أشاح مينيلاوس بوجهه بعيدا، وهو يرى باتروكلوس يسقط صريعا، ولكنه لم يتوان عن الاستنجاد بالإغريق؛ ليقفوا معه صفا واحدا، يحمي جسد باتروكلوس البطل الشاب، ويحول بين الطرواديين وبين أن يمثلوا به، وينتهكوا حرمته. وكان هكتور قد تراجع مسافة غير بعيدة عن الجثة الممدودة فوق الأرض؛ كي يرتدي حلة أخيليوس الحربية، التي سلبها من فوق جسد باتروكلوس، ولذلك أطلق عليه جلاوكوس الغاضب لقب «الجبان».
عاد هكتور إلى الجثة الممددة فوق الأرض؛ كي ينتشلها، ولكنه لم يستطع الوصول إليها؛ إذ سدت الطريق نحوها؛ فقد قام من دونها سياج منيع حصين من الرماح الإغريقية الحادة، يمنع أي طروادي من بلوغها. ودارت المعركة حامية بين الفريقين من خلفها وأمامها، وعن يمينها وشمالها: كل فريق يستميت للظفر بها، الإغريق يريدون إنقاذ جثة بطلهم الشاب لتكريمها في معسكرهم، والطرواديون يريدون الاستيلاء عليها للتمثيل بها، وإلقائها طعاما للكلاب؛ نكاية في الإغريق، وتحقيرا لهم، وازدراء بهم.
وكان أخيليوس - آنذاك - فوق ظهر سفينته، يشهد سير المعركة التي استعر أوارها، ولكنه - بعد قليل - لاحظ أن الإغريق يتسارعون عائدين إلى معسكرهم في فوضى واضطراب مذهلين، وهو لا يدري لهذا سببا. إنه يشعر بالهم يجثم على صدره، وبالمرارة تنبت في قلبه. إنه يحس نفسه منقبضة مستوحشة. إنه يخشى على باتروكلوس الهلاك.
ولم تمض غير لحظات حتى جاءه صديق يسعى، وقد علا نشيجه، وفاضت دموعه، فأحس أخيليوس عند مرآه أن الخطر يزحف إليه زحفا سريعا، وأدرك أن في الأمر سرا، وأن وراء الرجل نبأ خطيرا. وما إن بلغه الرجل حتى قال بصوت تخنقه العبرات، ويقطعه النحيب: «أي أخيليوس، إنني أحمل إليك نبأ غير سار. لقد سقط باتروكلوس مخضبا بدمائه، بعد أن قاتل قتال الأبطال، وانتزع هكتور حلته الحربية - حلتك الذائعة الصيت - والقتال محتدم الآن بين الفريقين حول جسده العاري.»
ندت عن أخيليوس صرخة مدوية مفزعة، صكت مسامع أمه ثيتيس، فهرعت إليه، تسأله ما سبب حزنه. إن الإغريق يعانون معاناة مؤلمة من جراء إهانتهم له. «أي أماه، ليس الأمر أمر كبرياء مجروحة، ولا كرامة مخدوشة؛ فذلك كله هين الآن، ولا يضيرني. إنما هو صديقي باتروكلوس الذي أصفيته ودي، وآثرته على غيره من زملائي. إن هكتور انتزع روحه بطرف رمحه، ولن يهدأ لي بال حتى أثأر له، وأنتقم من هكتور ذاك الذي قتله.» - «ولدي الحبيب، إن عليك أن تشكر الآلهة، فلو أنك قتلت هكتور لأسرعت في اللحاق به إلى الموت.»
وفي غضب شديد، انفجر أخيليوس: «ليتني أموت الآن! فما قيمة الحياة بعد فقد أعز الأصدقاء؟ إن باتروكلوس يرقد هناك جثة هامدة فوق شاطئ غريب، دون أن تمتد يدي إليه بالعون، ولا يد أي إغريقي آخر.
تبا لهذه الأحقاد السخيفة التي أوقفتني هذا الموقف، وجعلتني أقبع في مكاني هذا خاملا عاجزا عن أن أمد لصديقي يدا. إنني سأنسى هذه الأحقاد، وسأعود إلى القتال؛ لأنتقم من هكتور، ذاك الذي قتل صديقي.» - «أي ولدي أخيليوس، لن يستطيع أحد لومك على وفائك لصاحبك، وثأرك له؛ بل إن ذلك دليل نبلك وأصالتك. ولكنك تعلم أن الطرواديين قد استولوا على حلتك الحربية، وهي تستقر الآن فوق منكبي هكتور. تريث يوما واحدا حتى أستطيع تعويضك عنها. سأحضر لك غدا حلة رائعة أبدعتها يد فنان صناع، هو الرب هيفايستوس، صانع المعادن القادر.»
وانصرف ثيتيس وقد خلفت وراءها ابنها أخيليوس، يئن قلبه تحت وطأة الحزن المقيم، ولا يؤنسه في ليله الطويل الكئيب غير نحيبه ونشيجه.
الفصل الثامن
مقتل هكتور
ناپیژندل شوی مخ