ولكن طرق المحبين كثيرة؛ فقد أخذت هيلوئيز تخرج سرا إلى بيت تقطنه أخت أبيلار، فيلتقيان هناك. ولم تمض مدة حتى وضعت هيلوئيز ولدا ذكرا سمته - أو بالأحرى سماه أبوه - أسطرلاب، وهذه اللفظة اسم آلة كان يستعملها قدماء الفلكيين.
وعرف عمها خبر هذا الولد، فأراد أن ينتقم من هذا الرجل الذي ائتمنه على بنت أخيه فخانها في عرضها، وفضح البيت فضيحة أبدية. وأخيرا وجد أن أسلم الأعمال عاقبة أن يقترنا، فطلب إليهما ذلك. وكان أبيلار يرغب في أن يعيش عزبا لأنه كان ينوي أن يسلك في سلك الكهانة، فرضي بالزواج، ولكنه اشترط أن يكون سرا لا يذاع، ولكن هيلوئيز أبت أن تكون زوجته؛ خشية أن يذاع خبر هذا الزواج، فلا يرتقي أبيلار في الكنيسة. وجعلت تعارض عمها وحبيبها. ومما يؤثر عنها قولها: «إني أفضل أن أكون خليلتك عن أن أكون زوجة إمبراطور.»
ولكنها بعد أن بذلت كرامتها وعرضها فداء حبيبها، رضيت بعد الإلحاح أن تتزوج منه. وتم الزواج سرا، وعاد أبيلار إلى محاضراته العلمية، وعاد الناس إلى التقول والتخرص، فكانوا كلما التقوا بعمها عيروه وثلبوه، فساء هذا عمها، حتى باح بالسر، وأعلن أنهما متزوجان، فذهبوا يسألون هيلوئيز، فقالت: «لست زوجته، وما اقترن بي قط، وإنما يقول عمي ذلك ضنا بسمعته.»
فتحدوها إلى اليمين، وأحضروا لها الإنجيل، فلم تتأخر عن القسم بأنه ليس بينها وبين أبيلار زواج ما. وبلغ ذلك عمها، فأخذ يحرق الأرم غيظا وحنقا، وعاد فمنع الحبيبين من اللقاء، ففرت إلى دير قريب، فكان أبيلار يلقاها هناك، وكل منهما يبث الآخر سريرة نفسه.
وهنا ينبغي أن نتريث قليلا للمفاضلة بين الاثنين، فليس شك في أن هيلوئيز بذلت من نفسها أكثر مما بذل أبيلار؛ فقد سلمت نفسها إليه قبل الزواج، ثم رفضت أن تتزوج به عندما وجدت أن زواجه يؤخر ارتقاءه في المناصب العليا، ثم أنكرت زواجها ورضيت أن يقال عنها إنها خليلة.
كل ذلك فعلته هذه الفتاة النبيلة، مضحية بعرضها وكرامتها وسمعتها لأجل حبيبها. وأما هو فقد أصر أن يكون الزواج سرا مكتوما؛ حتى لا يمنعه هذا عن الارتقاء إلى المناصب العليا، فلم يكن الحب في نظره يساوي الرفعة والشهرة بالتفوق على الأقران.
وعرف العم أن أبيلار يلقاها في الدير، وأنه مصر على إخفاء أمر الزواج، فأراد أن ينتقم انتقاما سافلا تجبن دونه الأبالسة، فاكترى جملة رجال طغاة، ذهبوا إلى غرفته وهو نائم في جوف الليل، ورشوا خادمه ففتح لهم، وكانوا أربعة، قبض ثلاثة منهم على أبيلار وأوثقوه، وأخرج الرابع موسى جبهه بها، ثم تركوه غارقا في دمه، وهو يملأ الفضاء بصراخه وبكائه.
وشاع خبر هذه الجناية السافلة في باريس، فما جاء الصباح حتى هرع الناس إلى البيت. وكانت النساء يبكين كأنهن فقدن أزواجهن، ولكن أبيلار، وإن فقد ذكورته، فإنه لم يفقد رجولته، فما كاد أن يلتئم جرحه حتى استأجر هو الآخر بعضا من السفلة، تعقبوا الخادم وأحد الجانين فجبوهما، وقدمت القضية لمحكمة كنسية فعاقبت عم الفتاة بأن استصفت جميع أملاكه.
أما هيلوئيز فقد كانت نكبتها تجل عن الوصف؛ فإن حبيبها لما فقد ذكورته فقد أيضا حبه أو بالأحرى شهوته، فلما التقت به حبيبته طلب إليها أن تترك الدنيا وتدخل إلى أحد الأديار، وصرح لها بأنه لا يثق بأمانتها، فكان هذا التصريح أقصى ما صدمت به الفتاة في حياتها، وقد قالت بعد ذلك في خطاب إليه: «يعلم الله أني ما كنت أتردد أن أسبقك أو ألحقك إلى الدير.» ودخل هو ديرا آخر، وصار راهبا وأكب أبيلار من ذلك الوقت على خدمة العلم، دون أن يشغله شاغل الحب السابق، فجعل يكتب ويعلم، وفي كل ذلك يفضل سلطان العقل على سلطان الدين، ولكن الزمن لم يكن يؤاتيه على هذه الجرأة، وانعقد مجلس لمحاكمته، انتهى بأن أمر بإحراق كتبه، وهب الرهبان الذين كانوا معه في الدير، وكان هو رئيسهم، إلى الثورة، حتى طردوه.
وخرج أبيلار من الدير وهو كسير الخاطر مقهور النفس، فبنى لنفسه خصا من القصب والطين في سهل منفرد، ولكن تلاميذه سمعوا به، وسرعان ما رحلوا إليه، وبنوا حوله خصاصا ، وصاروا يتحلقون حوله كل يوم، يتلقون منه دروسه وآراءه في العلم والدين ، وبنى بعد ذلك بناء من الخشب والحجر سماه «الفارقليط» لا تزال رسومه وبعض أطلاله باقية للآن.
ناپیژندل شوی مخ