History of Arabic Literature by Shawqi Daif
تاريخ الأدب العربي لشوقي ضيف
خپرندوی
دار المعارف
د ایډیشن شمېره
الأولى
د چاپ کال
١٩٦٠ - ١٩٩٥ م
د خپرونکي ځای
مصر
ژانرونه
ـ[تاريخ الأدب العربي]ـ
المؤلف: أحمد شوقي عبد السلام ضيف الشهير بشوقي ضيف (المتوفى: ١٤٢٦ هـ)
الناشر: دار المعارف
عدد الأجزاء: ١٠
[ترقيم الكتاب موافق للمطبوع وهو مذيل بالحواشي]
ناپیژندل شوی مخ
بسم الله الرحمن الرحيم
مقدّمة
للباحثين المحدثين من عرب ومستشرقين كتب مختلفة فى تاريخ الأدب العربى أدّت كثيرا من الفائدة والنفع منذ ظهورها، غير أن من الحق أنه ليس بين هذه الكتب ما يبسط الحديث فى أدبنا وأدبائنا على مرّ التاريخ من الجاهلية إلى العصر الحديث بسطا مفصلا دقيقا. وأغزر هذه الكتب وأحفلها مادة كتاب «تاريخ الأدب العربى» لبروكلمان، وهو دائرة معارف جامعة، لا تقتصر على الحديث عن شعرائنا وكتّابنا، بل تفيض فى الكلام عن فلاسفتنا وعلمائنا من كل صنف وعلى كلّ لون، مع استقصاء آثارهم المطبوعة والمخطوطة فى مشارق الأرض ومغاربها والإشارة إلى ما كتب عنهم قديما وحديثا. وهذه العناية من وصف التراث العربى جميعه جعلت بروكلمان لا يعنى عناية مفصلة ببحث العصور والظواهر الأدبية ولا ببحث شخصيات الأدباء بحثا تاريخيّا نقديّا تحليليّا، إذ شغلته عن ذلك مواد كتابه المتنوعة الكثيرة.
وإذن فأنا لا أبالغ إذا قلت إن تاريخ أدبنا العربى يفتقر إلى طائفة من الأجزاء المبسوطة تبحث فيها عصوره من الجاهلية إلى عصرنا الحاضر كما تبحث شخصياته الأدبية بحثا مسهبا، بحيث ينكشف كل عصر انكشافا تامّا، بجميع حدوده وبيئاته وآثاره وما عمل فيها من مؤثرات ثقافية وغير ثقافية، وبحيث تنكشف شخصيات الأدباء انكشافا كاملا، بجميع ملامحها وقسماتها النفسية والاجتماعية والفنية.
وقد حاولت أن أنهض بهذا العبء، وأنا أعلم ثقل المئونة فيه، فإن كثيرا من الآثار الأدبية القيمة لا يزال مخطوطا لما ينشر، وكثيرا مما نشر فى حاجة إلى أن يعاد نشره نشرا علميّا. وهناك بيئات أدبية يغمرها غير قليل من الظلام، إما لقلة ما بين أيدينا من تراثها الأدبى، وإما لأن الباحثين لم يكشفوا دروبها ومناجمها كشفا
1 / 5
كافيا. يضاف إلى ذلك أن تحليل آثار الأدباء وتقويمها ليس عملا سهلا، لكثرة ما يداخلها من عناصر الحياة والفن المتشابكة، ولأنها تتألف من معان وأساليب جميلة، وهى لا تخضع خضوعا مطلقا لقواعد العلم وقوانينه، حقّا تخضع للطريقة العلمية، ولكن باستمرار تظل فيها جوانب خاضعة للذوق ونفاذ البصيرة والإحساس المرهف. وذلك كله مما يضاعف الجهد على من يريد تأريخ أدبنا العربى تأريخا مفصلا دقيقا على اختلاف عصوره وتفاوت بيئاته، غير أنه يضاعف فى الوقت نفسه لذّته فيه، إذ يرى أمنيته فى إتقان عمله بعيدة عسيرة، لا يمكنه بلوغها إلا بشق النفس، فيجدّ ويلحّ، ويمضى فى الجدّ والإلحاح، حتى يظفر بما يريد، مؤمنا بأنه لا يقول الكلمة الأخيرة فيما يبحثه، إذ البحث الأدبىّ لا يعرف الكلمة الأخيرة فى مسألة من مسائله.
ومعنى ذلك أن هذا الجزء من تاريخ أدبنا العربى الخاص بالعصر الجاهلى -والذى ستتلوه أجزاء أخرى تتناول بقية عصور هذا التاريخ-لا أزعم أنه يحمل إلى القراء الصورة الأخيرة لهذا العصر، كما لا أزعم أن الأجزاء التالية ستحمل الصورة الأخيرة للعصور المتعاقبة. وإنما أزعم أن هذه الصورة هى التى استطعت رسمها مع ما بذلت من جهد واصطنعت من نهج وتحرّيت من دقّة، وقد يأتى بعدى من يعدّل فى جانب من جوانبها بما يهتدى إليه من حقائق أدبية غابت عنى فى بعض العصور أو بعض البيئات والشخصيات الأدبية. وتلك طبيعة الأبحاث يكمل بعضها بعضا ولا تزال فى نمو مطرد. والله أسأل أن يلهمنى السداد فى القول والفكر والعمل، وهو حسبى، ونعم الوكيل.
القاهرة فى ٢٠ من ديسمبر سنة ١٩٦٠ شوقى ضيف
1 / 6
تمهيد
١ - كلمة أدب
كلمة أدب من الكلمات التى تطور معناها بتطور حياة الأمة العربية وانتقالها من دور البداوة إلى أدوار المدنية والحضارة. وقد اختلفت عليها معان متقاربة حتى أخذت معناها الذى يتبادر إلى أذهاننا اليوم، وهو الكلام الإنشائى البليغ الذى يقصد به إلى التأثير فى عواطف القراء والسامعين، سواء أكان شعرا أم نثرا.
وإذا رجعنا إلى العصر الجاهلى ننقّب عن الكلمة فيه لم نجدها تجرى على ألسنة الشعراء، إنما نجد لفظة آدب بمعنى الداعى إلى الطعام، فقد جاء على لسان طرفة بن العبد (١):
نحن فى المشتاة ندعو الجفلى ... لا ترى الآدب فينا ينتقر (٢)
ومن ذلك المأدبة بمعنى الطعام الذى يدعى إليه الناس. واشتقوا من هذا المعنى أدب يأدب بمعنى صنع مأدبة أو دعا إليها.
وليس وراء بيت طرفة أبيات أخرى تدل على أن الكلمة انتقلت فى العصر الجاهلى من هذا المعنى الحسى إلى معنى آخر، غير أننا نجدها تستخدم على لسان الرسول ﷺ فى معنى تهذيبى خلقى، ففى الحديث النبوى:
«أدبنى ربى فأحسن تأديبى» (٣) ويستخدمها شاعر مخضرم يسمى سهم بن حنظلة
_________
(١) انظر ديوان طرفة (طبعة آلوارد) القصيدة رقم ٥ بيت ٤٦.
(٢) المشتاة: الشتاء، الدعوة الجفلى: العامة، الآدب: الداعى إلى الطعام، لا ينتقر: لا يختار أناسا دون آخرين.
(٣) انظر النهاية فى غريب الحديث والأثر لابن الأثير (طبع القاهرة ١٣١١ هـ) ج ١ ص ٣.
1 / 7
الغنوى بنفس المعنى إذ يقول (١):
لا يمنع الناس منّى ما أردت ولا ... أعطيهم ما أرادوا حسن ذا أدبا
وربما استخدمت الكلمة فى العصر الجاهلى بهذا المعنى الخلقى، غير أنه لم تصلنا نصوص تؤيد هذا الظن. وذهب «نالينو» إلى أنها استخدمت فى الجاهلية بمعنى السنّة وسيرة الآباء مفترضا أنها مقلوب دأب، فقد جمع العرب دأبا على آداب كما جمعوا بئرا على آبار ورأيا على آراء، ثم عادوا فتوهموا أن آدابا جمع أدب، فدارت فى لسانهم كما دارت كلمة دأب بمعنى السنة والسيرة. ودلوا بها على محاسن الأخلاق والشّيم (٢). وهو فرض بعيد، وأقرب منه أن تكون الكلمة انتقلت من معنى حسى وهو الدعوة إلى الطعام إلى معنى ذهنى وهو الدعوة إلى المحامد والمكارم.
شأنها فى ذلك شأن بقية الكلمات المعنوية التى تستخدم أولا فى معنى حسى حقيقى، ثم تخرج منه إلى معنى ذهنى مجازى.
ولا نمضى فى عصر بنى أمية حتى نجد الكلمة تدور فى المعنى الخلقى التهذيبى.
وتضيف إليه معنى ثانيا جديدا، وهو معنى تعليمى فقد وجدت طائفة من المعلمين تسمى بالمؤدّبين، كانوا يعلمون أولاد الخلفاء ما تطمح إليه نفوس آبائهم فيهم من معرفة الثقافة العربية، فكانوا يلقّنونهم الشعر والخطب وأخبار العرب وأنسابهم وأيامهم فى الجاهلية والإسلام. وأتاح هذا الاستخدام الجديد لكلمة الأدب أن تصبح مقابلة لكلمة العلم الذى كان يطلق حينئذ على الشريعة الإسلامية وما يتصل بها من دراسة الفقه والحديث النبوى وتفسير القرآن الكريم.
وإذا انتقلنا إلى العصر العباسى وجدنا المعنيين التهذيبى والتعليمى يتقابلان فى استخدام الكلمة، فقد سمى ابن المقفع رسالتين له تتضمنان ضروبا من الحكم والنصائح الخلقية والسياسية باسم «الأدب الصغير» و«الأدب الكبير». وبنفس هذا المعنى سمى أبو تمام المتوفى سنة ٢٣٢ هـ/٨٤٦ م الباب الثالث من ديوان
_________
(١) انظر الأصمعيات (طبع دار المعارف) رقم ١٢ بيت ٣٠.
(٢) تاريخ الآداب العربية من الجاهلية حتى عصر بنى أمية لكارلونالينو (طبع دار المعارف) ص ١٤ وما بعدها.
1 / 8
الحماسة الذى جمع فيه مختارات من طرائف الشعر، باسم باب الأدب. وينطبق هذا المعنى تمام الانطباق على كتاب الأدب الذى عقده البخارى المتوفى سنة ٢٥٦ هـ/ ٨٧٠ م فى مؤلفه المشهور فى الحديث والمعروف باسم الجامع الصحيح، كما ينطبق على كتاب الأدب الذى صنفه ابن المعتز المتوفى سنة ٢٩٦ هـ/٩٠٨ م. وفى هذه الأزمنة أى فى القرنين الثانى والثالث للهجرة وما تلاهما من قرون كانت الكلمة تطلق على معرفة أشعار العرب وأخبارهم. وأخذوا يؤلفون بهذا المعنى كتبا سموها كتب أدب مثل «البيان والتبيين للجاحظ» المتوفى سنة ٢٥٥ هـ وهو يجمع ألوانا من الأخبار والأشعار والخطب والنوادر، مع ملاحظات نقدية وبلاغية كثيرة. ومثله كتاب «الكامل فى اللغة والأدب للمبرد» المتوفى سنة ٢٨٥ هـ وقد وجّه اهتمامه إلى اللغة لا إلى البلاغة والنقد كما صنع الجاحظ، وقدم فيه صورا من الرسائل النثرية التى ارتقت صناعتها فى تلك العصور، جاء فى مقدمته: «هذا كتاب ألفناه يجمع ضروبا من الآداب ما بين كلام منثور وشعر مرصوف ومثل سائر وموعظة بالغة واختيار من خطبة شريفة ورسالة بليغة». ومما ألّف فى الأدب بهذا المعنى كتاب عيون الأخبار لابن قتيبة المتوفى سنة ٢٧٦ هـ والعقد الفريد لابن عبد ربه المتوفى سنة ٣٢٨ هـ وزهر الآداب للحصرى المتوفى سنة ٤٥٣ هـ.
ولم تقف الكلمة عند هذا المعنى التعليمى الخاص بصناعتى النظم والنثر وما يتصل بهما من الملج والنوادر، فقد اتسعت أحيانا لتشمل كل المعارف غير الدينية التى ترقى بالإنسان من جانبيه الاجتماعى والثقافى؛ فقد جاء على لسان الحسن ابن سهل المتوفى سنة ٢٣٦ هـ: «الآداب عشرة، فثلاثة شهرجانية (١)، وثلاثة أنو شروانية (٢)، وثلاثة عربية، وواحدة أربت عليهن، فأما الشهرجانية فضرب العود ولعب الشطرنج ولعب الصوالج، وأما الأنوشروانية فالطب والهندسة والفروسية، وأما العربية فالشعر والنسب وأيام الناس، وأما الواحدة التى أربت عليهن فمقطعات الحديث والسمر وما يتلقاه الناس بينهم فى المجالس» (٣). وبهذا المعنى الواسع نجدها عند إخوان الصفا فى القرن الرابع للهجرة، فقد دلوا بها فى رسائلهم إلى جانب
_________
(١) الشهرجانية: نسبة إلى الشهارجة أو الشهاريج وهم أشراف الفرس.
(٢) الأنوشروانية: نسبة إلى كسرى أنوشروان ملك الفرس من سنة ٥٣١ - ٥٧٩ م.
(٣) انظر زهر الآداب للحصرى (طبع مصر) ج ١ ص ١٤٠.
1 / 9
علوم اللغة والبيان والتاريخ والأخبار على علوم السحر والكيمياء والحساب والمعاملات والتجارات (١). ولا نصل إلى ابن خلدون المتوفى سنة ٨٠٨ هـ حتى نجدها تطلق على جميع المعارف دينية وغير دينية، فهى تشمل جميع ألوان المعرفة وخاصة علوم البلاغة واللغة، ومن ثم قال: «الأدب هو حفظ أشعار العرب وأخبارهم والأخذ من كل علم بطرف» (٢).
ومنذ القرن الثالث للهجرة نجد الكلمة تدل-فيما تدل عليه-على السنن التى ينبغى أن تراعى عند طبقة خاصة من الناس، وألّفت بهذا المعنى كتب كثيرة مثل أدب الكاتب لابن قتيبة وأدب النديم لكشاجم المتوفى حوالى سنة ٣٥٠ هـ. وتوالت كتب مختلفة فى أدب القاضى وأدب الوزير وأخرى فى أدب الحديث وأدب الطعام وأدب المعاشرة وأدب السفر إلى غير ذلك. على أن أكثر ما كانت تدل عليه مقطعات الأشعار وطرائف الأخبار.
وأخذت الكلمة منذ أواسط القرن الماضى تدل على معنيين: معنى عام يقابل معنى كلمة Litterature الفرنسية التى يطلقها الفرنسيون على كل ما يكتب فى اللغة مهما يكن موضوعه ومهما يكن أسلوبه، سواء أكان علما أم فلسفة أم أدبا خالصا، فكل ما ينتجه العقل والشعور يسمى أدبا. ومعنى خاص هو الأدب الخالص الذى لا يراد به إلى مجرد التعبير عن معنى من المعانى، بل يراد به أيضا أن يكون جميلا بحيث يؤثر فى عواطف القارئ والسامع على نحو ما هو معروف فى صناعتى الشعر وفنون النثر الأدبية مثل الخطابة والأمثال والقصص والمسرحيات والمقامات.
_________
(١) راجع الرسالة السابعة من القسم الرياضى فى رسائل إخوان الصفا.
(٢) مقدمة ابن خلدون (طبعة المطبعة البهية) ص ٤٠٨.
1 / 10
٢ - تاريخ الأدب
واضح الآن أن تاريخ الأدب لأمة من الأمم إما أن يلتزم فيه المؤرخ المعنى العام لكلمة أدب، فيؤرخ للحياة العقلية والشعورية فى الأمة تاريخا عامّا، وإما أن يلتزم المعنى الخاص، فيؤرخ للشعراء والكتّاب تاريخا خاصّا بالأدب ونشأته وتطوره وأهم أعلامه، ولعل أهم من أرخوا لأدبنا بالمعنى الأول بروكلمان فى كتابه «تاريخ الأدب العربى»، ونسج على منواله جرجى زيدان فى كتابه المسمى بتاريخ آداب اللغة العربية. ونراهما يعرضان لتاريخ الحياة الأدبية والعقلية عند العرب فى نشأتها وتطورها مع الترجمة للفلاسفة والعلماء من كل صنف والشعراء والكتاب من كل نوع. ومن غير شك يتقدم بروكلمان جرجى زيدان فى هذا الصدد بسبب المادة الغنية التى يحتويها كتابه، فقد أحصى إحصاء دقيقا أدباء العرب وعلماءهم وفلاسفتهم مع ذكر آثارهم المطبوعة والمخطوطة وما كتب عنهم قديما وحديثا، مبينا مناهجهم ومكانتهم فى الفن أو العلم الذى حذقوه، مع نبذة عن كل فن وعلم ومدى ما حدث له من تطور ورقى.
ومؤرخ الأدب العربى إما أن ينهج هذا النهج الواسع. وإما أن ينهج النهج الثانى الذى أشرنا إليه، فيقف بتاريخه عند الشعراء والكتاب مفصّلا الحديث فى شخصياتهم الأدبية وما أثر فيها من مؤثرات اجتماعية واقتصادية ودينية وسياسية، ومتوسعا فى بيان الاتجاهات والمذاهب الأدبية التى شاعت فى كل عصر. ومن المحقق أن المؤرخ للأدب العربى بمعناه الخاص يأخذ الفرصة كاملة كى يؤرخ لهذا الفرع المونق من فروع الأدب بالمعنى العام، وهو الفرع الذى يراعى فيه الجمال الفنى والتأثير فى ذوق القارئ والسامع وإثارة ما يمكن أن يثار فى نفسيهما من مشاعر وعواطف متباينة. فهو يؤرخ للأدب الخالص تاريخا مفصلا لا يكتفى فيه بالنبذ الموجزة عن الاتجاهات والفنون الأدبية ولا بالتراجم المجملة عن الشعراء والكتاب، على نحو ما يصنع بروكلمان فى تاريخه العام، بل يكتب فى ذلك الفصول الواسعة مطبّقا المناهج الحديثة فى دراسة الأدب الخالص ومن أنتجوه من الأدباء.
1 / 11
وكان من آثار سيطرة العلوم الطبيعية والتجريبية فى القرن الماضى على العقول الغربية أن نادى بعض مؤرخى الأدب هناك بوجوب تطبيق مناهجها وقواعدها على الدراسات الأدبية، وحاول نفر منهم أن يضع للأدب قوانين كقوانين الطبيعة، وتقدم سانت بيف (Sainte-Beuve) يدعو إلى العناية بشخصيات الأدباء وتعقّب حياتهم المادية والمعنوية ومؤثراتها، حتى نتبين ما ينفرد به الأديب وما يشترك فيه مع سواه من الأدباء، فإذا تبينا الطرفين أمكن أن نضع الأدباء فى فصائل وأسر على نحو ما يصنع علماء النبات إذ يرتبونه فى أنواع وفصائل نباتية مختلفة. وبالمثل يضع مؤرخو الأدب أصحابه فى طبقات وفصائل على أساس ما يقوم بين الأديب وفصيلته من تشابه، وهو تشابه تستخلص منه قوانين الأدب العلمية وما يمتاز به أصحاب كل فصيلة من خصائص وصفات. وتلاه تين (Taine) يقرر أن هناك قوانين ثلاثة يخضع لها الأدب فى كل أمة وهى الجنس والزمان والمكان، وكأنه أراد أن يحوّل تاريخ الأدب إلى ضرب من التاريخ الطبيعى، فأدباء كل أمة يخضعون لهذه القوانين الثلاثة خضوعا جبريّا ملزما، فلكل جنس خواصه، ولكل زمان أحداثه وظروفه الاقتصادية والسياسية والثقافية، ولكل مكان ميزاته الإقليمية والجغرافية، وتلك هى مؤثرات الأدب، بل قوانينه التى تطبع الأدباء بطوابعها الدقيقة. ولا حظ مؤرخو الأدب ونقاده أنه تجاهل شخصيات الأدباء وفرديتهم ومواهبهم وأصالتهم، ولو أن قوانينه صحيحة لكان كل أديب صورة مطابقة للأدباء الآخرين، ولما تميز أديب من سواه. والواقع يثبت عكس ذلك فلكل أديب شخصيته التى تجعل منه أديبا بعينه، له مقوماته.
وبجانب هذين المنهجين فى دراسة تاريخ الأدب وجد منهج ثالث عند برونتيير (Brunetiere) الذى فتن بمذهب داروين المعروف فى التطور ونشوء الكائنات العضوية وارتقائها، وكان (سبنسر) سبقه إلى نقله من العضويات إلى المعنويات، وطبقه على الأخلاق والاجتماع، فحاول هو أن يطبقه على الأدب وفنونه المختلفة، واختار لهذا التطبيق ثلاثة فنون، هى: المسرح والنقد الأدبى والشعر الغنائى، فتتبع كلا فى نشأته ونموه وتطوره وما عمل فيه من مؤثرات، وذهب إلى أن الفنون الأدبية مثل الكائنات الحية تخضع للتطور، وقد يتولد بعضها من بعض
1 / 12
على نحو ما تولد الشعر الغنائى الرومانسى فى القرن التاسع عشر من الوعظ الدينى الذى شاع بفرنسا فى القرن السابع عشر، فهذا الشعر لم يتطور عن شعر مماثل له، سبقه، وإنما تطور أو تولّد عن فن آخر على نحو ما يتطور أو يتولد كائن عضوى من كائن آخر.
وهذه الموجة الحادة التى اندفع خلالها هؤلاء المؤرخون فى القرن التاسع عشر يريدون أن يلحقوا تاريخ الأدب بالعلوم الطبيعية ويطبقوا عليه قواعدها لم تلبث أن هدأت فى أوائل هذا القرن العشرين بتأثير نمو العلوم الإنسانية، فإن هذه العلوم أثبتت أن عالم الإنسان يخضع لقوانين أعمق من القوانين الطبيعية وأن تاريخ الأدب ينبغى أن لا يلحق بالعلوم الطبيعية وإنما يلحق بالدراسات الإنسانية مثل التاريخ والقانون والسياسة وعلمى الاجتماع والنفس. وسرعان ما أخذ مؤرخو الأدب ونقاده يطبقون على الأدب نظريات اللاشعور الفردى وعقد الجنس ومكتوباته واللاشعور الجماعى ورواسب الحياة الإنسانية البدائية التى تتجلى فى الأساطير وما يتصل بها والعلاقات الاجتماعية والإنتاجية.
وسنحاول أن نؤرخ فى أجزاء هذا الكتاب للأدب العربى بمعناه الخاص مفيدين من هذه المناهج المختلفة فى دراسة الأدب وأعلامه وآثار فنقف عند الجنس والوسط الزمانى والمكانى الذى نشأ فيه الأدب، ولكن دون أن نبطل فكرة الشخصية الأدبية والمواهب الذاتية التى فسح لها سانت بيف فى دراساته. وكذلك لن نبطل نظرية تطور النوع الأدبى، فما من شك فى أن الأنواع الأدبية تتطور من عصر إلى عصر، وقد يتولد بعضها من بعض فيظهر نوع أدبى جديد لا سابقة له فى الظاهر، ولكن إذا تعمقنا فى الدرس وجدناه قد نشأ من نوع آخر مغاير له، على نحو ما يلاحظ ذلك من يدرس فن المقامة فى العصر العباسى، فإنها فى رأينا تولدت من فن الأرجوزة وما ابتغى به أصحابه فى العصر الأموى عند رؤبة ونظرائه من تعليم الناشئة والموالى ألفاظ اللغة العربية الغربية وتراكيبها العويصة. فاقتران هذه الغاية بالأرجوزة يلفتنا إلى نفس الغاية فى المقامة عند بديع الزمان والحريرى وما بين الفنين من صلات وروابط. ولا بد أن نستضئ فى أثناء ذلك بدراسات النفسيين والاجتماعيين وما تلقى من أضواء على الأدباء وآثارهم. وبجانب ذلك لا بد أن نقف
1 / 13
عند أساليب الأدباء وتشكيلاتهم اللفظية وما تستوفى من قيم جمالية مختلفة، ولا بد من المقارنة بين السابق واللاحق فى التراث الأدبى العربى جميعه.
٣ - تقسيمات تاريخ الأدب العربى وعصوره
أكثر من أرخوا للأدب العربى وزعوا حديثهم فى هذا التاريخ على خمسة عصور أساسية، هى (١) عصر الجاهلية أو ما قبل الإسلام (٢) والعصر الإسلامى من ظهور الرسول ﷺ إلى سقوط الدولة الأموية سنة ١٣٢ هـ/ ٧٥٠ م وهو العصر الذى تكونت فيه الدولة العربية وتمت الفتوح الإسلامية.
ومن المؤرخين من يقسم هذا العصر قسمين، فهو إلى نهاية عصر الخلفاء الراشدين يسمى عصر صدر الإسلام، وما يليه إلى آخر الدولة الأموية يسمى العصر الأموى. (٣) والعصر الثالث هو عصر العباسيين أو العصر العباسى ويستمر إلى سقوط بغداد فى يد التتار سنة ٦٥٦ هـ/١٢٥٨ م. ويقسم بعض المؤرخين هذا العصر قسمين: العصر العباسى الأول ويمتد نحو مائة عام، والعصر العباسى الثانى ويستقل ببقية العصر. ومن المؤرخين من يقسمه ثلاثة أقسام، يبقى فيها على القسم الأول بنفس الاسم، أما العصر العباسى الثانى فيقف به عند سنة ٣٣٤ هـ/ ٩٤٥ م وهى السنة التى استولى فيها بنو بويه على بغداد والتى أصبحت الخلافة العباسية منذ تاريخها اسمية فقط، ويمتد العصر العباسى الثالث إلى استيلاء التتار على بغداد. وقد يقسم بعض المؤرخين هذا العصر العباسى الثالث قسمين، فيقف بالقسم الأول عند دخول السلاجقة بغداد سنة ٤٤٧ هـ/١٠٥٥ م ويستقل القسم الثانى أو العصر العباسى الرابع ببقية العصر. (٤) وباستيلاء التتار على بغداد يبدأ العصر الرابع ويستمر إلى نزول الحملة الفرنسية بمصر سنة ١٢١٣ هـ/١٧٩٨ م (٥) ثم العصر الحديث الذى يمتد إلى أيامنا الحاضرة
وسنبقى فى كتابنا على العصرين الأولين، أما العصر الثالث وهو العصر العباسى فسندخل عليه بعض التعديل، وذلك أننا سنبقى على قسمين منه: عصر عباسى أول ينتهى بانتهاء خلافة الواثق سنة ٢٣٢ هـ، وعصر عباسى ثان ينتهى باستيلاء
1 / 14
البويهيين على بغداد سنة ٣٣٤ هـ. ومن هذا التاريخ إلى نهاية العصور الوسطى نبتدئ عصرا رابعا نمده إلى العصر الحديث وهو عصر الدول والإمارات، فقد تفككت أوصال الدولة العباسية وظهرت إمارات وخلافات ودول كثيرة كإمارات الفرس فى إيران وما وراءها وسيف الدولة الحمدانى فى حلب والفاطميين ثم الأيوبيين والمماليك والعثمانيين فى مصر والأمويين ثم ماوك الطوائف والمرابطين والموحدين ومن خلفوهم فى الأندلس. وحرىّ أن يبحث الأدب العربى فى هذا العصر الرابع ويؤرّخ فى كل إقليم على حدة، فيكون هناك جزء لإيران والعراق وجزء لمصر والشام والجزيرة العربية وجزء للأندلس وبلاد المغرب، وقد ينمو البحث وتتولد أجزاء أخرى، حتى إذا انتهينا من ذلك أرخنا للعصر الخامس وهو العصر الحديث وقسمناه بدوره أجزاء على البلاد العربية.
ولا أشك فى أن هذا التقسيم الجديد لعصور الأدب العربى أكثر دقة ومطابقة لتطوره وللظروف المختلفة التى أثرت فيه فإن بغداد لم تعد منذ القرن الرابع الهجرى تحتل المكانة الأولى فى الحركات الأدبية، بل لقد نافستها فى الشرق والغرب مدن كثيرة تفوقت عليها فى النهوض بالشعر والنثر تفوقا واضحا.
1 / 15
الفصل الأول
الجزيرة العربية وتاريخها القديم
١ - صفة الجزيرة العربية (١)
تشغل جزيرة العرب الجنوب الغربى لآسيا، وقد سماها أهلها جزيرة لأن الماء يدور بها من ثلاث جهات فى جنوبيها وغربيها وشرقيها، فهى شبه جزيرة، وليس فى الأرض شبه جزيرة تضاهيها فى المساحة. ويرى علماء الجيولوجيا أنها كانت متصلة بإفريقية فى الزمن المتعمق فى القدم، ثم فصلهما منخفض البحر الأحمر الذى يمتد فى غربيها، كما يرون أنه كان يغطى جزءا منها فى العصر الجليدى مروج خضراء، وكانت تجرى بها بعض أنهار، ولا تزال تشهد عليها أودية جافة عميقة.
ويطلّ عليها فى الجنوب المحيط الهندى وفى الشرق بحر عمان وخليج العرب. وتترامى متوغلة فى الشمال على حدود فلسطين وسوريا غربا والعراق وبلاد الجزيرة شرقا.
وكان جغرافيو اليونان والرومان يقولون إنها ثلاثة أقسام: العربية الصحراوية والعربية الصخرية أو الحجرية والعربية السعيدة، أما العربية الصحراوية فلم يعيّنوا حدودها ولكن يفهم من كلامهم أنهم كانوا يطلقونها على البادية الشمالية التى تصاقب بلاد الشام غربا وتمتد شرقا إلى العراق والحيرة. وكانت تقع فى شماليها مملكة تدمر التى حكمتها أسرة الزبّاء المشهورة. وأما العربية الصخرية فكانوا يطلقونها على شبه جزيرة سيناء والمرتفعات الجبلية المتصلة بها فى شمالى الحجاز وجنوبى البحر الميت، وهى التى أقام فيها النبط مملكتهم واتخذوا مدينة سلع «بطرا»
_________
(١) انظر فى صفة الجزيرة العربية كتب الجغرافية العربية وكتاب تاريخ العرب قبل الإسلام لجواد على (طبع بغداد) ج ١ ص ٨٦ وما بعدها وكتاب تاريخ العرب (مطول) لفيليب حتى (الترجمة العربية) ج ١ ص ١٥ وما بعدها وكتاب «قلب جزيرة العرب» لفؤاد حمزة
1 / 17
حاضرة لهم، وامتدت هذه المملكة فى عهد الحارث الرابع أوائل القرن الأول للميلاد إلى دمشق، غير أن الرومان استولوا عليها سنة ١٠٦ م. أما العربية السعيدة فكانت تشمل وسط الجزيرة وجنوبيها، أو بعبارة أخرى كل ما وراء القسمين الأول والثانى. وربما دل ذلك من بعض الوجوه على أن هذا القسم الثالث كان يدين بالولاء للدول الجنوبية مثل معين وسبأ.
ويقسم جغرافيو العرب الجزيرة إلى خمسة أقسام، هى: تهامة والحجاز ونجد والعروض واليمن، وتهامة هى المنطقة الساحلية الضيقة المطلة على بحر القلزم أو البحر الأحمر. وتسمى فى الجنوب باسم تهامة اليمن، وقد يبلغ عرضها فى بعض الأمكنة خمسين ميلا، وكان العرب القدماء يسمونها الغور لانخفاض أرضها، وهى أرض رملية شديدة الحرارة، وقد قامت بها بعض المرافئ والثغور مثل الحديّدة فى اليمن ومثل جدة وينبع فى الحجاز. ويقع فى شماليهما ثغر صغير يعرف باسم الوجه، ويظن أنه كان ثغر مدينة الحجر المعروفة الآن باسم مدائن صالح. وفى الجنوبى الوجه قرية الحوراء وربما كانت هى الموضع الذى أرسى فيه إليوس جالوس القائد الرومانى بجيوشه سنة ٢٤ ق. م وهى الغزوة التى أراد بها أن يفتح بلاد اليمن وباءت بالفشل الذريع.
وتمتد فى شرقى تهامة سلسلة جبال السّراة من الشمال إلى الجنوب فاصلة بينها وبين هضبة نجد ومؤلفة إقليم الحجاز المعروف، وتكثر فى هذا الإقليم الأودية والمناطق البركانية، والحرّات وهى أراض رملية تعلوها قمم البراكين. وإذا وجدت فى هذه الأراضى آبار وعيون آذنت بالخصب وقيام القرى الكبيرة مثل المدينة أو يثرب ووادى القرى فى شماليها وهو يقع بينها وبين العلا وكانت تسمى قديما دادان. ومن مدن هذا الوادى قرح وكانت تقام بها سوق عظيمة فى الجاهلية ومدينة الحجر أو مدائن صالح وقومه من ثمود. ونزل اليهود ببعض قرى هذا الوادى مثل خيبر وفدك، وامتدوا إلى تيماء فى الشمال ويثرب فى الجنوب. وكان ينزل فى هذه الجهات قبل الإسلام قبائل عذرة وبلىّ وجهينة، وقضاعة وكانت تمتد عشائرها إلى شبه جزيرة سيناء. وعثر المنقبون فى وادى القرى على نقوش عربية جنوبية وأخرى شمالية كالثمودية واللّحيانية. وأهم مدن الحجاز مكة واسمها
1 / 18
عند بطليموس مكربا (Macoraba) وكانت قبل الإسلام تمسك بزمام القوافل المصعدة إلى البحر الأبيض والمنحدرة إلى المحيط الهندى، وكان بها الكعبة بيت أصنامهم حينئذ فكان العرب يحجون إليها ويتّجرون فى أسواقها ويبتاعون ما يحتاجون إليه. وعلى بعد خمسة وسبعين ميلا إلى الجنوب الشرقى من مكة تقع الطائف، وقد أقيمت على ظهر جبل غزوان، وتحف بها أودية وآبار كثيرة أتاحت للمملكة النباتية أن تزدهر هناك من قديم، وقد عثر فيها على نقوش ثمودية.
وينبسط الحجاز شرقا فى هضبة نجد الفسيحة التى تنحدر من الغرب إلى الشرق حتى تتصل بأرض العروض وهى بلاد اليمامة والبحرين. ويسمى العرب جزءها المرتفع مما يلى الحجاز باسم العالية، أما جزؤها المنخفض مما يلى العراق فيسمونه السافلة، بينما يسمون شرقيها إلى اليمامة باسم الوشوم وشماليّها إلى جبلى طيئ:
أجأ وسلمى باسم القصيم، وهو عندهم الرمل الذى ينبت الغضا وهو ضرب من الأثل، وإليه ينسب أهل نجد فيسمون أهل الغضا. وشمالى نجد صحراء النفود وهى تشغل مساحة واسعة، إذ تبتدئ من واحة تيماء وتمتد شرقا نحو ٣٠٠ ميل وتزخر بكثبان من الرمال الحمراء، تتخللها مراع فسيحة. وإذا اقتربت من العراق مدت ذراعا لها نحو الجنوب، فتفصل بين نجد والبحرين متسمية باسم الدهناء أو رملة عالج وهى منازل قبيلتى تميم وضبّة فى الجاهلية والإسلام، حتى إذا أحاطت باليمامة انبطحت فى الرّبع الخالى وهو صحراء واسعة قاحلة يظن أنها تبلغ نحو خمسين ألف ميل مربع، وهى تفصل بين اليمامة ونجد من جهة وبين عمان ومهرة والشّحر وحضرموت من جهة ثانية، وتندمج فيها صحراء الأحقاف التى تمتد إلى الغرب فاصلة اليمن من نجد والحجاز. وهذه الصحارى التى تطوق نجدا فى الشمال والشرق والجنوب قفار متسعة، وخيرها القسم الشمالى إذ تكسوه الأمطار فى الشتاء حلة قشيبة من النباتات والمراعى. ووراء هذا القسم فى الشمال بادية الشام وهى كثيرة الأودية والواحات وبادية العراق أو بادية السماوة، وواضح أنهما لا تعدان من نجد.
وتشمل العروض اليمامة والبحرين وما والاهما. وعدّ ياقوت فى معجم البلدان اليمامة من نجد، وكانت عند ظهور الإسلام عامرة بالقرى، مثل حجر وكانت حاضرتها، ومثل سدوس ومنفوحة وبها قبر الأعشى، ويقال إنها كانت موطن
1 / 19
قبيلتى طسم وجديس البائدتين. وقد عثر فيها على نقوش سبئية متأخرة. وتمتد البحرين من البصرة إلى عمان وبها كانت تنزل قبيلة عبد القيس فى الجاهلية، وهى تشمل الآن الكويت والأحساء وجزر البحرين وقطر، وتكثر فى هذا الإقليم الآبار والمياه وخاصة فى الأحساء، ومن مدنه القديمة هجر وفى أمثالهم «كجالب التمر إلى هجر»، والقطيف وكانت تسمى أيضا الخطّ وإليها تنسب الرماح الخطية. وفى جنوبى البحرين عمان ومن مدنها صحار ودبا وكان بها سوق مشهورة فى الجاهلية.
وعرف سكان هذه المنطقة من قديم بالملاحة واستخراج اللآلى.
أما القسم الخامس من الجزيرة وهو اليمن فيطلق على كل الجنوب، فيشمل حضرموت ومهرة والشّحر، وقد يطلق على الزاوية الجنوبية الغربية من الجزيرة، وهو الإطلاق المشهور الآن. وتتألف اليمن من أقسام طبيعية ثلاثة: ساحل ضيق خصب هو تهامة اليمن وجبال موازية للساحل هى امتداد سلسلة جبال السراة ثم هضبة تفضى إلى نجد ورمال الربع الخالى، وبها كثير من الأودية والسهول والثمار والزروع بفضل أمطار الرياح الموسمية الغزيرة وقد وصفها القرآن الكريم بأنها ﴿جَنَّتانِ عَنْ يَمِينٍ وَشِمالٍ»﴾. وأتاح ذلك لسكانها أن يقيموا فيها دولا وحضارة منذ أواخر الألف الثانى قبل الميلاد إلى أوائل القرن السادس الميلادى. ويسمى قسمها الشمالى المجاور للحجاز باسم عسير، وكانت تنزله قبيلة بجيلة فى الجاهلية ومن أشهر مدن اليمن زبيد وظفار وصنعاء وعدن ونجران. ومن أشهر وديانها تبالة وبيشة وكانت به مأسدة. وتمتد شرقى اليمن حضرموت على ساحل بحر العرب، فإقليم مهرة، والشّحر ومعناه فى اللغة الجنوبية الساحل، وتنمو فى جباله أشجار الكندر وهو اللّبان الذى اشتهر به جنوبىّ بلاد العرب فى الجاهلية.
ومناخ الجزيرة فى جملته حار شديد الحرارة، وتكثر فى نجد رياح السموم التى تهب صيفا، فتشوى الوجوه شيّا، وألطف رياحها الرياح الشرقية ويسمونها الصّبا، وأكثر شعراؤهم من ذكرها. أما ريح الشمال فباردة وخاصة فى الشرق إذ تتحول إلى صقيع فى كثير من الأحيان. والأمطار عامة قليلة إلا فى الجنوب حيث تهطل أمطار الرياح الموسمية فى الصيف، وإلا فى الشمال الغربى حيث تهطل أمطار الرياح الغربية شتاء. وكثيرا ما يتحول المطر إلى سيول جارفة فى اليمن وشمالى الحجاز؛ وقد
1 / 20
وصف امرؤ القيس فى معلقته سيلا جارفا حدث بالقرب من تيماء حيث كانت منازل بنى أسد. وتقل الأمطار فى الداخل ولقلتها سموها غيثا وحيا (من الحياة) واستنزلها الشعراء على ديار معشوقاتهم وقبور موتاهم. ومتى احتبست الأمطار جفت الأرض وأجدبت وحلّ الهلاك والفناء على القطعان والرّعاء. ولطول ما كان يحدث لهم من ذلك سموا الجدب سنة، فيقولون: أصابتنا سنة أتت على الأخضر واليابس. ومن أجل ذلك كثرت عندهم الرحلة فى طلب العشب والكلأ، فترحل القبيلة بإبلها وأغنامها إلى مراع جديدة. وليس فى الجزيرة بحيرات إلا ما يقال من أن هناك بحيرة مالحة فى الرّبع الخالى، وليس بها كذلك غابات ولا أنهار جارية.
وفى الجنوب والشرق وقرى الحجاز واليمامة تكثر الزروع والثمار وتتناثر بعض الفواكه، وقد اشتهرت اليمن وما والاها قديما بأشجار اللبان والطيب والبخور، كما اشتهرت حديثا بأشجار البن، وتشتهر الطائف بالكروم، ولم يكونوا يعتمدون عليها وحدها فى الخمر بل كانوا يعتمدون أيضا على مدن الشام. والنخلة أهم الأشجار فى الجزيرة كلها. ويتردد على ألسنة شعراء نجد ذكر طائفة من الأزهار على رأسها العرار والخزامى وطائفة من الأشجار على رأسها الغضا والأثل والأرطى والسّدر (الطّلح) والحنظل والضّال والسّلم.
أما الحيوان فقد صور شعراؤهم كثيرا من أليفه مثل الخيل والإبل والأغنام ووحشيّه مثل الأوعال والظباء والنعام والغزال والزراف وحمار الوحش وأتنه وثور الوحش وبقره ومثل الأسد والضبع والذئب والفهد والنمر. ودارت الطيور الجارحة على ألسنتهم مثل الحدأة والصقر والنسر والغراب، وقلما وصفوا منهلا دون أن يذكروا القطا وهو يشبه الحمام. وذكروا كثيرا الجراد، وتحدثوا عن النّحل واشتهرت به هذيل التى كانت تغنى ببيوته وخلاياه. ومن زواحفهم الثعبان والعقرب والورل والضبّ، وفى أمثالهم: «أعقد من ذنب الضبّ».
1 / 21
٢ - الساميون (١)
تطلق كلمة الساميين على مجموعة من الشعوب فى الشرق الأوسط دلت القرابة بين لغاتها على أنها كانت فى الأصل تتكلم بلهجات متقاربة تطورت إلى لغات سمّيت جميعا باسم السامية أخذا من اسم سام بن نوح الذى ورد ذكره فى التوراة، وهى تسمية اصطلاحية، فليس هناك أمة تسمى بالأمة السامية إنما هناك صلات لغوية بين طائفة من اللغات تدل على أنها ترجع إلى أصل لغوى واحد، إذ تتشابه فى أصول أفعالها وأزمانها وفى كثير من أصول الكلمات والضمائر والأعداد. وقد قسمها علماء اللغات إلى شمالية وجنوبية وقسموا الشمالية إلى شرقية وغربية، أما الشرقية فاللغة الأكدية (البابلية والأشورية) وأما الغربية فاللغة الأوجريتية (لغة نقوش رأس شمرا) والكنعانية (الفينيقية والعبرية والمؤابية) ثم الآرامية. وقسموا الجنوبية إلى عربية شمالية وهى الفصحى وعربية جنوبية وهى لغة بلاد اليمن وما والاها فى الزمن القديم، ثم الحبشية.
وتساءل العلماء عن المهد الأصلى لأسلاف الناطقين بهذه اللغات السامية المختلفة، وتعددت إجاباتهم فى هذا الصدد، فمن قائل إنهم نشأوا مع الحاميين فى موطن واحد، لعله فى شمالى إفريقية أو فى ناحية الصومال، ومنه هاجر الساميون إلى بلاد العرب عن طريق باب المندب أو عن طريق شبه جزيرة سيناء، ومن قائل إنهم نشأوا مع الآريين فى أواسط آسيا أو فى أرمينية، ومن قائل إنهم نشأوا فى شمالى سوريا، ومن قائل إنهم نشأوا فيما بين النهرين. ومهما يكن المهد القديم لأصل نشأتهم الذى يتعمق فى عصور ما قبل التاريخ فإن الباحثين يتفقون على أن موطنهم فى العصور التاريخية هو الجزيرة العربية، فقد نزلوا بها واستقروا فيها
_________
(١) راجع فى الساميين وموطنهم الأول وأسرهم تاريخ العرب قبل الإسلام لجواد على ج ١ ص ١٤٨ وما بعدها وتاريخ العرب (مطول) لفيليب حتى ج ١ ص ٨ وما بعدها ومقدمة فى تاريخ الحضارات القديمة لطه باقر (الطبعة الثانية) ج ١ ص ١١٥ وما بعدها وج ٢ ص ٢٣٢ - ٣٠٦.
1 / 22
وعاشوا حياة مشتركة اكتسبوا خلالها هذا التشابه فى لغاتهم.
ودفعهم جدب الجزيرة وخصب ما حولها من العراق والشام واليمن إلى الهجرة فى موجات يتلو بعضها بعضا فى فترات متباعدة وكأنما كانت الجزيرة تشبه خزانا كبيرا يفيض على ما حوله فى الحين بعد الحين. وأول موجة فاضت من هذا الخزان موجة الأكديين (البابليين والأشوريين) خرجت من الجزيرة إلى العراق فى أواخر الألف الرابع ق. م وأوائل الثالث فوجدت هناك السومريين وقد عاشوا مدة تحت حكمهم، تأثروا فيها بلغتهم ودينهم وعاداتهم وكل ما سبقوهم إليه فى الحضارة والعمران. ولا نمضى طويلا فى النصف الثانى من الألف الثالث ق. م حتى نجدهم يقيمون مملكة لهم يتخذون حاضرتها مدينة أكد كان أهم ملوكها سرجون الأول (فى حدود ٢٣٥٠ ق. م) الذى مد فتوحه حتى وسعت دولته العراق والجزيرة والشام، فكانت تلك أول دولة سامية عرفت فى الشرق الأوسط. ولم تلبث أن انهارت، فقامت على أنقاضها دويلات مستقلة، وتقدمت دولة بابل فى أوائل الألف الثانى ق. م فأعادت الأمور إلى نصابها، ومن أشهر ملوكها حمورابى الذى تولى الملك فى القرن الثامن عشر ق. م وكان سياسيّا ومشرعا عظيما، واشتهر بين المؤرخين بمسلته التى سجل عليها فى ثلاثمائة سطر شريعته، وهى تصور تصويرا دقيقا القانون البابلى القديم. وامتازت هذه الدولة بشخصية سامية حية، فقد ازدهر القانون فى عهدها وازدهر الأدب بفرعيه من الشعر والقصص. على أننا لا نمضى طويلا حتى تفد أمم غير سامية من الشرق-هم الكشيون-فتخرّب بابل؛ ولا يلبث الحيثيّون وهم من أمم آسيا الصغرى أن يقضوا عليها فى أوائل القرن السادس عشر ق. م.
وبينما كانت بابل تعانى من الكشيين والحيثيين كان إخوانهم الذين هاجروا معهم من الجزيرة العربية ويمموا نحو الشمال فيما بين النهرين وهم الأشوريون ينهضون، ومعنى ذلك أنهم من نفس الموجة الأكدية. وتاريخهم يتضح منذ القرن الرابع عشر ق. م وقد اتخذوا نينوى فى بعض عصورهم حاضرة لهم، وكانت دولتهم حربية عسكرية، واستعمروا الشام وآسيا الصغرى واستولوا على بابل وحاربوا مصر، ولغتهم الأشورية تخالف البابلية فى بعض خصائصها، وقد ازدهرت فى عهدهم علوم الطب والفلك والرياضيات كما ازدهرت فنون الأدب. ولا نصل إلى القرن السابع ق. م
1 / 23
حتى تنهكهم حروبهم، ويهجم عليهم الميديون من هضبة إيران، ويستولوا على حاضرتهم نينوى. فتستقل عنهم بابل وتقوم بها الدولة البابلية الحديثة أو دولة الكلدانيين (٦٢٦ - ٥٣٨ ق. م) الذين اشتهروا بإتقانهم لعلم الفلك كما اشتهر ملكهم بختنصر بتخريبه لبيت المقدس. وسرعان ما يقضى عليهم الفرس بقيادة كورش سنة ٥٣٨ ق. م ويخضعون لدولتهم المعروفة بالكيانية. ويدور الزمن دورة وإذا الإسكندر المقدونى فى القرن الرابع ق. م يستولى على الشرق الأوسط، وبذلك ينتهى تاريخ هذه الموجة السامية القديمة موجة الأكديين من بابليين وأشوريين.
والموجة السامية الثانية التى خرجت من الجزيرة العربية هى موجة الكنعانيين، وقد بدأت فى خروجها منذ أوائل الألف الثانى ق. م ويممت الشام وسواحل البحر الأبيض الشرقية، وأسست هناك مدنا تجارية مثل صيدا وصور وجبيل وبيروت. وكان اليونان يسمون أهل السواحل من هذه الموجة باسم الفينيقيين، وقد أسسوا لهم مستعمرات فى إفريقية وآسيا الصغرى والأندلس وهم الذين اخترعوا الخط الأبجدى وعنهم انتشر فى العالم. ومن هذه الموجة الأوجريتيون الذين تغلغلوا فى شمالى سوريا وقد وصلتنا عنهم نقوش رأس شمرا فى شمالى اللاذقية وفيها شعر وحكم ومن هذه الموجة أيضا المؤابيون الذين استقروا فى شرقى الأردن وأسسوا به مملكة فى القرن العاشر ق. م، وكذلك منها العبريون الذين استقروا فى فلسطين منذ القرن الثالث عشر ق. م وقد استولى الأشوريون على مملكتهم الشمالية فى القرن السابع ق. م.
وهدم بختنصر ملك بابل حاضرتهم أورشليم فى القرن السادس ق. م وأجلى سكانها إلى بابل. ولا تلبث الآرامية أن تغلب على لغتهم، إلا أنهم ظلوا يحافظون عليها فى تعاليمهم الدينية وفى بعض كتاباتهم.
والآراميون هم ثالث الموجات السامية الكبيرة التى خرجت من الجزيرة العربية قبل الميلاد، وقد بدأ خروجهم منذ منتصف الألف الثانى ق. م. والمظنون أنهم كانوا بدوا رحّلا يتنقلون شمالى صحراء النفود فى باديتى الشام والعراق ويتغلغلون إلى خليج العقبة غربا وجنوبى الفرات شرقا. وقد استطاعوا أن يكوّنوا لهم إمارة بين بابل والخليج العربى، عرفت باسم كلد ومنها أخذ اسم الكلدانيين. ونراهم فى القرن الثالث عشر ق. م ينزحون إلى أراضى الرافدين دجلة والفرات فى الشمال، ويعرف
1 / 24