وحب الوجدان هو الحب الفهيم البصير.
وهناك نوعان من السعادة، كما أن هناك نوعين من الحب؛ فإن سعادة الغرائز هي سرور زائل، كما نجد في لذة الأكل أو الشرب، وهو سرور عاطفي، ما هو أن نشبع حتى ينطفئ، ولكن السعادة القيمة هي ثمرة الوجدان والتعقل، وكذلك الشأن في الحب العاطفي الذي ينشأ من أول نظرة؛ إذ هو شرور زائل، ولكن الحب الوجداني الذي تعتمد فيه على التعقل والتبصر ووزن القيم البشرية، هو أكثر من السرور، هو سعادة مقيمة.
وهناك خطأ شائع هو أن الحب بين محبين إنما يرجع إلى الغريزة الجنسية لا أكثر. وهذا التباس يحتاج إلى بعض التحليل؛ فإن الاشتهاء يرافق الحب، ولكنه ليس أصله، بل يحدث أحيانا أننا عندما نحب امرأة حبا عظيما فإننا نرفعها إلى مرتبة من الطهارة، ونسمو بجمالها إلى معاني من القداسة، بحيث تتقهقر الغريزة أمام هذه الاعتبارات.
ولكن الحب ينتمي إلى أصل آخر هو ذلك التعلق الذي نما في طفولتنا وربطنا بالأم، وهذا هو الذي يجعل في الحب حنانا ورقة ورحمة. ونحن حين نحب امرأة إنما في الواقع نحب صورة الأم في وجهها وقامتها وصوتها؛ لأننا قد نشأنا على أن نكبر من شأن الصفات التي تتحلى بها أمهاتنا.
وإذن يجب أن نقول: إن الحب العظيم ليس هو حب النظرة الأولى، حب العاطفة، وإنما هو حب التبصر، حب الوجدان والتعقل. ويجب أن نقول أيضا: إن الحب ليس هو الشهوة، وما في الحب بين رجل وامرأة من عظمة ومجد وجلال، إنما يرجع في صميمه إلى الصفات السامية التي نعزوها إلى أمهاتنا، وإلى أخلاق اجتماعية قد علمنا إياها المجتمع، وإلى عادات عائلية مارسناها في طفولتنا.
وإذن يجب أن نقول أيضا: إن الناس ليسوا سواء في القدرة على الحب، كما أنهم ليسوا سواء في القدرة على السعادة؛ لأن كليهما - الحب والسعادة - يتوقفان على مقدار ما عندنا من وجدان؛ أي تعقل، وعلى مقدار ما أحببنا أمهاتنا، وعلى مقدار ما كان عند أمهاتنا من صفات سامية.
وهناك فرق في الحب بين الرجل والمرأة؛ فإن حب الرجل يكاد يقتصر على المرأة؛ أي على زوجته، وحبه للأطفال ضعيف مشتت مبعثر؛ إذ هو مشغول بالكسب مختلط بالمجتمع أكثر من المرأة. لكن حب المرأة يختلط بأبنائها؛ ولذلك فإن الأمومة جزء خطير من الحب النسوي.
وأخيرا قد يسأل القارئ: هل يجب أن نهتم بالحب، ونؤلف عنه المؤلفات، نروي فيها تفاصيله وأساليبه بين محبين؟
والواقع أن الحياة أكبر من الحب، وأن الإنسان يستطيع أن يرصد حياته لعمل عظيم يستغرق كل عقله وقلبه وكل مجهوده؛ كأن يتوخى تحقيق مذهب، أو اختراع آلة، أو توجيه شعب إلى غاية، أو نحو ذلك، وهذا النشاط جدير بأن تؤلف عنه الكتب وتروى عن تفاصيله القصص.
ولكن الحب هو السعادة، أو هو أقرب شيء إلى السعادة، وفيه تتبلور أخلاقنا، وتبدو في جوهرها الأصيل، وهو؛ أي الحب، يربينا ويستنبط منا أسمى ما في أخلاقنا؛ ولذلك حين نروي قصة عن الحب إنما نروي أيضا أحسن ما في الطبيعة البشرية من خلال تحملنا جميعا على الإعجاب وعلى الإحساس بالسعادة.
ناپیژندل شوی مخ