ليت شعري، أكان لغوا ما قال صاحبي؟ ليت شعري، أكان جدا ما قال صاحبي؟ ليت شعري، أأدركت نفس صاحبنا تلك النفس المعلقة في غابة من غابات فرنسا على جبل من الجبال حول ذلك السيل الذي ينهمر في قوة وعنف، فيملأ الجو ضجيجا وعجيجا واصطخابا، ويتميز منه على ذلك الصوت المتصل الحزين الذي يعلن عن اللوعة ويعرب عن الشكاة.
ثأر بيرينيس
لست أدري كيف وصلت أخبار الدنيا إلى دار الموتى، ولا كيف وصلت أخبار الموتى إلى أهل الدنيا. ولكن صاحبي حدثني حديثا عجبا، ولم يرد أن ينبئني كيف استقام له هذا الحديث؛ زعم لي أن خلافا عنيفا أليما ثار بين حبيبين في دار الموتى فأفسد الأمر بينهما إفسادا عظيما كاد يستحيل إصلاحه، لولا أن أديبا دخل بينهما فردهما إلى شيء من الصلح القلق والتوافق الموقوت.
وكان ذلك في اليوم العاشر من هذا الشهر، بعد أن نزل إدوار الثامن عن ملك إنجلترا وما وراء البحار وإمبراطورية الهند لأخيه الملك الجديد. كان ذلك في الصباح أو في المساء، وفي أي لحظة من لحظات النهار أو من لحظات الليل، فقد زعموا أن ليس في دار الموتى ليل ولا نهار، وإنما الزمان عندهم فكرة تجيلها النفس ويتمثلها العقل ولا تصورها حركة الأرض ولا حركة الشمس، ولا اضطراب كوكب من الكواكب ولا دوران فلك من الأفلاك.
كان هذا الخلاف بين هذين الحبيبين في لحظة من ذلك اليوم حين انتهى نبأ انحلال الأزمة البريطانية إلى دار الموتى، وحين علم به تيتوس القيصر الإمبراطور وصاحبته بيرينيس ملكة فلسطين!
وأنت تعلم من غير شك أنهما هبطا إلى مستقرهما الأخير منذ تسعة عشر قرنا أو ما يقرب من تسعة عشر قرنا. فقد مات تيتوس القيصر الإمبراطور في أواخر القرن الأول للمسيح سنة إحدى وثمانين، وماتت بيرينيس بعده بقليل. وإذا جارينا الشاعر الفرنسي العظيم راسين فقد ماتت حزنا عليه، أو تعمدت الموت لتلحق به. لا يخبرنا الشاعر بذلك، ولكنه ينبئنا في قصته الخالدة بأن بيرينيس كانت تريد الموت استجابة لليأس، فعزم عليها عاشقها القيصر الإمبراطور لتبقين، وأنذرها أنه لاحق بها إن ماتت وقاتل نفسه إن قتلت نفسها.
وكانت الملكة الفلسطينية مؤثرة لحبيبها العظيم على نفسها، فآثرت البقاء لا حبا في البقاء، بل إيثارا لعاشقها به، وعاشت لا لتنعم بالعيش، بل لينعم الرومانيون بحياة قيصرهم الإمبراطور. وأكبر الظن أن موت الإمبراطور قد يسر الأمر على حبيبته وأحلها مما قطعت على نفسها من العهود والمواثيق، فأسرعت إلى الموت لا حبا في الموت، ولكن رغبة في لقاء خليلها، حيث لا تثار الاعتراضات على حبهما في مجلس الشيوخ الروماني، ولا في ملاعب التمثيل ولا في أسواق المدينة الخالدة. وأكبر الظن أن العاشقين التقيا مبتهجين بهذا اللقاء، فرحين بهذه السعادة الباقية التي لا تتاح للناس في هذه الحياة الفانية. وأكبر الظن أيضا أنهما شغلا بحبهما عن كل شيء وعن كل إنسان، وشغلا بحبهما عن شئون الناس خاصة، لم يصرفا عنه لحدث من الأحداث، ولا عظيمة من العظائم، بل لم يصرفا عنه لما كان يكتب عنهما المؤرخون في العصور القديمة أو العصور الحديثة. ولعلهما لم يصرفا عنه إلا مرة واحدة في القرن السابع عشر، حين كتب راسين قصته الرائعة وقدمها إلى الملعب، وحين كتب كورني قصته البارعة وعرضها على النظارة، وحين اختلف الناس في أمر هذين الشاعرين وفي أمر هاتين القصتين كما كانوا يختلفون في أمرهما وفي آثارهما دائما.
وقد كان تيتوس القيصر الإمبراطور أديبا ظريفا ومثقفا مترفا، وكان يحب الفن ويشغف بالأدب ويفتن بالفلسفة، وكانت بيرينيس من أذكى بنات إسرائيل وأعظمهن حظا من ثقافة ودقة ورقة وترف، وقدرة على استئثار بعقول الرجال والاختلاب لألباب الملوك. فجائز أن يكون اختلاف الناس في راسين وكورني وفي قصتيهما قد شغلهما لحظة عن حبهما الخالد وسعادتهما المتصلة، ولكن المحقق - فيما يقول صاحبي - أنهما لم يلبثا أن عادا إلى ما كانا فيه من الغزل والدعابة، ومن الاستمتاع بنعيم الحب الذي لا ينغصه الصد ولا يفسده الهجر ولا تكدره وشاية الوشاة.
وقد كانت الثورة الفرنسية، وكانت حروب نابليون، وكانت الأحداث الجسام التي اتصلت بين الناس. وكانت الحرب الكبرى، وكان ما كان بعد هذه الحرب، والعاشقان لا يحفلان بشيء من ذلك ولا يأبهان له ولا يفكران فيه، حتى كان يوم الخميس الماضي، وإذا هما يردان إلى أمور الناس ويشغلان بها ويتأثران بأنبائها أشد التأثر، حتى تكاد الأسباب بينهما أن تنقطع، وحتى توشك المودة بينهما أن تزول لولا أن تدخل هذا الأديب فاضطرهما إلى خطة، هي إلى الهدنة أقرب منها إلى الصلح، وهي إلى الموادعة والانتظار أقرب منها إلى المودة والصفاء.
وأنت بالطبع تعلم أن تيتوس قد عرف صاحبته الجميلة الخلابة في فلسطين حين كان مع أبيه يحاربان اليهود ويعيدانهم إلى طاعة روما، فأحبها وأحبته وهام بها وهامت به، وكانت بينهما صلات لهج بها الجند، وكثر فيها كلام أهل الشرق في فلسطين والشام ومصر. ولم يحفل العاشقان بلوم اللائمين ولا سخط الساخطين، وإنما مضى كل منهما في حبه لا يلوي على شيء ولا يقف عند غاية، واجتهدت بيرينيس في أن تجيب سلطان الرومان إلى أهل مدينة القدس الثائرين فلم تفلح، وأخطأها التوفيق كما أخطأ أخاها. فانحازت إلى الفاتحين وآثرت الحب على الوطن، وابتهجت بظفر الرومان وعادت مع الظافرين إلى روما وسكنت دار تيتوس أثناء ولايته للعهد، ولهج بذلك أهل روما وكثر فيه حديثهم واشتد له إنكارهم. فاضطر الإمبراطور إلى أن يأمر تيتوس ولي عهده بقطع هذه الصلة ونفي هذه العاشقة عن الأرض الإيطالية، وأذعن ولي العهد لأمر أبيه وأخرج صاحبته إلى الشرق، وأذعن لسلطان روما وقوانينها. فلما مات أبوه وارتقى هو إلى العرش وظنت الملكة أن قد زالت المصاعب ومهدت الطريق، عادت إلى روما، ولكنها لم تظفر من عاشقها الإمبراطور بشيء.
ناپیژندل شوی مخ