تقدم واعمر قلوب الفتيان بلذة الانتصار!
آه لا تتوان. حذر، عاقب، انتصر!
وأيد جلال الحقيقة على الدوام،
حتى يخرج السلام الخالد - طفل السماء -
من مهد الزمن الحافل بالأسرار!
قصيدة محلقة في سماء الأساطير، مفعمة بجلال الروح اليوناني القديم وقداسته، مزدحمة بأسماء الآلهة والأبطال، معبرة عن جهد الشاعر في الصنعة والبناء. ومع ذلك فهي لا تخلو من كلمات رقيقة هامسة تلمع في ثناياها كما تلمع زهرات البرق وسط العواصف والأنواء. كلمات من لغة الشاعر التي تميزه عن غيره كالبراءة والسلام والطفل والصوت الهامس الخفيض، وكلها أوتار سيعزف عليها أناشيده وأغانيه المقبلة، لتلمس القلب بهدوئها وانكسارها ووداعتها وانطوائها على آلامها وجراحها.
لم يكد هلدرلين يغادر مدينة توبنجن حتى توارت هذه اللغة الفخمة المحلقة التي تكاد تغتصب الصور والكلمات. ها هو ذا يقول في شهر أبريل سنة 1794م عن قصيدة أخرى كتبها في تلك الفترة من حياته وسماها «قصيدة إلى القدر» قال: «لم أعد أقوى على احتمالها» ... لقد بدأت تسود أشعاره الأنغام النقية الرفافة التي تميزه حقا. كما بدأت تجربته الفكرية تتضح وتكتمل لتصبح رسالة شاعر يريد أن يربي ويتنبأ ويبشر بالطهر والقداسة والبراءة والجلال.
وبدأ إحساسه بسر عبقريته وقدره يلقي ظلالا حزينة على علاقته بالأصدقاء .. لقد فتحوا له الطريق إلى سر الصداقة نفسه، فما حاجته الآن إليهم؟ هكذا أخذوا ينتقلون إلى منطقة الظل، وما أكثر ما تلقى العبقرية من ظلال على حياة صاحبها وصلته بمن حوله من الأهل والأحباب .. وتراجع الصديقان ماجيناو ونويفر من حياته شيئا فشيئا حتى خرجا من دائرتها تماما. وأخذت الدائرة تضيق شيئا فشيئا على الشاعر نفسه قبل أن تطبق عليه في النهاية وتخنقه يد الجنون. وها هو ذا الأمر يتخذ الآن صورة أسطورية ويلتف في وشاح غيبي. إنه يقول عن علاقته بأصدقائه: «القدر يدفعنا للأمام ويدور بنا في دائرة، ونحن لا نملك الوقت الكافي للبقاء مع صديق، وكأننا أشبه بالفارس الذي انطلقت به الجياد.» لقد حملته العاصفة وبعدت به عن صديقيه. ربما عبر عن إعجابه بثبات صديقه: «ومع ذلك فأنت تملك الهدوء والاطمئنان .. وبودي أن أملكهما.» ولكنه يدرك أن قدره يطارده ويحكم عليه بالقلق الذي يتمكن من الشاعر الحق؛ ولذلك فسوف يتلفت حوله مع نهاية القرن فلا يجد أحدا من أصدقائه.
ولعل أبرز الأصدقاء وأنشطهم وأشدهم أثرا عليه في هذه الفترة من حياته هو جوتهولد فريدريش شتويدلين (1758-1796م) وكان بتربيته من رجال القانون، وبطبعه المكافح الهادئ صحفيا من أنصار الثورة الفرنسية والعاملين على نشر مبادئها في وطنه. إن هلدرلين يشكر اللحظة التي أتاحت له أن يلقى «هذا الرجل الرائع حقا»، وأن «يعثر على قلبه». استطاع هذا الصديق النبيل الذي كان يكبره باثنتي عشرة سنة أن يؤدي له خدمات جليلة. فقد نشر له عددا من قصائده التي كتبها خلال وجوده في توبنجن في الحولية التي أصدرها في سنتي 1792م و1793م، وعرفه في صيف سنة 1793م بالشاعر «ماتيسون» الذي سبقت الإشارة إليه، وسعى إلى لقائه بشيلر الذي كان لإنسانيته وفكره أعظم الأثر على حياته وتطوره. ولا بد أن هذه العبارة التي قالها في ذروة تحمسه للثورة الفرنسية قد كتبت تحت تأثير شتويدلين: «يجب علينا أن نضرب المثل للوطن وللعالم على أننا لم نخلق لكي يعبث بنا التعسف كما يشاء.» ولا بد أن كفاح هذا الصديق المثالي في سبيل الحرية، ودعوته للأصدقاء أن يعملوا في هدوء من أجل هذه القضية الكبرى، ثم اضطهاد الحكومة له وطرده من البلاد، ويأسه الذي أدى به إلى إلقاء نفسه في مياه الراين سنة 1796م ... لا بد أن هذا كله لم يعدم أثره القوي على وجدان هلدرلين ... بيد أنه ظل بعيدا عن الثائرين المتطرفين من شباب توبنجن وصخبهم ومظاهراتهم، على الرغم من إيمانه بقضية الحرية وتحمسه لها وعمله من أجلها. وكانت تجمعه بأحد هؤلاء الثائرين علاقة ود خالص حميم. وكان هذا الصديق - وهو كرستيان فريدريش هيلر (1769-1817م) شابا مرحا نقي السريرة صافي البصيرة، يؤمن بالحرية والسلام أعمق الإيمان، ويصون قلبه وعينيه من سحابات اليأس والأحزان. إن الشاعر يصفه في هذه الأبيات القليلة بقوله:
أخي، منحك رب الحب شرارة إلهية،
ناپیژندل شوی مخ