أما خارج مصر، فكان البردي يستخدم قبل اليونانيين من قبل الساميين الغربيين، أولئك الذين لم يكونوا منتظمين في مجموعة محددة وكانوا يتحدثون بلغة سامية وعاشوا بحذاء الساحل الشرقي للبحر المتوسط وفي الوديان الداخلية (كان الساميون الشرقيون هم من يستخدمون الطين في الكتابة، وكانوا يعيشون في بلاد ما بين النهرين). استخدم الساميون الغربيون كذلك ألواحا مطوية مكسوة بالشمع، مثل لوح بيليرفونتيس، وهي وسيلة تشاركوا فيها مع بلاد ما بين النهرين، ولكن ليس مع مصر (إذ استخدم المصريون لوحات طبشورية مسطحة للنصوص المؤقتة). وخارج مصر، حيثما كان ينمو نبات البردي، كان البردي على الدوام سلعة مستوردة، ومع ذلك استخدم في أغلب الوثائق في منطقة شرق البحر المتوسط بصفة أساسية أو حصرية من أقدم العصور. ومن الواضح أن تصنيع البردي كان صناعة تصديرية مهمة في مصر. وقد حل اللوح المطوي الذي امتد عبر عصر الساميين الشرقيين الذين كانوا يستخدمون الطين والساميين الغربيين الذين كانوا يستخدمون البردي، واليونانيين، ثم الرومان، محله كوسيلة للكتابة.
يطلق هوميروس على هؤلاء الساميين الغربيين الذين كانوا يستخدمون البردي وكانوا يجوبون البحار اسم «الفينيقيين»
وتعني «الرجال الحمر»؛ على ما يبدو لأن أيديهم عادة ما كانت مخضبة جراء إنتاج صبغة أرجوانية من نوع من المحاريات، وهو ما كان اختصاصا فينيقيا، أو كان يدعوهم «الصيداويين»، أي «رجال صيدا»، وهو ميناء بالقرب من مدينة جبيل. لم يكن الفينيقيون قوما متحدين على أي نحو كان، ولم يطلقوا على أنفسهم اسم الفينيقيين. وقد كانوا في انقسامهم، وفقرهم النسبي، وألفتهم بالبحر يتشابهون مع اليونانيين القدماء. ويعد «الفينيقيون» تعبيرا مناسبا لتمييز الساميين الغربيين الذين كانوا يقطنون الشمال، والذين كان موطنهم ساحل البحر، عن الساميين الغربيين الذين كانوا يقطنون الجنوب وكان موطنهم الأراضي الداخلية ومن بينهم العبرانيون والكنعانيون، أخذا عن الاسم التوراتي كنعان الذي كان يطلق على هذه المنطقة. أما فلسطين، تلك المنطقة الجغرافية الكائنة في جنوب الشام، فقد اتخذت تسميتها من الفلسطينيين، الذين كانوا على ما يبدو لاجئين يونانيين ميسينيين من جزيرة كريت، عاشوا في خمس مدن في قطاع غزة. كان القرار يعود إلى الجغرافيا في التقسيم إلى الشمال الساحلي والجنوب الداخلي: فثمة موانئ جيدة عدة في القسم الشمالي من الشام، ولا شيء في الجنوب.
كان ثمة ممران صالحان فقط يؤديان إلى الداخل من الموانئ الفينيقية في الشمال عبر سلاسل جبال لبنان التي تمتد بمحاذاة الساحل تماما. يقع الميناء والمركز التجاري العظيم في العصر البرونزي أوغاريت (انظر خريطة 1، وشكل
1-5 ) جنوب أحد الممرين، وهو موقع مثالي لنقل البضائع الآتية من الداخل السوري وبلاد ما بين النهرين على متن سفن تبحر إلى وجهات على البحر المتوسط. سوف نعاود فيما بعد الحديث عن الألواح الطينية البارزة والقصائد الملحمية المنقوشة عليها، تلك التي عثر عليها في مدينة أوغاريت، التي دمرت حوالي عام 1200 قبل الميلاد في خضم الانهيار الشامل الذي ألم بحضارة العصر البرونزي المتوسطية.
شكل 1-5: المدخل الأثري للمركز التجاري لمدينة أوغاريت على ساحل شمال سوريا، التي دمرت حوالي سنة 1200 قبل الميلاد. التقطت الصورة من قبل المؤلف نفسه.
كان سكان جزيرة قبرص - التي تقع على بعد 75 ميلا فقط قبالة ساحل مدينة أوغاريت - شركاء طبيعيين في التجارة والثقافة مع فينيقية ومكانا لإعادة شحن البضائع المتجهة إلى منطقة قليقية على الساحل الجنوبي للأناضول (تركيا المعاصرة) وإلى جزيرة رودس، والجزيرة اليونانية الكبيرة عوبية، وإلى أقصى الغرب. كان يسهل الوصول إلى مصر في الجنوب عن طريق البحر. وكانت المدينة الفينيقية جبيل في لبنان المعاصرة شبه مستعمرة مصرية منذ القرن الثالث قبل الميلاد وما تلاه، وكانت توفر منتجات الأخشاب - «أرز لبنان» المذكور في الكتاب المقدس - لمصر على مدى تاريخها. وكانت الفنون الزخرفية والدينية مستقاة بشكل كبير من المصريين، وكذلك كان حال الفنون الكنعانية.
كحال اليونانيين الهندوأوروبيين، كان الفينيقيون الساميون بحارة رائعين. وفي أواخر العصر الحديدي، وتحت ضغط عسكري من القوة الإمبريالية الاستعمارية الآشورية في إقليم ما بين النهرين الشمالي، استعمروا شمال إفريقيا، وإسبانيا، وصقلية، وجزرا عدة في غرب البحر المتوسط، بما في ذلك سردينيا، في الفترة ذاتها تقريبا التي استوطن فيها اليونانيون جنوب إيطاليا وشرق صقلية. وقد ظهر هؤلاء «الفينيقيون» على نحو متكرر في «أوديسة» هوميروس، حيث يصورون كتجار رقيق جشعين يمخرون أعالي البحار ببضاعتهم.
منذ وقت مبكر، تشارك الفينيقيون مع أبناء عمومتهم الكنعانيين نظاما متميزا للكتابة يشتمل على نحو اثنتين وعشرين علامة. كان ذلك النظام الذي تشيع تسميته «أبجدية»، في حقيقة الأمر، نظام كتابة مقطعية غريبا. كانت كل علامة فيه ترمز إلى ما نطلق عليه حرفا ساكنا إضافة إلى حرف متحرك غير محدد. بتعبير أدق، كانت كل علامة تشير إلى صوت كلامي يوصف بأنه حائل أو تعديل لمرور الهواء من الفم (الحرف الساكن)، دون توضيح لدرجة اهتزاز الأحبال الصوتية (الحرف المتحرك)، فعليك أنت - من تتكلم بلغتك الأصلية - أن تضيف ذلك الصوت، أثناء القراءة، حسب السياق وحسب معرفتك كناطق بتلك اللغة. من الناحية العملية، لا يمكنك أن تنطق شيئا مكتوبا «بالأبجدية الفينيقية» إلا إذا كنت فينيقيا. بالإضافة إلى ذلك فإن القلة الشديدة للعلامات - اثنان وعشرون أو خمس وعشرون علامة - زادت من الغموض بصورة هائلة؛ فالكتابات السامية الغربية القديمة، رغم كونها مكتملة ومقروءة، عادة ما تكون غير مفهومة.
انتمت «الأبجدية الفينيقية» إلى نوع من الكتابة يسمى بالكتابة السامية الغربية، التي كان لها أنماط ظاهرية عدة أطلق عليها الباحثون الأوغاريتية (انظر شكل
ناپیژندل شوی مخ