مقدمة الطبعة الثانية
لاقى مطمحي في الطبعة الأولى لتقديم لمحة عامة سريعة للدراسات الهوميرية والقصائد الهوميرية نجاحا طيبا، إلى حد أنني أرغب في هذه الطبعة الثانية - متبعا اقتراحات القراء - أن أتوسع توسعا معتدلا في عدة اتجاهات. لقد أضفت خرائط إضافية، وحدثت قائمة المصادر، وأدمجت مسردا للمصطلحات في الفهرس. وأضفت قسما جديدا عن كيفية تلقي القصائد الهوميرية في العصور القديمة، بالإضافة إلى استعراض للاكتشافات الجديدة في طروادة. كذلك توسعت في معالجتي للنظرية الشفاهية، وأضفت تعليقات على المقومات الأدبية للقصائد، وأدخلت أكثر من عشرين صورة فوتوغرافية. ولا تزال الطبعة الثانية تحتفظ بسلاسة وإيجاز الطبعة الأولى، ذلك ما آمل، وآمل كذلك أنها سوف تظل بمثابة مقدمة مناسبة لمبحث الدراسات الهوميرية الشاسع.
أود أن أشكر زميلي ويليام أيلوارد، الذي نقب في موضوع طروادة وقدم لي الكثير من الآراء المتبصرة لهذه الطبعة حول هوميروس وصلته بالتاريخ.
مقدمة
عندما أذكر «هوميروس» و«القصائد الهوميرية»، فإنني في هذا الكتاب أعني ملحمتي «الإلياذة» و«الأوديسة» المنسوبتين إلى هوميروس منذ أقدم العصور. هل كان هذا الشاعر حقا يدعى هوميروس؟ هل كان له وجود من الأساس؟ لا شك في أن ثمة قصائد ليست من نسج قريحة مؤلف «الإلياذة» و«الأوديسة» ونسبت إلى «هوميروس» إبان الحقبة الكلاسيكية (انظر التسلسل الزمني)، ولكنها كانت في مرحلة زمنية متأخرة. ومثل هذه الإسنادات الباطلة تعد شهادة بمكانة «الإلياذة» و«الأوديسة» في الحقبة الكلاسيكية. لا بد وأن اسم «هوميروس» له مصدر ما، والأغلب الأعم أنه بسبب أنه كان اسم شاعر شهير. تعني كلمة
homeros
اليونانية «رهين»، وقد بحث كثيرون عن دلائل في ذلك الشأن، أو التمسوا تفسيرات خيالية لاسم هوميروس. بيد أن هذه الأناشيد لم تظهر من العدم، ولم تتبلور من تراث تقليدي: فثمة شخص أنشدها. فالشعراء هم من ينظمون القصائد. فهل نسي اسم ذلك المنشد العظيم إلى الأبد، ثم سرعان ما استبدل باسم «هوميروس» الغامض؟ ومن الجائز أن اسم الشاعر الذي أنشد هذه الأناشيد كان في الحقيقة هوميروس، مثلما كان الجميع يرددون دوما.
إن السكوت الممنهج اللافت في «الأوديسة» عن وقائع رويت في «الإلياذة»، ولم تتكرر مطلقا في «الأوديسة»، والجهود الجلية في «الأوديسة» لاستكمال قصة حرب طروادة يوضحان أن منشد «الأوديسة» عرف «الإلياذة» التي بين أيدينا معرفة وثيقة تفصيلية؛ فعلى سبيل المثال، تتضمن «الأوديسة» قصة حصان طروادة وتصف جنازة آخيل. لا بد وأن نفس الشاعر، وهو هوميروس، قد أنشد القصيدتين، على الرغم من طرح المعلقين منذ العصور القديمة تساؤلات حول هذا الأمر؛ ومع ذلك لم يكن ثمة طريقة أخرى من الممكن أن يعرف بها شاعر «الأوديسة» نص «الإلياذة» تلك المعرفة المتقنة. فلم يكن ثمة مكتبات في زمن هوميروس ولا جمهور قراء. بل إنه في القرن الخامس قبل الميلاد لم يمتلك إلا قلة من الناس نسخا كاملة من القصائد. ولم يكن ممكنا للمنشدين المحترفين، أمثال هوميروس، أن يكونوا قارئين تحت أي ظرف من الظروف؛ فالمنشدون المحترفون لا يتحاشون تكرار عناصر أو أفعال استخدمها شاعر آخر في قصيدة عن موضوع ذي صلة؛ بل كانوا يفعلون العكس! وحده طرح مؤلف واحد يمكن أن يفسر السبب في أن «الأوديسة» تكمل التقاليد الواردة في «الإلياذة» ولا تكررها.
لا تعد «الإلياذة» و«الأوديسة» أقدم الأعمال الأدبية الباقية في التراث الأبجدي الغربي الإغريقي فحسب، ولكنها تعد، مع قصائد هيسيود، أقدم الأعمال الكاملة للكتابة الأبجدية من أي نوع. فيكاد لا يوجد أي شيء باق (عدا شذرات) بين هذه القصائد، التي تظهر في فجر الإلمام بالأبجدية الإغريقية، وبين الإنتاج الأدبي الغزير الذي اتسمت به أثينا في القرن الخامس قبل الميلاد. فلماذا لم تنج «الإلياذة» و«الأوديسة» فحسب، بل أصبحت تمثل الكلاسيكيات الأدبية الأساسية للحضارة الغربية؟ كيف صارت أدبا كلاسيكيا ولماذا؟ ما حل هذا اللغز؟
علينا أن نتوقف لبرهة ونتساءل: ما «الإلياذة» وما «الأوديسة»؟ في المقام الأول، إنهما ينتميان إلى ما يطلق عليه «نصوص»، وهي أشياء مادية ملموسة قابلة للفساد، والتحلل، والتغيير المتعمد، ولها تاريخ في العالم المادي. هما «أشياء» وهو ما ننساه عندما نفكر في خصائصهما من الناحية الأدبية. نريد أن نعرف كيف ظهرت هذه النصوص للوجود وأين، ولماذا، ومتى. هذا هو مبحث «ملحمتا هوميروس عند علماء فقه اللغة»، الذين يريدون أن يعرفوا الحال الذي كان يبدو عليه أول نص، وعلام كان ينص. يبحث علماء فقه اللغة في شأن ملحمتي هوميروس من الناحية المادية حيث للرموز على الورق أشكال معينة يمكن تفسيرها بطرق شتى.
ناپیژندل شوی مخ