واعلم أنك إن كنت مستغنيا عنه بتنسكك، فإن غيرك ممن يترخص فيما تشددت فيه محتاج إليه، وأن الكتاب لم يعمل لك دون غيرك فيهيأ على ظاهر محبتك، ولو وقع فيه توقي المتزمتين لذهب شطر بهائه وشطر مائه، ولأعرض عنه من أحببنا أن يقبل عليه معك.
وإنما مثل هذا الكتاب مثل المائدة تختلف فيها مذاقات الطعوم لاختلاف شهوات الآكلين، وإذا مر بك حديث فيه إفصاح بذكر عورة أو فرج أو فاحشة، فلا يحملنك الخشوع أو التخاشع على أن تصعر خدك وتعرض بوجهك، فإن أسماء الأعضاء لا تؤثم، وإنما المأثم في شتم الأعراض وقول الزور والكذب، وأكل لحوم الناس بالغيب، قال رسول الله
صلى الله عليه وسلم «من تعزى بعزاء أهل الجاهلية، فأعضوه بهن أبيه ولا تكنوا.» وقال أبوبكر الصديق رضي الله عنه لبديل بن ورقاء حين قال للنبي
صلى الله عليه وسلم
إن هؤلاء لو قد مسهم حز السلاح لأسلموك: «اعضض ببظر اللات، أنحن نسلمه؟» وقال علي بن أبي طالب صلوات الله عليه: «من يطل أير أبيه ينتطق به.» وقال الشاعر في هذا المعنى بعينه:
فلو شاء ربي كان أير أبيكم
طويلا كأير الحارث بن سدوس
قال الأصمعي: كان للحارث بن سدوس أحد وعشرون ذكرا. وقيل للشعبي: إن هذا لا يجيء في القياس، فقال: أير في القياس، الولد ذكر.
وليس هذا من شكل ما تراه في شعر جرير والفرزدق؛ لأن ذلك تعيير وابتهار في الأخوات والأمهات، وقذف للمحصنات الغافلات، فتفهم الأمرين وافرق بين الجنسين، ولم أترخص لك في إرسال اللسان بالرفث على أن تجعله هجيراك على كل حال، وديدنك في كل مقال، بل الترخص مني فيه عند حكاية تحكيها أو رواية ترويها، تنقصها الكناية ويذهب بحلاوتها التعريض، وأحببت أن تجري في القليل من هذا على عادة السلف الصالح في إرسال النفس على السجية، والرغبة بها عن لبسه الرياء والتصنع، ولا تستشعر أن القوم قارفوا وتنزهت، وثلموا أديانهم وتورعت.
ومن هذه الكلمة نرى ابن قتيبة يقيد الأدب المكشوف بقيد واحد؛ هو أن لا يكون «تعييرا وابتهارا في الأخوات والأمهات، وقذفا للمحصنات الغافلات.» ونراه ينهى عن أن يكون ذلك النوع ديدن الكاتب وهجيراه، ويحصره في المواطن التي تنقصها الكناية، ويذهب بحلاوتها التعريض، وكذلك يرى اليوم أنصار الأدب المكشوف، فهم لا يريدون أن يفرغوا للهزل والعبث، وإنما يريدون أن يعطوا كل مقام حقه من الحلاوة والمرارة، أو الشدة واللين. •••
ناپیژندل شوی مخ