إذن، فمن ابن أبي ربيعة من بين المحبين؟ وما شعره من بين أنواع النسيب؟
ابن أبي ربيعة! أليس هو ذلك الرجل الذي ألحظه في أعطاف الماضي، وأنظره في ثنايا الزمن، فأرى فيه التيه والدل، والفخر والأبهة؟ أليس هو الذي يبدو على قدم العهد وكأنه الزهرة الناضرة، أو الابتسامة الحائرة؟ ما لي أراه هكذا مفتونا بشبابه، مغرورا بجماله؟ وما بال النساء يشرقن من حوله، ويطلعن عليه، فما يملكن قلبه، ولا يأسرن فؤاده؟
بلى إنه رجل خليع، وفاتن المنظر أخاذ؛ فلا بد أن يكون شعره كذلك فاتنا أخاذا. وضاحك الثغر بسام؛ فيجب أن يكون شعره كذلك ضاحكا بساما، فإنما الشعر صورة النفس، وتمثال الفؤاد.
ألا فليخل شعره من التوجع، وليسلم نسيبه من الجزع، وليترك الهم لقوم سواه، فما كان بالمحزون ولا المهموم!
علام يصف الليل فيشكو كواكبه البطيئة، ونجومه المشكولة، وفجره المفقود؟ وما كان الرجل في التفاف النساء حوله، وإقبالهن عليه، بالذي يضج منه السرير لبعد الأنيس، أو تسأم منه الحجرات لفقد السمير؛ فلقد كانت تعده المرأة بالزيارة في جنح الليل، فلا تكاد تصل إلى منزله، تحتى تجد غيرها قد سبقتها إليه، فتعود آسفة حزينة.
علام يشكو البين، وما روعه نذير بالفراق إلا بشره بشير بالتلاق؟ أم كيف يبكيه الوداع، وهو الذي ما شيع حبيبا، إلا استقبل حبيبا، ولا غابت عنه شمس، إلا أشرقت عليه شمس؟
ألا فليذكر الليل الطويل جميل، وليحزن من البين المشت كثير، ثم ليتركوا ابن أبي ربيعة بين الشموس السواطع، والبدور الطوالع، وإنه من بينهم لسعيد.
لم يكن ابن أبي ربيعة ممن إذا غاب عنه حبيب، أخذ في الحنين إليه والبكاء عليه، تلك سبيل الشعراء المفجعين الذين كانت قلوبهم أعوانا للدهر عليهم، وكانت نفوسهم أخصاما لهم، أولئك هم المعوزون في عالم المحبة، والمحرومون في دولة الصبابة، أولئك الذين يرون الجمال ظلا ظليلا، ثم لا يستطيعون أن يتفيئوا ما له من وارف الظلال، أولئك الذين يحسدون الغلائل على الأعطاف، والعقود في النحور. وكيف يكون ابن أبي ربيعة مثلهم مسكينا في شعره، وما كان مسكينا في حبه؟ أم كيف يصف البكاء والمدامع، وما ألمت نفسه، ولا دمعت عينه؟ بعدا للذلة حتى في الحب! وتبا للمسكنة حتى في الغرام!
ولكن عذرناكم جماعة المؤلفين الذين يوجبون الذل في النسيب؛ عذرناكم لأن المحبين جميعا أذلاء؛ ولأن أمثال ابن أبي ربيعة في الحب قليل، عذرناكم لأنا لا نجد مفرا من هذه الذلة، ولا محيصا عن هذه المسكنة؛ ولأن الله في رحمته لم يشأ أن يجعلها ذلة خالصة، بل شابها بنوع من الحرية، وقسط من الاختيار، يتمثل في إقبالنا على الحسن، إقبال الساري على القمر، والصادي على النهر.
نعم عذرنا المؤلفين في تلك القيود التي وضعوها في النسيب؛ لأنهم ظنوا أن الناس جميعا يعرفون منه ما يعرفون، ويفهمونه كما يفهمون. ولكن، فلنرحم أنفسنا من اتباعهم والسير في آثارهم، ولنجر على سنن الكون وطبائع الحياة، فيما نصدر من الأحكام، وما نبدي من الآراء.
ناپیژندل شوی مخ