وهنا بدأت أطماعه تظهر، وصارت الأميرة صبيحة يتمزق قلبها غيظا من هذا الرجل الذي رفعته من أحط المراتب إلى أعلاها، وأتمنته على مستقبل ابنها فانقلب عليها يبغي إنكار ابنها وإزالته هو وأمه من الوجود!
ومما كان يقرح في صدرها ويسهدها ويروعها، أن ابن أبي عامر لم يكن ماكرا ذكيا فحسب، بل كان أيضا شجاعا محبوبا عند جميع أفراد الأمة؛ فقد كان يقود المسلمين بنفسه في حروبهم مع الإفرنج، وينتصر بحسن تدبيره وإحكام مكايده عليهم، حتى صار يسمونه المنصور، ونسي الناس اسمه القديم، وصار لا يعرف إلا بهذا الاسم.
وأخذ المنصور في تدبير أمره لكي يصل إلى الخلافة، فأخذ يرسل الأوامر وينفذ الرسائل، موقعة بتوقيعه دون ذكر للخليفة أو الأميرة. وشعرت الأميرة صبيحة بأفاعيل هذا الولي القديم، الذي قلبته المطامع فصار عدوا، فأخذت تحاربه سرا. وكانت خزانة الدولة في القصر، وبها نحو ستة ملايين دينار، فأخذت نحو 80 ألف دينار، وضعتها في جرار ملوثة بالعسل كي تزيل عنها الشكوك والشبه، وأنفذتها إلى الموالين لها في الأمصار والبلاد، حتى يخرجوا على المنصور، ويردوا السلطة إلى الخليفة.
وعلم المنصور بذلك فأخذ عددا كبيرا من أعيان الدولة، وذهبوا جميعا خفية إلى الخليفة القاصر، وجعلوه يقر ويوقع على أنه عاجز عن حكم الدولة، وأنه ليس له سيطرة أو سلطان، وأنه يرضى بنقل الخزانة إلى خارج القصر. وخرج المنصور وقد حصل على هذه الوثيقة، فحقق بذلك أطماعه القديمة، وصار حاكم البلاد الحقيقي، وذلك في سنة 387ه وذاع خبر هذه الوثيقة، ففرح الناس لأنهم كانوا يحبون المنصور. وكان أكثر ما يحببه إليهم شجاعته وفروسيته؛ فقد حارب الإفرنج 52 مرة، فاز عليهم فيها جميعا، وعاد منهم بالغنائم. ويحكى أنه سمع عن أمير إفرنجي حبس امرأة مسلمة، فحاربه وهزمه، حتى أجبره على أن يركع أمامه مستغفرا عن حبسه هذه المرأة، التي أخرجت من سجنها، وعوضت عما نالها فيه من الأذى.
وفي سنة 392ه خرج لكي يقمع فتنة بالقرب من مدينة سليم في ولاية قشتالة، فاستبسل العصاة وصمدوا له حتى أشكل عليه الأمر، ورأى من جيشه تثاقلا، فلم يكن منه إلا أن شهر سيفه، وتقدم بنفسه إلى صفوف العدو، والتحم بها، فابتعثت نجدته الحماسة في قلوب جنوده، فهبوا إلى الهجوم وانتصروا، ولكنه جرح جراحات بليغة مات بعدها بأيام.
فبكى عليه الأندلسيون، وعاشت صبيحة بعده ست سنوات؛ إذ ماتت سنة 398ه، ورأت ابنها خليفة مؤمرا بعد أن كان صورة لا قيمة له.
ابن زيدون وولادة
عاشت دول الإسلام في الأندلس (إسبانيا) من سنة 711ه إلى سنة 1492ه. وكان الأندلسيون عربا مسلمين من حيث اللغة والدين، ولكنهم كانوا آريين من حيث الدم والعنصر، ليس فيهم إلا القليل من الدم العربي.
وقد زكت الفنون والعلوم فيها حتى كان الأوروبيون ينحون إليها للتعلم في مدارسها، وظهر فيها عدد كبير من الفقهاء واللغويين والمؤرخين والشعراء والفلاسفة.
ويبدو من استقرار تاريخ الأندلسيين أن النساء لم يكن يخضعن للحجاب تمام الخضوع، كما كن يفعلن في الشرق، ولعل ذلك من أثر الجو البارد عليهن؛ لأن الحجاب وليد الجو الحار؛ فقد ذكر المؤرخون أن النساء كن يقعدن في ميادين قرطبة وغيرها، ويحترفن نسخ الكتب!
ناپیژندل شوی مخ