حجة النبي
حجة النبي
خپرندوی
المكتب الإسلامي
د ایډیشن شمېره
الخامسة
د چاپ کال
١٣٩٩
د خپرونکي ځای
بيروت
ژانرونه
حجة النبي ﷺ
كما رواها عنه جابر رضي الله عن هـ
(خذوا عني مناسككم فإني لا أدري لعلي لا أحج بعد عامي هذا)
حديث شريف
تأليف: محمد ناصر الدين الألباني
الطبعة الخامسة - ١٣٩٩ هـ - بيروت
المكتب الإسلامي - بيروت
1 / 1
إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا من يهده الله فلا مضل له ومن يضلل فلا هادي له وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأشهد أن محمدا عبده ورسوله
أما بعد: فهذه هي الطبعة الثانية لكتابنا (حجة النبي ﷺ كما رواها جابر رضي الله عن هـ) عز منا على إعادة طبعه بعد أن عزت نسخه وكثر الطلب عليه من كثير من البلاد الإسلامية فأعدت النظر فيه وزدت في متنه بعض الجمل التي استدركتها من المصادر الحديثية التي لم تكن قد طبعت من قبل أو كانت نسخها عزيزة مثل (موارد الظمآن إلى زوائد ابن حبان) و(المنتقى) لابن الجارود و(طبقات ابن سعد) وبعض المخطوطات
[٢]
1 / 2
بيد أني أضفت إليه تعليقات كثيرة تضمنت فوائد جمة أغلبها في بيان بعض المناسك كانت قد فإني أو لم يتيسر لي معها في طبعته السابقة
ثم ذيلته بذيل ذكرت فيه قسما كبيرا من البدع التي يقع فيها بع الحجاج منذ عزمهم على السفر حتى رجوعهم إلى أهلهم وأدخلت فيه بدع زيارة المسجد النبوي وبيت المقدس لأن كثيرا من الحجاج يجمعون بين الحج والسفر إلى المسجد النبوي والمسجد الأقصى وذلك أمر مشروع مرغوب فيه وإن كان مطلقا غير مقيد بالحج فيشرع مع الحج قبله أو بعده وبدونه
وعندي بعض النصائح أريد أن أقدمها إلى القراء الكرام والحجاج إلى بيت الله الحرام عسى الله ﵎ أن ينفعهم بها ويكتب لي أجر الدال على الخير بإذنه إنه على ما يشاء قدير وبالإجابة جدير
ومما لا ريب فيه أن باب النصيحة واسع جدا ولذلك فإني سأنتقي منه ما أعلم أن كثيرا من الحجاج في جهل به أو إهمال له أسأل الله تعالى أن يعلمنا ما ينفعنا ويوفقنا للعمل به فإنه خير مسؤول
[٣]
1 / 3
أولا: إن كثيرا من الحجاج إذا أحرموا بالحج لا يشعرون أبدا أنهم تلبسوا بعبادة تفرض عليهم الابتعاد عما حرم الله تعالى من المحرمات عليهم خاصة وعلى كل مسلم عامة وكذا تراهم يحجون ويفرغون منه ولم يتغير شيء من سلوكهم المنحرف قبل الحج وذلك دليل عملي منهم على أن حجهم ليس كاملا إن لم نقل: ليس مقبولا ولذلك فإن على كل حاج أن يتذكر هذا وأن يحرص جهد طاقته أن لا يقع فيما حرم الله عليه من الفسق والمعاصي فإن الله ﵎ يقول: (الحج أشهر معلومات فمن فرض فيهن الحج فلا رفث ولا فسوق ولا جدال في الحج) - البقرة: ١٩٧. وقال رسول الله ﷺ:
(صحيح) (من حج فلم يرفث ولم يفسق رجع من ذنوبه كيوم ولدته أمه) أخرجه الشيخان والرفث: هو الجماع
قال شيخ الإسلام ابن تيمية:
(وليس في المحظورات ما يفسد الحج إلا جنس الرفث فلهذا ميز بينه وبين الفسوق
وأما سائر المحظورات كاللباس والطيب فإنه وإن كان يأثم بها فلا تفسد الحج عند أحد من الأئمة المشهورين)
وهو يشير في آخر كلامه إلى أن هناك من العلماء من يقول
[٤]
بفساد الحج بأي معصية يرتكبها الحاج فمن هؤلاء الإمام ابن حزم ﵀ فإنه يقول: (وكل من تعمد معصية أي معصية كانت وهو ذاكر لحجه مذ أن يتم طوافه بالبيت للإفاضة ويرمي الجمرة فقد بطل حجه. . .) واحتج بالآية السابقة فراجعه في كتابه (المحلى) (٧ / ١٨٦) فإنه مهم ومما سبق يتبن أن المعصية من الحاج إما أن تفسد عليه حجه على قول ابن حزم وإما أن يأثم بها ولكن هذا الإثم ليس كما لو صدر من غير الحاج بل هو أخطر بكثير فإن من آثاره أن لا يرجع من ذنوبه كما ولدته أمه كما صرح بذلك الحديث المتقدم. فبذلك يكون كما لو خسر حجته لأنه لم يحصل على الثمرة منها وهي مغفرة الله تعالى فالله المستعان وإذا تبين هذا فلا بد لي من أن أحذر من بعض المعاصي التي يكثر ابتلاء الناس بها ويحرمون بالحج ولا يشعرون إطلاقا بأن عليهم الإقلاع عنها ذلك لجهلهم وغلبة الغفلة عليهم وتقليدهم لآبائهم
بفساد الحج بأي معصية يرتكبها الحاج فمن هؤلاء الإمام ابن حزم ﵀ فإنه يقول: (وكل من تعمد معصية أي معصية كانت وهو ذاكر لحجه مذ أن يتم طوافه بالبيت للإفاضة ويرمي الجمرة فقد بطل حجه. . .) واحتج بالآية السابقة فراجعه في كتابه (المحلى) (٧ / ١٨٦) فإنه مهم ومما سبق يتبن أن المعصية من الحاج إما أن تفسد عليه حجه على قول ابن حزم وإما أن يأثم بها ولكن هذا الإثم ليس كما لو صدر من غير الحاج بل هو أخطر بكثير فإن من آثاره أن لا يرجع من ذنوبه كما ولدته أمه كما صرح بذلك الحديث المتقدم. فبذلك يكون كما لو خسر حجته لأنه لم يحصل على الثمرة منها وهي مغفرة الله تعالى فالله المستعان وإذا تبين هذا فلا بد لي من أن أحذر من بعض المعاصي التي يكثر ابتلاء الناس بها ويحرمون بالحج ولا يشعرون إطلاقا بأن عليهم الإقلاع عنها ذلك لجهلهم وغلبة الغفلة عليهم وتقليدهم لآبائهم
1 / 4
١ - الشرك بالله ﷿:
فإن من أكبر المصائب التي أصيب بها بعض المسلمين جهلهم
[٥]
1 / 5
بحقيقة الشرك الذي هو من أكبر الكبائر ومن صفته أنه يحبط الأعمال:
(لئن أشركت ليحبطن عملك) - محمد: ٦٥. فقد رأينا كثيرا من الحجاج يقعون في الشرك وهم في بيت الله الحرام وفي مسجد النبي ﵊ يتركون دعاء الله والاستغاثة به إلى الاستعانة بالأنبياء بالصالحين ويحلفون بهم ويدعونهم من دون الله ﷿ والله ﷿ يقول: (إن تدعوهم لا يسمعوا دعاءكم ولو سمعوا ما استجابوا لكم ويوم القيامة يكفرون بشرككم ولا ينبئك مثل خبير) - فاطر: ١٤. والآيات في هذا المعنى كثيرة جدا وفي هذه كفاية لمن فتح قلبه للهداية. إذ ليس الغرض الآن البحث العمي في هذه المسألة وإنما هو التذكير فقط
فليت شعري ماذا يستفيد هؤلاء من حجهم إلى بيت الله الحرام إذا كانوا يصرون على مثل هذا الشرك ويغيرون اسمه فيسمونه: توسلا تشفعا وواسطة أليس هذه الواسطة هي التي ادعاها المشركون من قبيل يبررون بها شركهم وعبادتهم لغيره ﵎: (والذين اتخذوا من دونه أولياء ما نعبدهم إلا ليقربونا إلى الله زلفى) - الزمر: ٣
[٦]
فيا أيها الحاج قبل أن تعزم على الحج يجب عليك وجوبا عينيا أن تبادر إلى معرفة التوحيد الخالص وما ينافيه من الشرك وذلك بدراسة كتاب الله وسنة نبيه ﷺ فإن من تمسك بهما نجا ومن حاد عنهما ضل. والله المستعان
فيا أيها الحاج قبل أن تعزم على الحج يجب عليك وجوبا عينيا أن تبادر إلى معرفة التوحيد الخالص وما ينافيه من الشرك وذلك بدراسة كتاب الله وسنة نبيه ﷺ فإن من تمسك بهما نجا ومن حاد عنهما ضل. والله المستعان
1 / 6
٢ - التزين بحلق اللحية:
وهذه المعصية من أكثر المعاصي شيوعا بين المسلمين في هذا العصر بسبب استيلاء الكفار على أكثر بلادهم ونقلهم هذه المعصية إليها وتقليد المسلمين لهم فيها مع نهيه ﷺ إياهم عن ذلك صراحة في قوله ﵊:
(صحيح) (خالفوا المشركين احفوا الشوارب وأوفوا اللحى) رواه شيخان وفي حديث آخر: (وخالفوا أهل الكتاب)
وفي هذه القبيحة عدة مخالفات:
الأولى: مخالفة أمره ﷺ الصريح بالإعفاء
الثانية: التشبه بالكفار
الثالثة: تغير خلق الله الذي فيه طاعة الشيطان في قوله كما حكى الله تعالى ذلك عنه: (ولآمرنهم فليغيرن خلق الله)
الرابعة: التشبه بالنساء وقد لعن رسول الله ﷺ من فعل
[٧]
ذلك. وانظر تفصيل هذا الإجمال في كتابنا (آداب الزفاف في السنة المطهرة) (ص ١٢٦ - ١٣١) وإن من المشاهدات التي يراها الحريص على دينه أن جماهير من الحجاج يكونون قد وفروا لحاهم بسبب إحرامهم فإذا تحللوا منه فبدل أن يحلقوا رؤوسهم كما ندب إليه رسول الله ﷺ حلقوا لحاهم التي أمرهم ﷺ بإغفائها. فإنا لله وإنا إليه راجعون
ذلك. وانظر تفصيل هذا الإجمال في كتابنا (آداب الزفاف في السنة المطهرة) (ص ١٢٦ - ١٣١) وإن من المشاهدات التي يراها الحريص على دينه أن جماهير من الحجاج يكونون قد وفروا لحاهم بسبب إحرامهم فإذا تحللوا منه فبدل أن يحلقوا رؤوسهم كما ندب إليه رسول الله ﷺ حلقوا لحاهم التي أمرهم ﷺ بإغفائها. فإنا لله وإنا إليه راجعون
1 / 7
٣ - تختم الرجال بالذهب:
لقد رأينا كثيرا من الحجاج قد تزينوا بخاتم الذهب ولدى البحث معهم في ذلك تبين أنهم على ثلاثة أنواع:
بعضهم لا يعلم تحريمه ولذلك كان يسارع إلى مزعه بعد أن نذكر له شيئا من النصوص المحرمة كحديث:
(صحيح) (نهى ﷺ عن خاتم الذهب) متفق عليه وقوله ﷺ:
(صحيح) (يعمد أحدكم إلى جمرة من نار فيجعلها في يده؟) رواه مسلم
وبعضهم على علم بالتحريم ولكنه متبع لهواه فهذا لا حيلة لنا فيه إلا أن يهديه الله
وبعضهم يعترف بالتحريم ولكن يعتذر هو كما يقال أقبح من ذنب - فيقول: إنه خاتم الخطبة. ولا يدري المسكين
[٨]
1 / 8
أنه بذلك يجمع بين معصيتين: مخالفة نهيه ﷺ الصريح كما تقدم وتشبه بالكفار لأن خاتم الخطبة لم يكن معروفا عند المسلمين إلى ما قبل هذا العصر ثم سرت هذه العادة إليهم من تقاليد النصارى
وقد فصلت القول في هذه المسألة في (آداب الزفاف) أيضا (ص ١٣١ - ١٣٨) وبينت فيه أن النهي المذكور يشمل النساء أيضا خلافا للجمهور فراجع (ص ١٣٩ - ١٦٧) فإنه مهم جدا
ثانيا: ننصح لكل من أراد الحج أن يدرس مناسك الحج على ضوء الكتاب والسنة قبل أن يباشر أعمال الحج ليكون تاما مقبولا عند الله ﵎
وإنما قلت: على الكتاب والسنة لأن المناسك قد وقع فيها من الخلاف - مع الأسف - ما وقع في سائر العبادات من ذلك مثلا: هل الأفضل أن ينوي في حجه التمتع أم القران أم الإفراد؟ على ثلاثة مذاهب والذي نراه من ذلك إنما هو التمتع فقط كما هو مذهب الإمام أحمد وغيره بل ذهب بعض العلماء المحققين إلى وجوبه إذا لم يسق معه الهدي منهم ابن حزم
[١٠]
وابن القيم تبعا لابن عباس وغيره من السلف وتجد تفصيل القول في ذلك في كتاب (المحلى) و(زاد المعاد) وغيرهما ولست أريد الآن الخوض في هذه المسألة بتفصيل وإنما أريد أن أذكر بكلمة قصيرة تنفع إن شاء الله تعالى من كان مخلصا وغايته اتباع الحق وليس تقليد الآباء أو المذهب فأقول: لا شك أن الحج كان في أول استئنافه ﷺ إياه جائزا بأنواعه الثلاثة المتقدمة وكذلك كان أصحابه ﷺ منهم المتمتع ومنهم القارن ومنهم المفرد لأنه ﷺ خيرهم في ذلك كما في حديث عائشة رضي الله عن ها: (صحيح) (خرجنا مع رسول الله ﷺ فقال: من أرد منكم أن يهل بحج وعمرة فليفعل ومن أراد أن يهل بحج فليهل ومن أراد أن يهل بعمرة فليهل. . .) الحديث رواه مسلم وكان هذا التخيير في أول إحرامهم عند الشجرة (١) كما في رواية لأحمد (٦ / ٢٤٥) ولكن النبي ﷺ لم يستمر على هذا التخيير بل نقلهم إلى ما هو أفضل وهو التمتع دون أن يعزم بذلك عليهم أو يأمرهم به وذلك في مناسبات شتى في _________ (١) أي عند ذي الحليفة [١٠]
وابن القيم تبعا لابن عباس وغيره من السلف وتجد تفصيل القول في ذلك في كتاب (المحلى) و(زاد المعاد) وغيرهما ولست أريد الآن الخوض في هذه المسألة بتفصيل وإنما أريد أن أذكر بكلمة قصيرة تنفع إن شاء الله تعالى من كان مخلصا وغايته اتباع الحق وليس تقليد الآباء أو المذهب فأقول: لا شك أن الحج كان في أول استئنافه ﷺ إياه جائزا بأنواعه الثلاثة المتقدمة وكذلك كان أصحابه ﷺ منهم المتمتع ومنهم القارن ومنهم المفرد لأنه ﷺ خيرهم في ذلك كما في حديث عائشة رضي الله عن ها: (صحيح) (خرجنا مع رسول الله ﷺ فقال: من أرد منكم أن يهل بحج وعمرة فليفعل ومن أراد أن يهل بحج فليهل ومن أراد أن يهل بعمرة فليهل. . .) الحديث رواه مسلم وكان هذا التخيير في أول إحرامهم عند الشجرة (١) كما في رواية لأحمد (٦ / ٢٤٥) ولكن النبي ﷺ لم يستمر على هذا التخيير بل نقلهم إلى ما هو أفضل وهو التمتع دون أن يعزم بذلك عليهم أو يأمرهم به وذلك في مناسبات شتى في _________ (١) أي عند ذي الحليفة [١٠]
1 / 10
طريقهم إلى مكة فمن ذلك حينما وصلوا إلى (سرف) وهو موضع قريب من التنعيم وهو من مكة على نحو عشرة أميال فقالت عائشة في رواية عنها:
(صحيح) (. . . فنزلنا سرف فقال النبي ﷺ لأصحابه: من لم يكن معه هدي فأحب أن يجعلها عمرة فليفعل ومن كان معه هدي فلا قالت: فالآخذ بها والتارك لها من أصحابه [ممن لم يكن معه هدي] . . .) الحديث متفق عليه والزيادة لمسلم
ومن ذلك لما وصل ﷺ إلى (ذي طوى) وهو موضع قريب من مكة وبات بها فلما صلى الصبح قال لهم:
(صحيح) (من شاء أن يجعلها عمرة فليجعلها عمرة) أخرجه الشيخان من حديث ابن عباس ولكنا رأيناه ﷺ لما دخل مكة وطاف هو وأصحابه طواف القدوم لم يدعهم على الحكم السابق وهو الأفضلية بل نقلهم إلى حكم جديد وهو الوجوب فإنه أمر من كان لم يسق الهدي منهم أن يفسخ الحج إلى عمرة ويتحلل فقالت عائشة رضي الله عن ها:
(صحيح) (خرجنا مع النبي ﷺ ولا نرى إلا أنه الحج فلما قدمنا مكة تطوفنا بالبيت فأمر النبي ﷺ من لم يكن ساق الهدي أن يحل قالت: فحل من لم يكن ساق الهدي ونساؤه لم
[١١]
1 / 11
يسقن فأحللن. . .) الحديث متفق عليه وعن ابن عباس نحوه بلفظ:
(صحيح) (فأمرهم أن يجعلوها عمرة فتعاظم ذلك عندهم فقالوا: يا رسول الله أي الحل؟ قال: الحل كله) متفق عليه. وفي حديث جابر نحوه وأوضح منه كما يأتي فقرة (٣٣ - ٤٥)
قلت: فمن تأمل في هذه الأحاديث الصحيحة تبين له بيانا لا يشوبه ريب أن التخيير الوارد فيها إنما كان منه ﷺ لإعداد النفوس وتهيئتها لتقبل حكم جديد قد يصعب ولو على البعض تقبله بسهولة لأول وهلة ألا وهو الأمر بفسخ الحج إلى العمرة لا سيما وقد كانوا في الجاهلية - كما هو ثابت في (الصحيحين) - يرون أن العمرة لا تجوز في أشهر الحج وهذا الرأي وإن كان رسول الله ﷺ قد أبطله باعتباره ﷺ ثلاث مرات في ثلاث سنوات كلها في شهر ذي القعدة فهذا وحده وإن كان كافيا في إبطال بلك البدعة الجاهلية فإنه ولا قرينة هنا بل لا يكفي - والله أعلم - لإعداد النفوس لتقبل الحكم الجديد فلذلك مهد له ﷺ بتخييرهم بين الحج والعمرة مع بيان ما هو الأفضل لهم ثم أتبع ذلك بالأمر الجازم بفسخ الحج إلى العمرة كما تقدم
[١٢]
1 / 12
فإذا عرفنا ذلك فهذا الأمر للوجوب قطعا ويد لعلى ذلك الأمور التالية:
الأول: أن الأصل فيه الوجوب إلا لقرينة ولا قرينة هنا بل والقرينة هنا تؤكده وهي الأمر التالي وهو:
الثاني: أنه ﷺ لما أمرهم تعاظم عندهم كما تقدم آنفا ولو لم يكن للوجوب لم يتعاظموه ألم تر أنه ﷺ قد أمرهم من قبل ثلاث مرات أمر تخيير ومع ذلك لم يتعاظموه فدل على أنهم فهموا من الأمر الوجوب وهو المقصود
الثالث: أن في رواية في حديث عائشة رضي الله عن ها قالت:
(صحيح) (. . . فدخل علي وهو غضبان فقلت: من أغضبك يا رسول الله أدخله الله النار قال: أوما شعرت أني أمرت الناس بأمر فإذا هم يترددون قال الحكم كأنهم يترددون أحسب ولو أني استقبلت من أمري ما استدبرت ما سقت الهدي معي حتى أشتريه ثم أحل كما حلوا) . رواه مسلم والبيهقي وأحمد (٦ / ١٧٥)
ففي غضبه ﷺ دليل واضح على أن أمره كان للوجوب لا سيما وأن غضبه ﷺ إنما كان لترددهم لا من أجل امتناعهم من تنفيذ الأمر وحاشاهم من ذلك ولذلك حلوا جميعا إلا من كان معه هدي كما يأتي في الفقرة (٤٤)
[١٣]
1 / 13
الرابع: قوله ﷺ: لما سألوه عن الفسخ الذي أمرهم به:
(ألعامنا هذا أم لأبد الأبد؟) فشبك ﷺ أصابعه واحدة في أخرى وقال:
(دخلت العمرة في الحج إلى يوم القيامة لا بل لأبد أبد لا بل لأبد أبد) . كما يأتي في الفقرة (٢٤)
فهذا نص صريح على أن العمرة أصبحت جزءا من الحج لا يتجزأ وأن هذا الحكم ليس خاصا بالصحابة كما يظن البعض بل هو مستمر إلى الأبد. (١)
خامسا: أن الأمر لو لم يكن للوجوب لكفى أن ينفذه بعض الصحابة فكيف وقد رأينا رسول الله ﷺ ايكتفي بأمر الناس بالفسخ أمرا عاما فهو تارة يأمر بذلك ابنته فاطمة رضي الله عن ها كما يأتي (فقرة ٤٨) وتارة يأمر به أزواجه كما في (الصحيحين) عن ابن عمر أن النبي ﷺ أمر أزواجه أن يحللن عام حجة الوداع قالت حفصة: فقلت: ما يمنعك أن تحل؟ قال: (إني لبدت رأسي. . .) الحديث. ولما جاء أبو موسى من اليمن حاجا قال له ﷺ: (بم أهللت)؟ قال: أهللت بإهلال النبي ﷺ قال: هل سقت من الهدي؟ قال: لا
قال: (فطف بالبيت وبالصفا والمروة ثم حل. . .) الحديث
_________
(١) وقد رددنا على القائلين بالخصوصية في التعليق على الفقرة المشار إليها من الكتاب الصفحة (٦٣)
[١٤]
1 / 14
فهل هذا الحرص الشديد من النبي ﷺ على تبليغ أمره بالفسخ إلى كل مكلف لا يدل على الوجوب؟ اللهم إن الوجوب ليثبت بأدنى من هذا
ولوضوح هذه الأدلة الدالة على وجوب الفسخ بله التمتع لم يسع المخالفين لها إلا التسليم بدلالتها ثم اختلفوا في الإجابة عنها فبعضهم ادعى خصوصية ذلك بالصحابة وقد عرفت بطلان ذلك مما سبق
وبعضهم ادعى نسخه ولكنهم لم يستطيعوا أن يذكروا ولو دليلا واحدا يحسن ذكره والرد عليه اللهم إلا نهي عمر رضي الله عن هـ وكذا عثمان وابن الزبير كما في (الصحيحين) وغيرهما
والجواب من وجوه:
الأول: أن الذين يحتجون بهذا النهي عن المتعة لا يقولون به لأن من مذهبهم جوازها فما كان جوابهم عنه فهو جوابنا
الثاني: أن هذا النهي قد أنكره جماعة من أصحاب النبي ﷺ مهم علي وعمران بن حصين وابن عباس وغيرهم
الثالث: أنه رأي مخالف للكتاب فضلا عن السنة قال الله
[١٥]
1 / 15
تعالى: (فمن تمتع بالعمر إلى الحج فما استيسر من الهدي) البقرة: ١٩٦. وقد أشار إلى هذا المعنى عمران بن حصين رضي الله عن هـ بقوله:
(صحيح) (قال تمتعنا مع رسول الله ﷺ ولم ينزل فيه القرآن (وفي رواية: نزلت آية المتعة في كتاب الله - يعني متعة الحج - وأمرنا بها رسول الله ﷺ حتى مات) قال رجل برأيه بعد ما شاء) . رواه مسلم
وقد صرح عمر رضي الله عن هـ بمشروعية التمتع وأن نهيه عنه أو كراهته له إنما هو رأي رآه لعلة بدت له فقال:
(صحيح) (قد علمت أن النبي ﷺ قد فعله وأصحابه ولكن كرهت أن يظلوا معرسين بهن (١) في الأراك (٢) ثم يروحون في الحج تقطر رؤوسهم) رواه مسلم وأحمد
ومن الأمور التي تستلفت نظر الباحث أن هذه العلة التي
_________
(١) أي ملمين بنسائهم
(٢) أي في حجر الأراك كناية عن التستر به وهو شجر من الحمض يستاك به. وهو أيضا موضع بعرفة وليس مرادا هنا خلافا لبعض المعلقين على مسلم فإن الحجاج في هذا الموضع يكونون محرمين لا يجوز لهم وطأ نسائهم
[١٦]
1 / 16
اعتمدها عمر رضي الله عن هـ في كراهته التمتع هي عينها التي تذرع بها الصحابة الذين لم يبادروا إلى تنفيذ أمره ﷺ بالفسخ في ترك المبادرة فقالوا:
(خرجنا حجاجا لا نريد إلا الحج حتى إذا لم يكن بيننا وبين عرفة إلا أربع ليال أمرنا أن نفضي إلى نسائنا فنأتي عرفة تقطر مذاكيرنا المني من النساء. . .) انظر الفقرة (٤٠) وقد رد النبي ﷺ ذلك بقوله: (أبالله تعلموني أيها الناس؟ قد علمتم أني أتقاكم لله وأصدقكم وأبركم افعلوا ما آمركم به فإني لولا هديي لحللت كما تحلون) (فقرة ٤٢)
فهذا يبين لنا عمر رضي الله عن هـ لو استحضر حين كرة للناس التمتع قول الصحابة هذا الذي هو مثل قوله وتذكر معه رد النبي ﷺ عليهم لما كره ذلك ونهى الناس عنه
وفي هذا دليل على أن الصحابي الجليل قد تخفى عليه سنة من سنن رسول الله ﷺ أو قول من أقواله فيجتهد برأيه فيخطئ وهو مع ذلك مأجور غير مأزور والعصمة لله وحده ثم لرسوله
وقد يقول قائل: إن ما ذكرته من الأدلة على وجوب التمتع وعلى رد ما يخالفه واضح مقبول ولكن يشكل عليه ما يذكره البعض
[١٧]
1 / 17
هذا وبين ما ذكرته؟
والجواب: أنه سبق أن بينا أن التمتع إنما يجب على من لم يسق الهدي وأما من ساق الهدي فلا يجب عليه ذلك بل لا يجوز له وإنما عليه أن يقرن وهو الأفضل وأو يفرد فيحتمل أن ما ذكر عن الخلفاء من الإفراد إنما هو لأنهم كانوا ساقوا الهدي. وحينئذ فلا منافاة والحمد لله
وخلاصة القول: أن على كل من أراد الحج أن يأتي إحرامه بالعمرة ثم يتحلل منها بعد فراغه من السعي بين الصفا والمروة بقص شعره. وفي اليوم الثامن من ذي الحجة يحرم بالحج فمن كان لبى بالقران أو الحج المفرد فعليه أن يفسخ ذلك بالعمرة إطاعة لنبيه ﷺ والله ﷿ يقول: (من يطع الرسول فقد أطاع الله) - النساء: ٨٠، وعلى التمتع بعد ذلك أن يقدم هديا يوم النحر أو في أيام التشريق وهو من تمام النسك وهو دم شكران وليس دم جبران وهو - كما قال ابن القيم - بمنزلة الأضحية للمقيم وهو من تمام عبادة هذا اليوم فالنسك المشتمل على الدم بمنزلة العيد المشتمل على الأضحية وهو من أفضل الأعمال فقد جاء من طرق أن النبي ﷺ سئل: أي الأعمال أفضل؟
[١٨] أن الخلفاء الراشدين جميعا كانوا يفردون الحج فكيف التوفيق فقال:
1 / 18
(صحيح) (العج والثج) وصححه ابن خزيمة والحاكم والذهبي وحسنه المنذري والعج رفع الصوت بالتلبية والثج إراقة دن الهدي. وعليه أن يأكل من هديه كما فعل رسول الله ﷺ على ما يأتي بيانه (فقرة ٩٠) ولقوله ﷿ فيما يذبح من الهدي في منى (فكلوا منها وأطعموا البائس الفقير) - الحج: ٢٨
وقد اتصلنا بكثير من الحجاج فعرفنا منهم أنهم مع كونهم يعلمون أن التمتع أفضل من الإفراد فكانوا يفردون ثم يأتون بالعمرة بعد الحج من التنعيم وذلك لئلا يلزمهم الهدي
وفي هذا من المخالفة للشارع الحكيم والاحتيال على شرعه ما لا يخفى فساده فإن الله بحكمته شرع العمرة قبل الحج وهم يعكسون ذلك وأوجب على المتمتع هديا وهم يفرون منه وليس ذلك من عمل المتقين ثم هم يطمعون أن يتقبل الله حجهم وأن يغفر ذنبهم هيهات هيهات ف (إنما يتقبل الله من المتقين) - المائدة: ٢٧، وليس من البخلاء المحتالين
فكن أيها الحاج متقيا لربك متبعا لسنة نبيك في مناسكك عسى أن ترجع من ذنوبك كيوم ولدتك أمك
ثالثا: واحذر يا أخي أن تدع البيات في منى ليلة عرفة وكذا
[١٩]
البيات في المزدلفة ليلة النحر فذلك من هدي نبيك ﷺ لا سيما في البيات في المزدلفة حتى الصبح ركن من أركان الحج على الراجح من أقوال أهل العلم. ولا تغتر بما يزخرف لك من القول بعض من يسمون ب (المطوفين) فإنهم لا هم لهم إلا قبض الفلوس وتقليل العمل الذي أخذوا عليه الأجر كافيا وافيا على أدائه بتمامه وسواء عليهم بعد ذلك أتم حجك أم نقص أتبعت سنة نبيك أم خالفت؟ رابعا: واحذر أيضا يا أخي من أن تمر بين يدي أحد من المصلين في المسجد الحرام وفي غيره من المساجد لقوله ﷺ: (صحيح) (لو يعلم المار بين يدي المصلي ماذا عليه لكان أن يقف أربعين خيرا له من أن يمر بين يديه) . قال الراوي: لا أدري قال: أربعين يوما أو شهرا أو سنة. رواه الشيخان في (صحيحيهما) . وكما لا يجوز لك هذا فلا يجوز لك أيضا أن تصلي إلى غير سترة بل عليك أن تصلي إلى أي شيء يمنع الناس من المرور بين يديك. فإن أراد أحد أن يجتاز بينك وبين سترتك فعليك أن تمنعه. وفي ذلك أحاديث وآثار أذكر بعضها:
البيات في المزدلفة ليلة النحر فذلك من هدي نبيك ﷺ لا سيما في البيات في المزدلفة حتى الصبح ركن من أركان الحج على الراجح من أقوال أهل العلم. ولا تغتر بما يزخرف لك من القول بعض من يسمون ب (المطوفين) فإنهم لا هم لهم إلا قبض الفلوس وتقليل العمل الذي أخذوا عليه الأجر كافيا وافيا على أدائه بتمامه وسواء عليهم بعد ذلك أتم حجك أم نقص أتبعت سنة نبيك أم خالفت؟ رابعا: واحذر أيضا يا أخي من أن تمر بين يدي أحد من المصلين في المسجد الحرام وفي غيره من المساجد لقوله ﷺ: (صحيح) (لو يعلم المار بين يدي المصلي ماذا عليه لكان أن يقف أربعين خيرا له من أن يمر بين يديه) . قال الراوي: لا أدري قال: أربعين يوما أو شهرا أو سنة. رواه الشيخان في (صحيحيهما) . وكما لا يجوز لك هذا فلا يجوز لك أيضا أن تصلي إلى غير سترة بل عليك أن تصلي إلى أي شيء يمنع الناس من المرور بين يديك. فإن أراد أحد أن يجتاز بينك وبين سترتك فعليك أن تمنعه. وفي ذلك أحاديث وآثار أذكر بعضها:
1 / 19
١ - (صحيح) (إذا وضع أحدكم بين يديه مثل مؤخرة الرجل فليصل ولا يبالي من مر من وراء ذلك)
[٢٠]
٢ - (صحيح) إذا صلى أحدكم إلى شيء يستره من الناس فأراد أحد أن يجتاز بين يديه فليدفع في نحره وليدرأ ما استطاع فإن أبى فليقاتل فإنما هو شيطان) . (١)
٣ - قال يحيى بن كثير: (صحيح) (رأيت أنس بن مالك دخل المسجد الحرام فركز شيئا أو هيأ شيئا يصلي إليه) . رواه ابن سعد (٧ / ١٨) بسند صحيح
٢ - (صحيح) إذا صلى أحدكم إلى شيء يستره من الناس فأراد أحد أن يجتاز بين يديه فليدفع في نحره وليدرأ ما استطاع فإن أبى فليقاتل فإنما هو شيطان) . (١)
٣ - قال يحيى بن كثير: (صحيح) (رأيت أنس بن مالك دخل المسجد الحرام فركز شيئا أو هيأ شيئا يصلي إليه) . رواه ابن سعد (٧ / ١٨) بسند صحيح
1 / 20
٤ - عن صالح بن كيسان قال:
(صحيح) (رأيت ابن عمر يصلي في الكعبة ولا يدع أحدا يمر بين يديه) . رواه أبو زرعة الرازي في (تاريخ دمشق) (٩١ / ١) (٢) وكذا ابن عساكر في (تاريخ دمشق) (٨ / ١٠٦ / ٢) بسند صحيح
ففي الحديث الأول إيجاب اتخاذ السترة وأنه إذا فعل ذلك فلا يضره من مر وراءها
وفي الحديث الثاني: إيجاب دفع المار بين يدي المصلي إذا كان يصلي إلى السترة وتحريم المرور عمدا وأن فاعل ذلك شيطان
وليت شعري ما هو الكسب الذي يعود به الحاج إذا رجع وقد استحق هذا الاسم: (الشيطان)؟
_________
(١) حديثان صحيحان مخرجان في " صفة الصلاة " لنا (٥١ / ٥٣ الطبعة الثالثة)
وهو تحت الطبع في مطابع المكتب الإسلامي
[٢١]
1 / 21