وان أكثر مطولات قصائده إنما نظم في فترة انبعاث القريحة بعد ركودها وخمودها.
وثالثة هذه الملاحظ: أن المؤثرات الخارجية التي عملت في توجيه ابن خفاجة كانت مجزأة لدى سواه من الشعراء مجتمعة لديه، وربما كانت بعض المؤثرات غير متوفرة إلا عنده، فربما انفرد في تأثيره بعيد المحسن الصوري، في بناء القصيدة كلها على الجناس الناقص؟ إن تيسر ذلك - وربما كان أول شاعر أندلسي يقتفي خطوات الشريف الرضي ومهيار الديلمي في الإشارات إلى الأماكن النجدية والحجازية عند الغمغمة المبهمة بالمواجد الذاتية، وهو أول من أدرك؟ من الأندلسيين - طريقة أبي الطيب المتنبي في لف الغزل بالحماسة وحاكاها، ولعله؟ وإن لم يذكر ذلك - متأثر ببعض أشعار الصنوبري. وهاهنا نجد مؤثرات متفرقة قد جمعت معا، ولا بد من أن تدفع بمتلقيها إلى محاولة الاستقلال والإبداع وإلا ظل صدى لمن يحاكيهم.
وأما رابعا: فان ابن خفاجة نفسه كان يدرك شدة إلحاحه على الطبيعة واستغلاله لها في شعره، وكان هو نفسه حائرا في تفسير هذه النزعة المتمكنة، فهو يقول عن نفسه مستعملا ضمير الغائب: " إكثار هذا الرجل في شعره من وصف زهرة ونعت شجرة وجربة ماء ورنة طائر ما هو إلا لأنه كان جانحا إلى هذه الموصوفات لطبيعة فطر عليها وجبلة وإما لأن الجزيرة كانت داره ومنشأه وقراره؟. حتى غلب عليه حب ذلك الأمر، فصار قوله عن كلف لا تكلف، مع اقتناع قام مقام اتساع، فأغناه عن تبذل وانتجاع " (١) . فهو يرجح أن يكون حب
(١) المصدر نفسه: ٢٩٠.