9
في سنة 1797م. وقد وصفها بنفسه فقال إنها لوحة من الأفكار والمشاعر.
10
والحق أنه صدق في هذا الوصف الذي أطلقه عليها؛ فهي فقيرة في الأحداث، مفعمة بروح شاعرية فياضة بالأنغام العذبة المتألمة، ولغتها عاطفية ساحرة الإيقاع محكمة البناء، يشيع فيها لحن بكائي يجعلها قريبة من الصلوات والاعترافات والتراتيل الجنائزية. إنها تعبر عن سعادة إنسان استغرقته تجربة الحب والاتحاد بالطبيعة وشوقه اليائس للاتصال «بالكل» الإلهي. ولكن الواقع لا يلبث أن يصدمه في سعادته وشوقه، ويكشف له عن الهوة الفاصلة بين المثال والواقع والفكرة والفعل.
وبطل الرواية شاب يوناني يحيا في القرن الثامن عشر ويتطلع لإحياء ماضي شعبه. غير أنه يخفق إخفاقا مرا في بعث الإحساس بالعزة والنبل والجمال وغيرها من القيم الخالدة التي عرفها في تاريخه المجيد. وتدور الرواية في إطار تاريخي هو الثورة التي قام بها الشعب اليوناني في سنة 1770م للخلاص من نير الحكم التركي. ويحكي البطل الشاب هيبريون قصة حبه وكفاحه واتحاده بالطبيعة «الإلهية» في سلسلة من الرسائل الشاعرية إلى صديقه الألماني بيلارمين. فقد عاش في صباه في عالم أسطوري هداه إليه معلمه أداماس، وهو عالم زاخر بآلهة الإغريق وأبطالهم الذين أرخ لهم بلوتارك. وعثر على «ديوتيما» فوجد فيها مثال الجمال والحب والبراءة، بل وجد الروح الإلهي نفسه مجسما فيها. وتندلع نار الثورة فيهب البطل للكفاح مع الشعب المقهور لاسترداد حريته، ويشجعه صديقه «ألاباندا» ويقوي في نفسه الإيمان بالمستقبل السعيد. ولكن سرعان ما يخيب أمله في صديقه إذ يكتشف أنه عضو في جماعة سرية أفرادها أبعد ما يكونون عن تحقيق مثله وآماله. ويلجأ إلى جزيرة كالاوريا فيجد شفاءه في حبه لديوتيما الجميلة. وتدعوه الحبيبة لأداء واجبه نحو الوطن بعد رجوعه إلى صديقه القديم الذي يتأكد من نبله وتضحيته. وتقول له الحبيبة التي تشجعه على النضال في سبيل الحرية: «أنت الذي ستربي شعبنا.» وتفصل الثورة بين المحبين. وتذبل الحبيبة وتدفن حبها في صدرها قبل أن تدفنه معها في قبرها ... ويمضي هيبريون مع صديقه للكفاح في سبيل مملكة المثل الأعلى والحرية والجمال. وينتصر الثوار ويفتحون مدينة ميسيسترا أو إسبرطة القديمة. ويكتشف أن رفاق الثورة قد قتلوا ونهبوا ودمروا وأفسدوا بلا خلق أو ضمير. وتتبدد المثل في غبار المذبحة، وتسقط الأحلام الوردية تحت سنابك الخيل وجثث القتلى. ويعرف أن الفعل يلوث، وأن ساعة ميلاد الحياة الجديدة والإنسانية الجديد لم تدق بعد، وأن العصر الذي يعيش فيه لم يزل بعيدا عن «العصر الذهبي» الذي تزدهر فيه الحرية والوحدة والكرامة والجمال والسعادة. وينفض يده من الثورة والثوار. وينضم فترة من الزمن للأسطول الروسي الذي كان في حرب مع الأتراك ثم يهجر العمل فيه. ويبلغه نبأ وفاة حبيبته بعد صراعها مع المرض والحب اليائس، ويتحول في النهاية إلى التنسك في معبد الطبيعة، ويتجه إليها بكل كيانه، ويعانق الحياة الإلهية التي تطالعه في كل مظاهرها : «أنت أيتها الطبيعة .. هكذا فكرت في أمر إلهتك. لقد أفقت من حلم البشر، وأقول الآن أنت وحدك التي تحيين حقا، وكل ما افتعله المزعجون وتفننوا فيه يذوب كلآلئ الشمع في نار لهيبك ... إن الناس يسقطون كما تسقط عنك الثمار الفاسدة. دعيهم يسقطون وسوف يعودون إلى جذعك مرة ثانية، ودعيني يا شجرة الحياة أخضر على غصونك من جديد وأستنشق بعمق وسلام نسيم ذراك وفروعك وبراعمك النضرة، لأننا جميعا قد نمونا من البذرة الذهبية ...»
ومن الصعب أن نصور روعة اللوحات التي تصف الطبيعة في بلاد اليونان، أو رسائل الحب المتبادلة بين هيبريون وحبيبته ديوتيما، فهي نماذج خالدة في أدب الحب والمحبين. ويكفي أن نقرأ هذه العبارات التي تأتي في ختام الرواية معبرة عن رؤية الشاعر وفكره، شاهدة على السلام الذي استظل به في محنته، واطمأن إلى روحه الهادئ في أثناء حياته وبعد جنونه، وقوى في نفسه الأمل في الخلود والثقة في عودة الخالدين: «أيتها الروح! أيتها الروح! أنت يا جمال العالم! أيتها الصامدة! يا واهبة النشوة والبهجة والنعيم بشبابك الخالد! أنت حية وباقية، وما الموت وكل آلام البشر بالقياس إليك؟ آه! كثيرة هي الكلمات الجوفاء التي اخترعها هؤلاء المدهشون. فكل شيء يصدر عن الفرح وينتهي إلى السلام. وكل مظاهر الشذوذ والنشوز التي نراها في العالم أشبه بالخلافات التي تقع بين العشاق. إن الوفاء موجود في صميم الشقاق، وكل ما تفرق سيلتقي من جديد ...»
إن البطل الحقيقي في هذه الرواية هو الطبيعة المثالية التي تحاول أن تفرض نفسها على العالم كله، ولكنها تصاب بخيبة الأمل في الواقع فترجع إلى عالمها الباطن، أي إلى الفكر والشعر والحلم والانتصار. وهيبريون هو هلدرلين نفسه، بكل مثله وأشواقه إلى إنسانية أرقى وعصر أجمل، باتحاده بالطبيعة الإلهية مصدر كل أمومة وحياة، ودموعه التي لا تجف على ماض يتمنى لو يعود.
وقد كتبت الرواية بغير شك تحت تأثير «روسو» واتجاه الثقافة في ذلك الحين إلى «الباطن» وتربية الشخصية الفردية بالجمال والكمال. فقد كانت الشخصية هي أقصى سعادة ينالها أبناء الأرض كما عبر عن ذلك شيلر. وكان معظم الكتاب والشعراء يسجلون تجربتهم مع الحياة والحب والطبيعة والمجتمع على لسان بطل يتقلب بين النجاح والفشل والسعادة والشقاء .. وتوالت الروايات «التربوية» التي تتتبع حياة إنسان - شاب في أغلب الأحيان - في رحلته لمعرفة نفسه ومجتمعه وعالمه. ولذلك فإن «هيبريون» تعد حلقة في سلسلة هذه الروايات التي بدأها فيلاند بروايته «أجاتون» وكارل فيليب موريتس برواية «أنطون رايزر» وجوته برواية «فيلهلم ميستر» وجان باول «بهسبيروس» ونوفاليس بروايته التي لم تتم «هينريش فون أو فتردنجن»، وكلهم شباب يبحثون عن أنفسهم ومعنى وجودهم في الحب والفعل والحياة والمسرح والأدب والطبيعة.
أما مسرحية «موت أنبادوقليس» التي كتبها هلدرلين بين سنتي 1798م و1799م في مسرحية شعرية غنائية أو بالأحرى قصيدة درامية صاغها ثلاث مرات وظلت مع ذلك شذرة لم تتم.
ولم يقصد هلدرلين أن يضعها للمسرح، ولا يمكن أن نطبق عليها أصول المسرح وقواعده كما تصورها كتاب مثل لسينج، بل يجب أن ننظر إليها على أنها قصة نفس وحيدة في صراعها الباطن مع قدرها وأقدار عالية غير منظورة، بعيدا عن ضجيج الحياة اليومية وكل ما يأتي من العالم الخارجي. ولذلك فهي أبعد ما تكون عن دراما الحدث والمشاهد المتنوعة والمصائر والشخصيات والانفعالات المتطرفة كما نجدها مثلا عند شكسبير. وإذا بحثنا لها عن مكان في سياق التطور المسرحي فليكن مكانها مع الدراما النفسية بين مسرحيات سوفوكليس وراسين وجوته. لقد حاول هلدرلين أن يعبر فيها عن مرارة الإخفاق الذي أحسه شاعر أراد أن يبشر بعالم مثالي وتم له ما أراد، ولكن لم يفهمه أحد في عصره واضطهده مواطنوه وطردوه من مدينته.
ناپیژندل شوی مخ