إنما كانوا يعرضون بالمستقبل القريب، ويشيرون إلى خطبة تضطرب أحاديثها في الجو من حولي، وتهيأ لها الأسباب تهيئة وهم يخفون أمرها علي حتى يتم الإعداد لها، وحتى يصبح الحديث إلي فيها مجديا لا ينتهي بي إلى شك ولا إلى خيبة أمل. وأنا أعرف هذا كله وأرقب هذا كله محبة لأبوي، راحمة لسذاجتهما مكبرة لحنانهما ممزقة القلب من الحزن أن تتهيأ الحياة لتبتسم لي، ومن حولي كل هذا الحزن العابس وكل هذا الألم العميق.
6
ولكني لا أعرف من أمر هذه الخطبة التي تهيأ ويتصل فيها حديث الأسرة أكثر مما ذكرت. وما أخفي عليك ولا على نفسي أيها الدفتر العزيز أني قد ضقت بهذا الجهل، وثقل علي هذا الغموض، وودت غير مرة لو استطعت أن أنفذ إلى قلب من هذه القلوب الثلاثة الكريمة التي تحيط بي، وتمتلئ بحبي لأرى ما يثور فيه من عاطفة، وما يضطرب فيه من تفكير.
ولكني لم أحاول قط أن أسترق السمع، أو أختلس بعض ما يتصل من حديث؛ لأني أرى ذلك نكرا يأباه الخلق، وتنكره سيرة الفتاة المهذبة التي نشئت تنشئة حسنة، وربيت تربية صالحة. وأي شيء أبغض من التسمع على الآباء والاحتيال في استراق الحديث؟ وقد أنحدر في التفكير إلى أعماق نفسي، فأستكشف شيئا لا أكاد أحققه، ولكني أضيق به ضيقا شديدا، فقد يخيل إلي أن الذي دفعني إلى أن أتخذك لي صديقا، وأحاول أن أفضي إليك بأسرار نفسي؛ إنما هو هذا الشعور الغامض الذي وجدته منذ أيام حين أحسست الغموض الطارئ على ما بيني وبين الأسرة من صلة، وحين تبينت أو خيل إلي أني أتبين من هذا الغموض تفكيرا في الخطبة وتهيئة للزواج.
لم أكن أستطيع أن أبادي بهذا الحديث أخي، أو أحد أبوي، فضلا عن أن أبادي به إحدى صديقاتي، وقد هممت أن أطيل الحديث فيه إلى نفسي مفكرة مقدرة، ولكني وجدت في ذلك مشقة وعنه عجزا.
لم أكن أحاول التفكير فيه حتى أصرف عنه وتدفع نفسي إلى التفرق وخواطري إلى الشرود، فلم أر بدا من الالتجاء إليك، والاعتماد عليك؛ لأجمع هذه النفس المتفرقة، وأرد هذه الخواطر الشاردة. وما أرى أني قد ألقيت إليك كل هذه الأحاديث إلا فرارا من هذه الحقيقة التي أواجهها الآن، وتأخيرا لهذه الساعة التي لا أستطيع الآن لها تأخيرا. إني لأجد مشقة شديدة في تحليل هذا الشعور الذي يغمر نفسي، ويملأ قلبي منذ استكشفت سر أبوي دون أن أصل إلى كنهه، أو أتبين جليته، فأنا سعيدة من غير شك وإن كنت أخفي هذه السعادة حتى على نفسي؛ لأن الأوضاع الاجتماعية تريدني على ذلك.
أنا سعيدة حين أفكر في هذه الخطبة التي تهيأ، وفي هذا الزواج الذي يعد، وأي فتاة مثلي لا تسعد بالتفكير في الخطبة والزواج؟! وأنا ثائرة أشد الثورة بأن أبوي يفكران في ذلك وحدهما، ويستأثران به من دوني، ولا يشركانني فيما يكون بينهما من تفكير أو حديث، كأنما الأمر يعنيهما أكثر مما يعنيني، ويمسهما أكثر مما يمسني، وأنا مشفقة من عواقب استئثارهما بهذا الأمر، وانفرادهما بالتفكير فيه، أخشى أن يتقدما فيه إلى أبعد مما ينبغي وأن أصبح أو أمسي ذات يوم وإذا أنا أمام أمر واقع لا أستطيع أن أخلص منه إلا بالعنف الذي أكرهه، وبالخلاف عن أمر أحب الناس إلي وآثرهم عندي وأكرمهم علي.
ثم أنا بعد هذا وذاك حائرة، يكاد حبي للمعرفة يقهر كل عاطفة أخرى في نفسي ويملك علي كل أمري، ويصرفني إلا عن البحث والتفكير فيمن عسى أن يكون هذا الشاب، الذي يفكر أبواي فيه ويهيئان للصلة بيني وبينه.
ويا للعجب! متى يشعر الآباء بأن الزواج لا يهيأ على هذا النحو، وبأن الخطبة لا تعد على هذا الأسلوب، وبأن أمر الحب لا يدبر تدبيرا؟ ومع ذلك، فقد قلت - وما زلت أقول: إني سعيدة بالتفكير في الخطبة والزواج، وآية ذلك هذا الذهول الذي يستغرق أكثر وقتي حين أخلو إلى نفسي، والذي تملؤه أحلام غريبة؛ منها الجميل الرائع، ومنها المخيف البشع، وكلها على ذلك يرضيني، ويملأ نفسي سرورا وابتهاجا. ومن يدري، لعل في تكتم أبوي واستئثارهما بالأمر من دوني بعض الخير، فهو الذي يبيح لي هذه الأحلام، ويغمرني بهذا الذهول، ويدفع نفسي إلى هيام لا يخلو من لذة، لعل الأخلاق تنكرها، ولعل الحياء - حياء العذارى - يمنعني أن أسطرها أو أصورها، لولا أني أفضي بذات نفسي إلى صديق مثلك أمين يتلقى الأسرار فيخفيها حتى على نفسه.
إني لأستعرض عددا غير قليل من الشباب الذين أظن بهم الكفاءة، وأقدر أنهم خليقون أن يفكروا في، أو يسألوا عني، أو يطمعوا في القرب من أسرتي؛ أستعرضهم وأرى نفسي تتنقل بينهم كما تتنقل النحلة بين الألوان المختلفة من الزهر، لا تكاد تلم بهذه الزهرة حتى تنتقل منها إلى زهرة أخرى، ثم إلى زهرة ثالثة، وعلى هذا النحو. وإني لأستحي من هذا الهيام الآثم الذي لا أرضاه من غيري لو أقبل عليه غيري، ولكني مع ذلك أعترف بأني غارقة فيه، مؤثرة له مستمتعة به معتذرة مع ذلك عن نفسي؛ لأن أبوي هما اللذان دفعاني إليه حين استأثرا من دوني بالتفكير في أمر هذه الخطبة، ولو أنهما أظهراني على ما يدبران من الأمر لاقتصرت هذه النحلة الهائمة المتنقلة على زهرة واحدة، فوقفت عندها ولم تعدها إلى غيرها من الزهر. ولم تضطر إلى الاستمتاع راغمة بهذا الهيام الحلو البغيض.
ناپیژندل شوی مخ