إنني أجهر بالقول بألا يوجد ابتهاج يعدل عندي السرور الذي يتملك جمعا من الناس بأسره، وضيوف المأدبة وهم يستمعون إلى «مغن» وهم ينتظمون جلوسا جميعهم، وبجوارهم موائد مكدسة بالخبز واللحم، وساقي الخمر يسكب النبيذ من الإناء ويدور حاملا إياه ويصبه في الكئوس. هذا، فيما يبدو لذهني، هو أجمل الأشياء في الوجود. (الأوديسة، الكتاب 9، الأبيات 5-11)
تبوأ مثل هؤلاء الرجال مكانة خاصة في المجتمع اليوناني، توازي مكانة القادة الدينيين في المجتمعات القديمة الأخرى، الذين حل «المنشدون الملحميون» محلهم بموجب تطور اجتماعي استثنائي في اليونان القديمة. فلا غرو أن تكون الأبجدية قد اخترعت لتحويل الغناء إلى نصوص مكتوبة؛ إذ إن المنشدين الملحميين، هم من كانوا يحددون القيم الأخلاقية في المجتمع اليوناني، وليس الكهنة.
إن النص المكتوب، على عكس الأغنية الشفاهية، هو شيء مادي به علامات تيسر تفسيره، إن كنت ماهرا. والنص المكتوب يتيح إعادة بناء نسخة صوتية من الرموز المفهومة لشخص يتحدث اللغة اليونانية، بيد أن إعادة البناء لم تكن مشابهة، حتى ولو من الناحية النظرية، لأغنية حية أنشدها شاعر ما ذات مرة. حفظ المتخصصون الذين يدعون «الرابسوديين» هذه النصوص عن ظهر قلب وألقوها، وهم يمسكون صولجانا، بطريقة مسرحية متكلفة في تجمعات عامة، وبخاصة في المهرجان الأثيني المسمى مهرجان عموم أثينا الذي نظمه بيسيستراتوس في القرن السادس قبل الميلاد (شكل
1-7 ).
شكل 1-7: رابسودي (راوي ملاحم) يلقي قصيدة من الذاكرة. يظهر التزامه بالنصوص المكتوبة في الكلمات التي تنساب من فمه (غير مرئية في الصورة)، «وهكذا ذات مرة في تيرنز ...» قصيدة مفقودة قد تكون عن هرقل، الذي حكم في تيرنز. مزهرية من طراز الرسوم الحمراء بواسطة الرسام كليوفراديس. يرجع تاريخها إلى حوالي عام 480 قبل الميلاد. حقوق النشر محفوظة لأمناء المتحف البريطاني، قطعة
E270 .
من المحتمل أن تكون لفظة «رابسودي» تعني «المغني حامل الصولجان»، إلا أن اليونانيين منذ القدم أعطوها المعنى الاشتقاقي «الذي يرتق (أي يصل) الأغاني بعضها ببعض» وقد حذا حذوهم الكثير من المحدثين. ليس الرابسوديون بأي حال منحدرين من «المغنين» - الذين كانوا ينشئون أغنيتهم بصورة جديدة في كل مرة يؤدونها فيها - وإنما من مخترع الأبجدية اليونانية، الذي أتاحت قاعدة التهجئة التي استحدثها وابتداعه لفئتين من الرموز التدوين المقارب للأصوات الفعلية للشعر اليوناني. كان الرابسوديون، على عكس المغنين، يجيدون القراءة والكتابة وكانوا يتفاخرون، كشأن المعلمين الأوائل، بقدرتهم على تبيان النصوص، ولا سيما نص القصائد الهوميرية. ويسخر أفلاطون بتعريض خبيث من تلك الادعاءات في محاورته المسماة «محاورة أيون» التي ترجع إلى القرن الرابع قبل الميلاد. لا يثق أفلاطون بالرجال على شاكلة أيون، الذين يتفاخرون بإتقانهم المتحذلق ل «نص» ما ويحسبون أن الحقيقة تكمن في «نص»:
سقراط :
إنني كثيرا ما أحسد مهنة راوي القصائد الملحمية يا أيون؛ لأنك دائما ما ترتدي الثياب الفاخرة. وظهورك بمظهر حسن قدر استطاعتك هو من متممات فنك. أضف إلى ذلك أنك ملزم بأن تكون بشكل متواصل في صحبة الكثير من الشعراء البارعين، وبخاصة هوميروس، أفضل وأروع الشعراء. ومما تحسد عليه كثيرا فهمك لما يقوله وليس مجرد تعلم كلماته عن ظهر قلب. ولا يستطيع أي إنسان أن يكون راوي ملاحم وهو لا يفهم ما يعنيه الشاعر؛ لأن راوي الملاحم ينبغي أن يفسر ما في عقل الشاعر لمستمعيه. ولكن كيف يستطيع أن يفسر ما يقوله بشكل جيد ما لم يدرك ما يعنيه الشاعر؟ كل هذا هو مما يحسد عليه راوي الملاحم.
أيون :
ناپیژندل شوی مخ