من وراء الباب جاءت نحنحة رجل آخر، ومن أعماق الظلمة انفتح الباب، اندفعت الرائحة تؤلم غشاء الأنف، ظهرت شعلة صغيرة تهتز في يد كبيرة، وصوت متحشرج يخرج من الحلق: «ادخلي يا مره.»
واقفة في مكانها لا شيء فيها يتحرك إلا عنقها، يلتوي إلى أعلى نحو السماء، تبحث عن الهواء، من فوق كتفها الحزام تشده كأنما تشد ذاكرتها من الظلمة، كيف جاءت إلى هنا؟
ارتفع صوته أكثر: «ألا تسمعين الكلام؟»
حركت قدميها ودخلت، اجتازت عتبة منخفضة مألوفة الشكل، لكن البيت كان يهتز تحت قدميها كأنما هو مركب، انغلق الباب من خلفها فاستدارت، لم يكن الرجل ذو النمش الأسود هناك، وسمعت صوت المجداف يتحرك مبتعدا، انخرط الرجل في سعال متقطع ثم تمخط بصوت عال، تراجعت إلى الوراء خطوة، بدت في فزعها كأنما ترتد إلى الطفولة، وانطلقت من فمها صرخة، والضوء شاحب لا تكاد ترى شيئا، دعكت بطرف أصبعها عينها، الغرفة عارية من الأثاث والمقعد ثابت في الأرض، ساورها الشك، ألم تغادر قط مكانها؟ - اخلعي ملابسك.
لم يعد صوته غريبا على أذنيها، صوت الريح يضرب النافذة، خيوط من السائل الأسود تزحف من تحت عقب الباب، قطرات سوداء كالمطر تتساقط من السقف.
لم تكن في حقيقة الأمر نافذة، مجرد ألواح من الخشب، والأرض لم تكن أرضا، وإنما هي الألواح تئن تحت قدميها مثل القطط المريضة، تند عنها بلولة كالعرق يلتصق بكعب حذائها، أو بطن قدميها إذا خلعت الحذاء. - الرائحة غير محتملة؟
وضعت المنديل فوق أنفها وأغمضت عينيها، صوته متحشرج بعيد، كأنما يأتي من العالم الآخر، جالس فوق مقعده الخشبي، لا ترى منه إلا قدميه وركبتيه داخل المنامة، نصفه الأعلى يختفي وراء الصحيفة، حروف سوداء من الرصاص، السطر وراء السطر، مصبوبة في خطوط أفقية دقيقة. - مطلوب باحثون بقسم الحفريات. •••
دقت الطلب على الآلة الكاتبة، ملأت خانة الاسم والسن، والديانة، وفي خانة الجنس دقت أربعة حروف «أنثى»، رمقها رئيس القسم بعيون متسعة. - هذا القسم لا يقبل إلا الذكور، فالعمل غير ملائم. أعني حفر الأرض. - كانت خالتي تحفر الأرض، وأمي كانت أيضا تحفر الأرض، وتزرع و... - الحفريات شيء آخر، أعني البحث عن الآلهة في بطن الأرض. - الآلهة في السماء، أليس كذلك؟ - لكن هناك آلهة أخرى، ألم تقرئي شيئا عن الحفريات؟!
انتبهت إلى شيء يزحف تحت قدمها، أصبع ناعم طويل يشبه ذيل الثعبان، يلتوي وينثني ويحفر لنفسه طريقا هابطا من السقف، سرسوب من السائل الأسود، تجمعت حوله جيوش من النمل والأبراص والسحالي، وصراصير تشبه الخنافس لها أجنحة ترفرف فيما يشبه المرح.
سمعت صوته من وراء الصحيفة، كان يكلم نفسه، أو يقرأ أحد المانشيتات بصوت مسموع، دبت بعض الحركة في الغرفة الغارقة في الظلمة، أشاعت بعض البهجة تلك الأجنحة الصغيرة، ترفرف حول ذؤابة الضوء، مدت ساقيها فوق مقعد منخفض، قدماها متورمتان من طول السير، حقيبتها فوق كتفها تتدلى من الحزام، والإزميل داخل الحقيبة بطبيعة الحال، عيناها تحملقان حولها تستكشف المكان، فوق الجدار الأسود رأتها مرة أخرى، السحلية السوداء أو الحرباء، رمقتها بعينين صغيرتين، أصبحت بينهما ألفة.
ناپیژندل شوی مخ