وتعني «[مستترة] في سمنة مترفة» في سياقات أخرى (بتشكيلات مختلفة على الحروف)، أن تعني «وسط الجماهير الغفيرة»! بل يبدو الأمر وكأن العبارة نفسها تتبدل، عبر سلسلة من الخطوات العقلانية، من «في سمنة مترفة» عن طريق تعبيرات وسيطة إلى «لقد أتى إلى أرض الغرباء» (allôn eksiketo dêmôn) . إن الصيغ المدبجة والتعبيرات المصاغة، التي هي دليل باري على أن هوميروس كان شاعرا شفاهيا مماثلا «لجوسلاري» البلقان، لا يمكن تعريفها في ذاتها. فضلا عن ذلك، فإن الكلام العادي، مع أننا لا نستطيع أن نصفه بأنه موزون، يتألف بدرجة كبيرة من عبارات جاهزة يصعب تمييزها عن صيغ هوميروس المدبجة، «أترون ما أعنيه؟»
لقد ثبت أن العمل على تحديد الصيغة المدبجة لا يجدي نفعا. فمن الواضح أن حقائق الصفحة المطبوعة، التي يعمل عليها علماء فقه اللغة، ببساطة ليست هي نفسها حقائق الكلام البشري. فالصيغة المدبجة المراوغة، التي تبدو للوهلة الأولى واضحة، كعبارة «آخيل ذو القدمين السريعتين» مثلا، ثم تنحرف تدريجيا عن سياقها، هي فحسب تسلك المسلك ذاته الذي تسلكه «الكلمات» في الكلام العادي، والتي تراوغنا حدودها الفعلية وتعريفاتها أيضا، ومع ذلك نستخدمها بسهولة تامة. إننا ندرك أن سعينا لفهم الشعر الهوميري هو أيضا سعي لفهم الكلام البشري، إلا أنه لا أحد يدرك، أو لا أحد لديه نظريات مقنعة بشأن الكيفية التي يعمل بها الكلام؛ فهو قدرة بشرية غريزية.
أيا ما كانت التفاصيل، لا يمكننا أن نشك في أن هوميروس كان يتحدث لغة متميزة لها مفرداتها وإيقاعها ووحدات المعنى الخاصة بها، مماثلة للكلام العادي بيد أنها مغايرة له. وقد أظهرت أبحاث علمية حديثة كيف أن أنماط الكلام، وليست أنماط التعبير المكتوب، توضح الأسلوب الهوميري أفضل توضيح. لقد أنتج هوميروس شعره، بطريقة ما، في إطار قواعد وقيود وإمكانات هذه اللغة المتميزة. طبقا لمماثلة باري، فلا بد وأن الخطاب في «اللغة اليونانية الهوميرية»، بأشكاله الغريبة ومزيج لهجاته، قد اكتسب عن طريق الاستيعاب وكأنه لغة عادية، من قبل شخص شاب عن شخص أكبر سنا. امتلك الخطاب الهوميري إيقاعا متأصلا، نظما كان المغني يشعر به ولكنه لم يكن يفهمه بطريقة واعية. فعندما ينشد المغني، فإنه يتكلم بهذه اللغة المتميزة، التي لم تكن وحداتها «كلمات» وإنما «صيغ مدبجة»، على الأقل في كثير من الأوقات.
إن القول إن أسلوب الصياغة النمطية يحد من قدرة الشاعر على التعبير هو بالتالي كالقول إن الكلمات تحد مما يمكننا قوله. فالإيقاع يدفع السرد، واستقرت الكلمات ومجموعات الكلمات في مواضع معينة في الإيقاع، الذي عادة ما ينقطع في مواضع معينة، بخاصة في التفعيلة الثالثة. وتنسجم مجموعات الكلمات، أو الصيغ المدبجة، على نحو جيد قبل وبعد هذا الانقطاع حتى يتسنى لأبيات كثيرة أن تشكل نفسها، إذا جاز التعبير، ما إن تستوعب أسلوب مجموعات الكلمات. ومن ثم يمكن للمرء أن يتحدث بهذه اللغة. وسوف يفهمك اليونانيون الآخرون، رغم أنهم لا يستطيعون هم أنفسهم التحدث بهذه اللغة؛ فالناطقون المعاصرون باللغة الإنجليزية يستطيعون، إذا ما درسوا مسرحيات شكسبير، أن يتابعوا معظمها، ولكن ليس كلها، على خشبة المسرح وهم لا يتحدثون الإنجليزية بهذه الطريقة. إن شكسبير ليس شاعرا شفاهيا، ولكن العلاقة بين لغة المؤدي ولغة جمهوره المعاصر تشبه العلاقة بين لغة هوميروس ولغة جمهوره من القدماء.
أظهر وولف كيف أنه لم يكن من الممكن لهوميروس أن يصوغ «الإلياذة» و«الأوديسة»؛ لأنه عاش في عالم خلا من الكتابة وأن وحدها الكتابة هي التي جعلت نظم القصائد ممكنا. وأظهر باري كيف أنه كان من الممكن جدا لهوميروس أن يصوغ قصائده دون الاستعانة بالكتابة، مثلما فعل «الجوسلاري». لقد أثبت أسلوب هوميروس في الصياغة النمطية أنه كان شاعرا شفاهيا، ووريثا لتراث مديد من نظم الشعر الشفاهي. أصر باري ولورد على نشأة القصائد الهوميرية عبر الكلام المملى، ولكن كيف كان هذا ممكنا، إذا لم يكن ثمة كتابة في عالم هوميروس؟ لم يتناول باري ولا لورد هذه المسألة أبدا. (6) الملحمتان الهوميريتان في السياق: الخلفية التقنية والتاريخية لصياغة النصوص الأولى
أدت تقنية الأبجدية اليونانية، تلك التقنية الثورية الاستثنائية التي غيرت مجرى التاريخ، إلى جعل النصوص الهوميرية ممكنة؛ إذ كانت الأبجدية اليونانية هي أول نظام للكتابة يسمح بإعادة إنشاء تقريبية لجرس الصوت البشري. وفي السنوات الأخيرة علمنا الكثير عن نشأة هذه التقنية. رغم طولهما وما تطلباه من جهد مضن، يبدو أن «الإلياذة» و«الأوديسة» كانتا أول نصوص مكتوبة في الأبجدية اليونانية، حسب علمنا، بيد أن نصوصا معقدة كهذه لم تظهر من العدم أو دون سوابق تاريخية واضحة. وعلى الرغم من أن غالبية المعلومات المباشرة عن هذه السوابق قد فقدت، يمكننا أن نستخلص الكثير عبر الدراسة المقارنة وعبر شهادات شحيحة ومتفرقة.
لا شك أن النصوص الأقدم «للإلياذة» و«للأوديسة» كتبت بالرموز على البردي، طبقا للممارسة السائدة في شرق البحر المتوسط التي يستند إليها النموذج اليوناني (ونادرا أو في أحيان قليلة على جلود باهظة الثمن). كان البردي اختراعا مصريا يعود إلى حوالي عام 3200 قبل الميلاد، وكان يصنع من شرائح من أحد نباتات المستنقعات وتدق معا بزوايا قائمة، ثم تقطع إلى مربعات وتلصق من أطرافها (قارن شكل
1-3 ). في العصر البطلمي (323-30 قبل الميلاد) كان إنتاج البردي حكرا على الملك ولعله كان كذلك دوما؛ فكلمة «بردي» تبدو مشتقة من عبارة «ما هو في بيت [الملك]» (أي: ما هو ملكي) باللغة المصرية القديمة.
عندما نتأمل الكتابة القديمة، نجد أنه كان يوجد محيطان؛ المصريون الذين كانوا يستخدمون البردي ومريدوهم الثقافيون على الساحل الشرقي للبحر المتوسط، وسكان بلاد ما بين النهرين الذين كانوا يستخدمون الطين، الذين كان لديهم الثقافة الأقدم والعالمية بحق. ينبع التقليد النصي (لا الفكري) للقصائد الهوميرية من المحيط المصري. يتميز البردي بالمرونة، وسهولة التخزين، وقوة التحمل، وإمكانية نقله، ووفرته، وإلى حد ما يمكن إعادة استخدامه. وفي المقابل، كان الطين في العصر البرونزي هو الوسيلة المعتادة للكتابة خارج محور مصر/بلاد الشام (أعني ببلاد الشام كنعان وسوريا، هذا الشريط من الأرض الممتد من فينيقية الشمالية إلى غزة، ثم داخليا إلى وادي البقاع في الشمال الذي تحيط به سلال جبال لبنان وجبال لبنان الشرقية وإلى صحراء النجف في الجنوب). وقد نقشت آداب بلاد ما بين النهرين الخاصة بالسومريين والأكديين الساميين (الألفية الثالثة قبل الميلاد)، والبابليين (الألفية الثانية قبل الميلاد)، والآشوريين (الألفية الأولى قبل الميلاد)، والأدب الأناضولي للحيثيين الهندو-أوروبيين (الألفية الثانية قبل الميلاد) جميعها على الألواح الطينية. كذلك استخدم الكريتيون في العصر البرونزي الطين. كان الطين متعدد الاستعمالات، ومتاحا بأي مكان، ولا يكلف شيئا، وإذا سخنته بالنار يمكن أن يدوم للأبد، بيد أن الطين ليس مناسبا لتدوين قصائد بالغة الطول. فملحمة «جلجامش»، التي تعد بكل المقاييس أطول عمل أدبي ظل باقيا من ثلاثة آلاف عام من حضارة بلاد ما بين النهرين التي كانت تعرف القراءة والكتابة، والتي لها أهمية عظيمة لفهم نشأة القصائد الهوميرية، يوازي طولها حوالي ثلاثة كتب من «الإلياذة». وعلى الرغم من أن نسخة طويلة من ملحمة «جلجامش» باقية من المحفوظات الآشورية في مدينة نينوى، التي دمرت سنة 612 قبل الميلاد، نقشت على اثني عشر لوحا، فإن معظم الأعمال الأدبية لبلاد ما بين النهرين مصممة لكي تكون ملائمة لأن تكتب على لوح واحد؛ ومن ثم فإن نسق الكتابة المسمارية له دور مهم فيما يتعلق بقالب الأعمال الأدبية وقصرها.
كانت النصوص السحرية المصرية تنقش على البردي في أعمدة رأسية ضيقة تمتد بلا كلل من أعلى إلى أسفل، ومن اليمين إلى اليسار. أما النصوص المصرية العادية فكانت تكتب في صفوف أفقية منسقة في أعمدة واسعة تقرأ من اليمين إلى اليسار، وهو ما يعد سلف الصفحة المطبوعة الحديثة. وكذلك كتب ورثة هذا التقليد في الكتابة، بمن في ذلك العبرانيون الساميون، من اليمين إلى اليسار في أعمدة واسعة. فكنت تمسك رق أو لفيفة البردي بيدك اليسرى وتفرده من أسفل الرق بيدك اليمنى. وكان المصري يجلس على الأرض، ويفرد إزاره المصنوع من الكتان ويشده بين فخذيه المنبسطتين، وكاحليه المتقاطعين، ويستخدم سطح الإزار كدعامة للبردية وهو يكتب عليها بريشة قلم، أو يقرأ منها. في اليونان لم تكن الطبقة المثقفة ترتدي إزارا، ولكنهم كانوا يجلسون على مقاعد، حيث كانوا، مع ذلك، يفردون البردي عبر ركبتيهم؛ إذ لم يكن يوجد مناضد للكتابة في العالم القديم.
ناپیژندل شوی مخ