أَمَا والذي حجَّ الملبُّون بيتَهُ ... وعلمَّ أيَّامَ الذبائح والنَّحْرِ
لقد زادني للغَمْر حُبًّا وأهلِهليالٍ أقامتهن ليلى على الغمْر
فهل يأثُمَنِّي الله في أنْ ذكرتها ... وعَّللْت أصحابي بها ليلة النَّفْر
وسكَّنْتُ ما بي من ملال ومن كَرَى ... وما بالمطايا من جُنُوحٍ ومن فَتْرِ
وأنشد أبو القاسم في هذا الباب:
رَضِيَعيْ لِبَانِ ثَدْيِ أمٍّ تَحالفًا ... بأسْحَم دَاجٍ عَوْضُ لاَ نَتَفرَّقُ
هذا البيت: لأعشى بكر، وقد ذكرنا اسمه فيما تقدم.
وهو من شعر يمدح به المحلق بن جشم، الكلابي، واسمه عبد العزيز وسمي المحلق؛ لأن بعيرا عضه في وجهه، فصار فيه كالحلقة.
وقيل: بل كوى نفسه بكية تشبه الحلقة.
وكان خامل الذكر ل اصيت له، وكان له بنات لا يخطبهن أحد: رغبةً عنهن، فمر به الأعشى، فنحر له ناقة، لم يكن له غيرها، وأطعمه وسقاه، فلما أصبح الأعشى قال له: ألك حاجة؟ قال: نعم! - تشيد ذكرى، فلعلني أشهر، ويرغب في بناتي، فنهض الأعشى إلى عكاظ وأنشد هذه القصيدة، فلم يمس حتى خطبت إليه جميع بناته!! وقبل هذا البيت:
لَعَمْرِي لَقْد لاَحَتْ عيونٌ كَثيرةٌ ... إلى ضوء نار باليَفَاع تَحرَّقُ
تشب لمقْرُرَيْن يصْطَليَانِها ... وباتَ على النّار النّدى والمحلَّقُ
ترى الجودَ يجري ظاهرًا فوق وجهه ... كما زَانَ مْتنَ الهندوانيّ روَنقُ
وإنما ذكر النار والمحالفة؛ لأنهم كانوا يتحالفون على النار، وجعل الندى والمحلق كأخوين رضعا لبانًا واحدًا، من ثدي أم واحدة؛ مبالغة في وصفه بالكرم، وذكر أنهما تحالفا وتعاقدا ألا يفترقا أبدًا، كما قال الآخر:
وإنّ خَلِيليْك السّماحةَ والنَّدى ... مقيمان بالمعروف ما دمتَ تُوجَدُ
وعوض ضم كان لبكر بن وائل، وقيل: هو اسم من أسماء الدهر، وزعم المازني: أنه يضم ويفتح ويكسر، وأصله: أن ما كان من أسماء الدهر أن يكون ظرفًا، كقولهم: لا آتيك عوض العائضين، كما يقال: دهر الداهرين، ثم كثر حتى أجراه مجرى أدوات القسم.
وفي قوله: بأسحم داج سبعة أقوال: ١ - قيل: هو الرماد، وكانوا يحلفون به كما يحلفون بالنار، قال الشاعر:
حلفتُ بالملح والرَّماد والنَّار ... وبالله نُسْلِمُ الحَلقَة
حتى يَظلّ الجوادُ مُنْعَفِرًا ... ويخْضِب النَّبلُ غُرَّة الدَّرَقة
٢ - وقيل: أراد الليل.
٣ - وقيل: أراد الرحم.
٤ - وقيل: أراد الدم؛ لنهم كانوا يغمسون أيديهم فيه إذا تحالفوا، حكى هذه الأقوال الأربعة يعقوب.
٥ - وقال غيره: يعني حلمة الثدي.
٦ - وقيل: يعني زق الخمر.
٧ - وقيل: يعني دماء الذبائح التي كانت تذبح للأصنام.
وجعله أسحم لأنه إذا يبس اسود، وهذا نحو قول النابغة:
وَمَا هُريق على الأَنْصَابِ مِنْ جَسَدٍ.
وأبعد هذه الأقوال؛ قول من قال: إنه أراد الرماد؛ لأن الرماد لا يوصف بأنه أسحم ولا داج وإنما يوصف بأنه أزرق.
وأما الدم فقد وصفه الطرماح بالسواد في قوله يصف ثورًا
فبات يقاسي ليل أَنْقد دائبا ... ويحدُرُ بالقفِّ اختلاف العُجَاهنِ
كطوف مُتلى حجة بين غبغبٍ ... وَقرٍّ مسود من النُّسكِ فاتِنِ
وقوله: تشب: أي توقد، والمقرور الذي أصابه القر، وهو البرد وخصه، لأنه يشعل النار لشدة حاجته إليها.
ومعنى لاحت نظرت وتشوفت إلى هذه النار، حكى الفراء: لحت الشئ إذا نظرته، وأنشد:
وأحمر من ضرب دار الملوك ... تَلُوحُ على وَجهه جعفرا
بالتاء على الخطاب - وقال معناه تنظر على وجهه جعفرا.
وجعل النار في يفاع، لأنه أشهر لها، ولأنها إذا كانت في يفاع - وهو الموضع المرتفع - أصابتها الرياح فاشتعلت.
وأما الإعراب: فإن قوله: رضيعي ينصب على أربعة أوجه: - إن شئت كان حالا، وقوله: على النار خبر بات: - وإن شئت جعلت رضيعي خبر بات وعلى النار في موضع الحال.
- وإن شئت كانا خبرين.
- وإن شئت نصبت رضيعي على المدح
1 / 17