة البنيان إلى الداخل قليلا ومدعمة بدعامات رأسية على مسافات منتظمة. حقوق نشر الصورة محفوظة للمؤلف.
تظل علاقة هوميروس بالعصر البرونزي مشكلة مزمنة. لقد أماط التنقيب الأثري اللثام عن عالم اليونانيين الميسيين الذي يتسم بالثراء والقوة والذي ازدهر تقريبا فيما بين عامي 1600 و1150 قبل الميلاد وانهار عندما اندلعت جذوة صراع شامل في منطقة البلقان، وبحر إيجه، والأناضول، وقبرص، والشام (ولكنه لم يمتد إلى بلاد ما بين النهرين ولا إلى مصر). لا بد أن تكون حرب طروادة قد حدثت في العصر البرونزي، إن كانت قد وقعت. لقد بدا هاينريش شليمان (1822-1890)، الذي اكتشف العصر البرونزي اليوناني عندما نقب عن طروادة في آسيا الصغرى وميسينيا على بر اليونان الرئيسي في أواخر القرن التاسع عشر، وكأنه يثبت أن قصص هوميروس لا بد على نحو ما أن تكون مستندة على أساس من الواقع، أي على التاريخ. ومسينيا وطروادة هما، في نهاية الأمر، مكانان حقيقيان احترقا بالفعل عن آخرهما. ارتأى شليمان أن هوميروس كان يصف العصر البرونزي، وحتى وقت قريب كان كثيرون يتفقون مع وجهة نظره؛ فالأسوار القوية، بل المذهلة، لما يدعوه هوميروس عن جدارة «طروادة ذات الأسوار الحصينة»، والطابع العسكري الواضح للقلاع الميسينية على بر اليونان الرئيسي، والدروع البديعة التي عثر عليها في القبور الميسينية، والتي تشمل قناعا جنائزيا ذهبيا اعتقد شليمان أنه كان يخص أجاممنون، كل ما سبق يتفق مع وصف هوميروس العام لليونانيين الموسرين الذين لديهم ولع بالبغي والطرواديين الموسرين الذين بوسعهم التصدي له (انظر شكل
2-1 ).
كانت القلعة في ميسينيا متوافقة على نحو جيد مع بأس أجاممنون كما وصفه هوميروس، وعلى النقيض كانت ميسينيا في الحقبة الكلاسيكية قرية بائسة. وبدا أن الجهود اللاحقة المبذولة من قبل باري ولورد تثبت التساوي بين عالم هوميروس واليونان الميسينية؛ لأن تلك الجهود فسرت الكيفية التي أمكن بها لهوميروس عبر التقليد الشفاهي أن يرث معرفته بأحداث وقعت قبل 400 سنة.
ناپیژندل شوی مخ