إهداء‏

الشمس‏

البيت‏

عاوز حاجة؟‏

بكاء‏

الحصان الأخضر يموت على شوارع الأسفلت‏

تذكر يا مولاي‏

النعش‏

عندما تلقاه ذات يوم‏

الذئب الذي أراد أن يدخل في جملة مفيدة1‏

يمشي على الماء‏

إلى أين؟‏

سيرة كلب يبحث عن إنسان1‏

وقائع يوم أسود‏

إهداء‏

الشمس‏

البيت‏

عاوز حاجة؟‏

بكاء‏

الحصان الأخضر يموت على شوارع الأسفلت‏

تذكر يا مولاي‏

النعش‏

عندما تلقاه ذات يوم‏

الذئب الذي أراد أن يدخل في جملة مفيدة1‏

يمشي على الماء‏

إلى أين؟‏

سيرة كلب يبحث عن إنسان1‏

وقائع يوم أسود‏

الحصان الأخضر يموت على شوارع الأسفلت

الحصان الأخضر يموت على شوارع الأسفلت

تأليف

عبد الغفار مكاوي

إهداء

إلى صديقي المرحوم؛

ضياء الشرقاوي،

شجعتني على نشر هذه القصص، وتمنيت أن أهديها إليك يدا ليد، فهل تقبلها الآن من روح إلى روح؟

الشمس

الشمس تلسع وجهي، لهيبها يحرق عيني، «صهدها» يكتم نفسي. والطريق ما زال طويلا على أن أسير ساعة أخرى، ربما ساعتين على الأرض المحمية كالجمر في التراب الذي يخنق الصدر تحت الشمس التي لا ترحم. أضع حقيبة كتبي على رأسي، بعد لحظات تصبح هي الأخرى كأنها خارجة من فرن! أبحث عن شجرة أقف تحتها، لكن المزارع بعيدة، وعمال الطرق نسوا أن يزرعوا الأشجار. أشير للعربات أن تقف وتأخذني معها، لكنها تمرق من جانبي وتغمرني بعاصفة من التراب! لو كنت سمعت نصيحة أبي وأخذت معي الشمسية! لكن ماذا كان العيال يقولون؟ ماذا كنت أفعل لو ضاعت مني؟ وماذا كان يفعل أبي؟ هو اليوم راقد في البيت، أمي قالت لي: أبوك جسمه نار، سمعته يتأوه وأنا خارج في الصباح. ألقيت عليه نظرة من وراء الباب فوجدته عصب عينيه. بالليل كان يصرخ: ابعدوا عني! ابعدوا عني! أمي قالت: أبوك عنده حمى، الشمس لطشت دماغه، ربنا يلطف بنا.

الشمس تحرق رأسي، قرصها الملتهب يطبق علي، جسدي يرتعش. لو توقفت عن السير لحظة فسأقع على الأرض؛ والأرض أيضا ستشوي لحمي، وأمي لن تراني لتقول: يا رب الطف بنا؛ إنها لا تعرف شيئا، لم تكن هنالك لترى ما رأيت، لم تدر ماذا حدث؟

أمس وأنا راجع من المدرسة مررت على أبي. في كل يوم كنت أراه في وسط الأنفار؛ الشمسية فوق رأسه، والمنديل الأبيض معصوب على دماغه. كان الأنفار يحملون الطوب على ظهورهم، أو يخلطون المونة، أو يرشون الماء على البناية، أو ينزلون الزلط من العربات. كنت أجلس معه قليلا، ثم أتابع سيري إلى البيت. وأمس عندما اقتربت من البناية كان هناك حشد كبير لم أره من قبل؛ صياح وزعيق، أصوات تلعن وأصوات تستعطف، أفندية ومشايخ، نساء وأطفال، باعة وشحاذون. اندسست من بين الصفوف لأرى أبي في وسطهم. كان هناك رجل سمين أبيض الوجه يشخط فيه ويصرخ بأعلى صوته، هل كان هو الباشمهندس أو صاحب البيت؟ كان الرجل يصيح: أنت لا تسمع الكلام؛ قلت لك ألف مرة: هذا الشغل لا ينفع. أبي يرد عليه: يا سعادة البيه، أنا أنفذ الأوامر. الرجل يزعق: أنا هنا صاحب الأمر، الأوامر تأخذها مني. أبي يستعطف: أمرك على العين والرأس، الأوامر نفذناها. الرجل يصرخ: ولك عين ترد علي يا بهيم يا حمار! ذراع الرجل تمتد، يده غليظة وبيضاء وسمينة، وخد أبي يحمر، يصبح كالجمرة المحترقة، ووجهه يسود، يصبح كالفحم.

الناس تقول: معلهش يا سعادة البيك. الأنفار تقف مذهولة، تريد أن تنقض على الرجل السمين. أبي يمسك بخناقه، يريد أن يطرحه من على السقالة. الناس تفك يده عنه، تقول له: اصبر على أكل العيش. تقول للرجل السمين: هو خادمك على كل حال.

والشمس تلسع وجهي، تشعل بركان الغضب في صدري؛ أريد أن أهجم على الرجل السمين، أن أصفعه على وجهه كما صفع أبي، أن أجعله عبرة أمام الناس، أن أعلمه درسا لن ينساه؛ لكنني أبكي. تخونني دموعي، أبتعد عن المكان لكيلا تقع عيني على عين أبي، أنهنه طول الطريق، وأغرق في دموعي وعرقي.

عندما خرجت اليوم من البيت كان أبي ما يزال راقدا على السرير، أمي اشترت لوح ثلج ووضعته على رأسه. عندما سألتها قالت: أبوك عنده حمى، جسمه نار . قلت لها: أبقى معه اليوم؟ قالت: اذهب أنت للمدرسة وخذ بالك من لطشة الشمس. وعندما رقدت في العام الماضي كنت مصابا بالحمى، أبي أحضر لي الطبيب، والطبيب قال: عنده حمى. وضعوا الثلج على رأسي، سهرت أمي إلى جانبي وبكت؛ لكن الرجل السمين لم يكن قد ضربني، الرجل السمين لم يصفعني على وجهي، وخدي لم يحمر كالنار، ووجهي لم يسود كالفحم. هي لا تعلم أنهم ضربوا أبي، صفعوه على وجهه في وسط الأنفار.

الشمس تحرق وجهي، تعمي عيني، الطريق ما يزال طويلا، قدمي تعبت، وساقي ترتعش، والشمس تضيء كل شيء؛ أين أختفي منها؟ وأين يخفي أبي وجهه؟

الآن لا أستطيع أن أذهب إلى البيت، لا أستطيع أن أنظر في وجه أبي، لا أستطيع أن أرفع عيني في عينيه، لا أستطيع أن أتحسس وجهه؛ حتى لا تلسعني الصفعة على خده، حتى لا تحرقني اللطمة التي لا يزال أثرها على خده، أين أذهب؟ إلى البناية أسال عن الرجل الأبيض السمين؟ هل هو الآن هناك؟ أفلا يزال يشخط في الناس؟ هل تمتد ذراعه السمينة وتصفع الرجال الذين يبنون؟ هل أذهب إلى المركز وأشكوه؟ هل أقدم فيه بلاغا للنيابة؟ هل أذهب إلى مقام سيدي المدبولي وأدعو عليه؟ من هو يا ترى؟ ما اسمه؟ ما عمله؟ ما الذي يعطيه القوة على صفع الناس؟ إن ساقي ترتعش، دماغي يلف ويدور، سحابة تراب تخنقني. آه لو كانت الأرض ابتلعتني، فلم أره يضرب أبي أمامي!

أبي ملاحظ عمال البناء؛ هو الذي يجمع الأنفار، ويوزع عليهم العمل. في السنة الماضية كانوا يبنون سور السكة الحديدية، كنت أذهب إليه وأتفرج على الأنفار، وأشرب معهم الشاي. لم يقل لي أبي ماذا يبنون في هذا العام؛ هل هو المركز الجديد؟ هل هو المستشفى، أو يا ترى فيلا للعمدة، أو بيت لمهندس التنظيم؟ بنى يبني بناء. قدماء المصريين أيضا بنوا الأهرام؛ مليونين وثلاثمائة ألف حجر، كل حجر يزن طنين ونصف طن، مائة ألف نفر في كل عام. ومصر كلها حجر واحد، حجر ضخم، مثلث مثل الهرم، قمته ترتفع إلى السماء، وعلى قمته يجلس فرعون، وفرعون والسلطان والباشا والخفير سخروا الفلاحين. والرجل الأبيض السمين كان دائما هناك، كان دائما يضرب الأنفار على وجوههم، والشمس كانت دائما تلسع الوجوه وتشوي الأجسام. ونابليون نفسه وقف في الشمس أمام الأهرام، وقال: إن أربعين قرنا تنظر إليكم!

أبي كان ينهنه عندما خرجت من البيت، طول الليل يتأوه ويهذي. أمي تدعو على الظالم، وتطلب من الله أن ينتقم منه، والشمس كانت هي السبب، ولهيبها الآن يحرق وجهي، ينضح العرق من جبهتي فيسقط في عيني، يصهر أعصابي، ويشعل النار في جسدي. في حصة الجغرافيا قال لنا المدرس: إن الشمس جرم سماوي هائل متوهج، تدور حولها تسعة أجرام كروية معتمة بذاتها، مضيئة بانعكاس ضوء الشمس عليها؛ تعرف بالكواكب. الأرض تدور حول الشمس مرة كل عام؛ هل تعرف الشمس أن الأرض تدور حولها؟ هل تعرف أن أبي على الأرض، وأن الرجل السمين صفعه على وجهه؟ هل تعرف وهي تدور حول نفسها كل يوم كما يقول مدرس الجغرافيا؛ أنني أيضا أدور عليها، أبحث عن الرجل السمين الذي صفع أبي، أفكر في أن أصفعه على وجهه أمام الناس جميعا، أن أسحبه من هدومه وأجعله يعتذر لأبي؛ يقبل رأسه، يستعطف أمي أن يصفح عنه؟ لكنني لا أملك سيف أبي زيد الهلالي ولا مدافع هتلر! لا أقوى حتى على حمل ساقي. والشمس تحرق وجهي، تبدد أفكاري، تشعل الحمى في عروقي. آه لو لم تكن الشمس هناك! آه لو طمرتها السحب! لو غطتها سحابة واحدة؛ واحدة فحسب.

السكة ما تزال طويلة، الشمس تحيط بي من كل مكان؛ حتى ظلي أحرقته. من الصباح وأنا تائه في الشوارع، قلت لهم: إنني سأذهب إلى المدرسة، لكنني لم أذهب إلى المدرسة، مررت على البناية ورأيت الأنفار يعملون في الأرض وعلى السقالات ويغنون. كأن أبي لم يصفعه الرجل السمين أمس، كأنهم لم يغضبوا أو يثوروا في وجهه، كأن صدى الصفعة اختفى من آذانهم. وعندما رأيت كل شيء كما كان قررت ألا أذهب إلى المدرسة؛ ماذا أفعل إذا كانت الصفعة لا تزال تطن في أذني؟ ماذا يفيدني إذا كانت الشمس تدور حول نفسها من الغرب إلى الشرق أو من الشرق إلى الغرب؛ طالما أن أبي الذي لطمه الرجل الأبيض السمين يدور معها أيضا كما تشاء؟ ماذا يفيدني أن كان ترفع المبتدأ وتنصب الخبر، وأن بلادنا مهد الحضارة من آلاف السنين؟ آه يا رب! الرعشة تزداد، رأسي يتفتت، جبهتي شعلة نار، الدنيا تغيم أمامي، العرق المبلل بالتراب يملأ عيني. سأجري الآن إلى الترعة وأبلل وجهي، لا، سأخلع هدومي وأسقط في الماء، أم أكتفي بغسل رأسي؟ لكن رأسي سينفجر، وأبي رأسه معصوب بمنديل أبيض، وأمي وضعت الثلج على رأسه. من الذي ينقذه من الحمى؟ من الذي ينقذني من الشمس؟ الشمس تجري ورائي! تحمل سيخ نار في يدها. آه! إنها تصفعني على وجهي، تلقي بي على جانب الطريق، تصفعني كما صفع الرجل الأبيض السمين أبي. هل سيعثرون علي؟ من الذي سيضع الثلج على رأسي؟ من ينقذ أبي؟ من ينقذني؟ (1964م)

البيت

كان الوقت ليلا عندما وصل الدكتور، وكانت المحطة الريفية هادئة، والقمر تفاحة مشتعلة تتوسط السماء، والسكون يغرق القرية والحقول المحيطة بها؛ فلا يكاد يسمع الإنسان - فيما عدا نباح كلاب متفرقة - سوى صوت أنفاسها البطيئة تتصاعد إلى السماء. وعندما وقف القطار راح أخوه الأكبر سليمان وابن عمه حامد - لعله لا يذكر الآن أن له ابن عم - يجريان بين النوافذ بحثا عنه. وأخيرا سمعا صوته ينادي عليهما، هرولا نحوه وهما يشعران بالارتياح؛ لأنه أراحهما من عناء البحث بين وجوه الناس، وربما شعرا كذلك بالامتنان نحوه؛ لأنه لم يتعبهما كثيرا في تذكر وجهه الذي لا بد أنه تغير كثيرا. عانقه أخوه بحرارة واستعذب طعم شفتيه على فمه وبين عينه. قال الدكتور لنفسه: لماذا هزل سليمان إلى هذا الحد؟ ربما كان السكر أو البلهارسيا اللعين! وسقط ضوء القمر على رأس أخيه فخنقته الدموع. ها هو ذا الرأس قد شاب ولم يبلغ أخوه الأربعين. يا لبلدنا الذي لا يعرف الشباب ولا يرحمه! وأقبل ابن عمه فشده إليه بعنف كاد يخنقه، وأخذ يخبط على يده فأحس كم هي خشنة أيدي الفلاحين!

حلف شقيقه أغلظ الأيمان وحمل حقيبته، وخاف شهامة ابن عمه فسلم له الأخرى قبل أن يفتح فمه، وسار في الوسط وهو يبتسم لذكرياته، ويعانق القمر والأشجار والأرض المخضرة بنظرته وضحكاته. خبط حامد على ظهره وقال: والله سلامات؛ خمس سنين يا رجل! وانتزع سليمان نفسه من أحلامه وأحزانه ورفع رأسه إلى وجهه الأبيض الناعم، وقال: شرفتنا يا دكتور، البلد نورت. قال الدكتور: والله وحشتموني، هل تعرف ما في نفسي الآن؟ أن أذهب إلى بيتنا، وألبس الجلابية والطاقية، وأتمدد على الكنبة في المنظرة. وجم سليمان ونظر إلى ابن عمه، سكتا ولم يقولا شيئا. سبح الدكتور في ذكرياته: المزلقان، شريط السكة الحديدية، الكرة الشراب، خناقاته مع الأولاد، والشعر الذي كان يكتبه باللغة الإنجليزية وهو يتمشى على هذا الطريق.

غطت سحابة سوداء وجه القمر، هبت نسمة برد، فندم؛ لأنه لم يلبس «البلوفر». بدأت قطرات المطر تسقط رذاذها على شعره ووجهه، وسمعا من بعيد جلبة وصياحا. هتف حامد متسائلا: فرح محمد ابو اسماعيل الليلة؟

وأقبلت زفة في اتجاههم، وعندما اقتربت منهم لمح الدكتور رجالا وصبية يصيحون ويهتفون. كان بعضهم يحمل الكلوبات في يده، وفي الوسط يخطو العريس الأسمر الطويل في معطفه الأسود والطربوش على رأسه. ابتسم الدكتور، بانت السعادة على وجهه وملأت قلبه، هتف الرجال: يحيا العريس، يحيا العريس. وعندما مر الموكب الصغير بهم أوقفوه، وقالوا: سلام للجدعان، عقبال عندكم وعند أولادكم يا رجال.

تقدم الدكتور وسط الرجال وصافح العريس في حرارة، هتف رجل منبها العريس: الدكتور احمد ابو المعاطي يا اسماعيل. عانقه العريس وشد على يده، سأله في إخلاص: إزي حال أمريكا يا دكتور؟ ورفع فلاح صوته: أين «العروسة الأمريكاني»؟ ضحك الدكتور وقال: وبنات بلدنا يا جماعة عيبهم إيه؟ قال الجميع: والله فيك الخير. فتحت امرأة باب بيت مجاور وزغردت، صاحت بأعلى صوتها: والله لازم تشربوا الشربات، هتف العريس عندما أقبلت المرأة بالصينية وعليها الأكواب الحمراء: والله لا انت شارب الأول يا دكتور. زغردت المرأة وشرب الجميع. شد الدكتور على يد العريس مرة أخرى، وقال له وهو يضحك: مبروك، شد حيلك «يا ابو اسماعيل».

كانت قطرات المطر لا تزال تسقط متفرقة، والقمر يحاول أن يطل بين السحب السوداء، وكان الدكتور يبتسم في سره؛ فلم يلاحظ أن حامدا يهمس في أذن شقيقه الذي سار مطرق الرأس. قال سليمان: والله أوحشتنا يا دكتور، حمدا لله على السلامة. قال الدكتور ضاحكا: الله يسلمك، والله أنتم الذين أوحشتموني، كيف حال صلاح وجميلة؟ (كان هذان هما اسمي طفلي سليمان).

قال شقيقه: «يبوسان الأيادي»، إن شاء الله تقعد معنا يومين؟ قال الدكتور: كله على الله، الشغل في مصر ينتظرني.

قال سليمان: في الجامعة إن شاء الله؟ قال الدكتور: لا، في المؤسسة.

هتف حامد: مؤسسة اللحوم؟

ضحك الدكتور بصوت جعله يتعجب من نفسه: كل شيء جائز؛ لكنهم طلبوني في مؤسسة الطاقة الذرية. قال حامد: الذرية؟ يعني حضرتك دكتور في الذرية. قال سليمان ينبهه: يا جدع ده دكتور في الذرة، أول واحد في المديرية كلها. قال حامد وكأنه فهم: آه! طيب كنت «قول» من الأول. ضحك الدكتور وأمسك برأس حامد وقبله. لم يدر لماذا فعل هذا؟

سار الثلاثة صامتين. كان الدكتور يسأل بين حين وحين عن الزرع والمحصول، أو يستفهم عن غيط يبدو من بعيد، أو عن التقاوي الجديدة، وحال الناس مع الجمعية والدودة التي قرأ وهو في البعثة عن بهدلتها للقطن والفلاحين. وعاد يسأل عن البيت والمنظرة، وهل يسهرون فيها كالعادة في رمضان؟ ثم التفت لأخيه، وقال: لم تفدني عن صحة الوالد؟ هل وصلتكم آخر شحنة من الدواء؟ سمع حامد يهمس في أذن أخيه بصوت مسموع: قل له، يا رجل قل له.

قال سليمان بعد أن تغلب على تردده: اسمع يا دكتور.

قال الدكتور: تكلم يا سليمان، خير إن شاء الله. وأراد سليمان أن يقول خيرا، أو يقول شيئا آخر حين رن في سمعه صوت رجال يهتفون: تفضلوا يا جماعة، تفضلوا يا إخواننا، نفسكم معنا يا شيخ سليمان، ونظروا فرأوا جماعة من الفلاحين ملتفين حول شيء لم يره الدكتور، ولمح الدكتور بقرة تقف بعيدا عنهم بقليل، ورجلا يمسك بحبل مربوط حول رقبتها. أما الجماعة التي نادت عليهم فكان معظمهم راكعا على الأرض حول ثور ممدد بطوله كالبطل الصريع، وكان بعضهم يمسك برأسه أو قرينه، وبعضهم برجليه الأماميتين والخلفيتين، في حين راح رجلان يقيمانه من ظهره ويدفعانه بكل قوتهما على الوقوف.

تقدم الدكتور بعد أن قرأ السلام، فاقتحم الحلقة حتى اقترب من الثور. قال رجل: حصلت البركة يا سيدنا الأفندي، وقال آخر: عنك انت يا بيه، لا مؤاخذة الثور داخ شوية ووقع على الأرض. ضحك بعض الرجال. تقدم سليمان وحامد؛ ليساعدا في رفع الثور عن الأرض. لاحظ الدكتور أن الثور ينهج ويزفر بصوت كحشرجة الميت، أقبل على رأسه يفحصه، ورأى كيف تنظر إليه عيناه الواسعتان؟ قال أحد الرجال بعد أن عرف من حامد أنه دكتور: يدك فيها البركة يا دكتور، ربنا يجعل فيها الشفا إن شاء الله. نبه سليمان إلى أن شقيقه دكتور في الذرة لا في الثيران. لم يفهم الرجل؛ فاستمر يقول: أصل لا مؤاخذة كنا ننططه على البقرة؛ لكن يظهر أن الثيران مثلنا ما عاد فيها حيل! ضحك أحد الرجال، وكان يمسك بساق الثور ويدلكها: طيب والنبي مصيره ينطحك يا عبد الله.

سأل حامد فجأة وكان يجاهد مع الرجال في رفع الثور: إلا قل لي يا سي الدكتور، صحيح أمريكا فيها ناطحات السحاب؟ يعني دول لا مؤاخذة ثيران ولا بقر؟ قال سليمان: والله انتم اللي تعيشوا وتموتوا عالم بقر!

ضحك الرجال وضحك الدكتور، قال في نفسه: ما أجمل هذا كله! ما أبسط الناس هنا! ما أطيب الفلاحين!

نجح الرجال أخيرا في إيقاف الثور، أمسك به اثنان من الحبل واثنان من صدره. قال أحد الفلاحين: حصلت البركة يا سيدنا الأفندي. أصلح كلامه فلاح آخر، وقال: كله بأنفاس سعادة الدكتور. ربت الدكتور بيده على ظهر الثور ثم سلم على الجميع، تذكر أنه طالما حضر في صباه تنطيط الثيران ، تعجب لأنه لا يزال يذكر الشيخ «دسوقي» حكيم البهائم كما كان يسميه، قال لنفسه وهو يبتسم: والله زمان! ثم ضحك من قلب صاف، وقال: يسعد الله مساءكم.

سار الثلاثة الآن على طريق المزلقان، عاد سليمان إلى صمته ووجومه، وعاد حامد يهمس في أذنه. قال الدكتور: نروح على البيت يا جماعة؟

قال سليمان: نتمشى شوية في الطراوة.

كان المطر قد توقف والسحابة اختفت من على وجه القمر. سأل الدكتور بعد أن تطلع إلى وجه أخيه ثم إلى السماء: هل تخفي عني شيئا يا سليمان؟ قال حامد: اسمع يا سي الدكتور. أكمل سليمان: أنت رجل مؤمن وموحد بالله. قال الدكتور وقد داهمه إحساس غامض: تكلموا يا جماعة؛ أنا كنت حاسس بكل شيء. تشجع سليمان وقال: أبوك الله يرحمه مات من سنتين! كان نفسي أكتب لك؛ لكن أختك الكبيرة خافت عليك. صمت الدكتور قليلا، تطلع إلى وجه أخيه، ثم إلى القمر وسكت، فرت دمعة من عينه حين قال شقيقه: عملنا له مشهد عمر البلد ما شافته؛ نصبنا «الصيوان» في أرض الباشا وعملنا له أعظم مأتم، كانت ليلة عظيمة وربنا أكرمه آخر كرم. قال الدكتور بعد قليل: كان نفسي أشوفه قبل ما يموت. قال سليمان: الله يرحمه كان يدعو لك ويسأل عنك كثيرا. قال الدكتور: تعب الآخر يا سليمان؟ قال سليمان: أي نعم، الشلل بعيد عنك. كان ساعات يغيب عن وعيه، ولما يفوق يسألني: ابننا مش ها يرجع يا ابني؟ أقول له: إنت مش فاكر اسمه يا آبه؟ ابننا اللي في بلاد بره؟ أقول له: إن شاء الله يرجع لما ياخد الدكتوراه. يقول لي ربنا يسلمه يا ابني ويسلم كل اللي زيه. قال الدكتور: ألم تكن تقرأ عليه خطاباتي؟ قال سليمان: أقرأ عليه؟ ده ساعات كان ينساك وأقعد أفكره بيك، وفي مرة جبت له صورتك وانت في أمريكا مع أصحابك، قعد يطل فيها ويقول: مين ده يا ابني؟ قلت له ده ابننا أحمد يا آبه، يسألني: إحنا لنا ابن بالاسم ده يا ابني؟ ثم يسكت ويتوه، وبعدها يقول: ربنا يسلمه هو واللي معاه.

صمت الدكتور، فكر في نفسه: لو كنت أعرف لحضرت، ليتني رأيته قبل أن يموت! والتفت ناحية الجبانة الراقدة وراء المزلقان في حضن التل، وتصور نفسه وهو يقف في الصباح على قبر أبيه ويقرأ الفاتحة، أراد أن يفعل شيئا ليقنع أخاه بأنه سلم أمره لله، خنقته الدموع وخجل لأنه لا يستطيع أن يبكي، تذكر أنه كان من عادته في مثل هذه الأحوال أن يتجمد كالحجر وحين يختلي بنفسه ينفجر كالطفل في البكاء، حاول أن يبتسم وتشجع وقال: البركة فيك يا سليمان وفي الأولاد. قال سليمان وقد أحس بالارتياح: إيه! البركة فيك أنت يا دكتور. ربنا قادر يكتب لك طول العمر وتحيي اسم والدك وبلدك. وشعر حامد أن من واجبه أن يقول شيئا، ففتح فمه مترددا وقال: الموت علينا حق يا سي الدكتور وأنت سيد العارفين. سكت الدكتور لحظة شعر فيها بالتعب يتسرب إلى جسده، تمنى أن يرى نفسه راقدا على الكنبة العتيقة في المنظرة، في نفس المكان الذي كان يجلس فيه أبوه بعد الصلاة ليقرأ القرآن، قال لنفسه: نعم سأحيي ذكرى المرحوم بأبحاثي وتجاربي؛ ولكنه تشكك في كلامه فسأل: ولكن ماذا يستفيد؟ ورأى أن كل ما سيفعله لن يخلصه من الخجل الذي يحس به نحو أبيه.

قال لأخيه ضاحكا: المهم انك معمر البيت. تجهم أخوه على غير ما يتوقع، لم يقل شيئا. لاحظ أن حامدا قد بدا عليه الحرج وتأوه من ثقل الحقيقة بصوت مسموع. ظهرت من بعيد عربة نقل كبيرة تقترب من المزلقان، سطع الكشاف عليهم فأضاء وجوههم، ووضع الدكتور يديه أمام عينيه. اقتربت العربة ورآها تتكدس بالبشر: رجال ونساء وصبية يصفقون ويغنون ويهتفون، كانت أصواتهم التي يتداخل فيها الصياح والزغاريد تظهر بؤس أصحابها أكثر مما تخفيه، تأملهم طويلا وهم يمرون عليه ويشيرون بأيديهم النحيلة السمراء، ويرددون: «عطشان يا صبايا دلوني على السبيل ...»

لاحظ وجوههم الشاحبة الصفراء، وجلاليبهم القذرة، وطواقيهم التي تغطي رءوسا متعبة من لهيب الشمس واللف والجري في بلاد الله.

قال سليمان: الأنفار خلصوا الجمع ومروحين. تذكر الدكتور أنهم عمال التراحيل، وأعجب بنفسه؛ لأنه لا يزال يذكر هذه التسمية. قال لنفسه إنه طالما أشفق عليهم وهو صغير، سألها: ترى هل يظلون كذلك في عصر الذرة؟ عاد يلح عليها بالسؤال: ماذا تفيد الدكتوراه إن لم تساعد هؤلاء؟ أحس في لحظة كأن كل جهده وعمره ضاع عبثا، تمثل له الغلب والشقاء على لقمة العيش والجري وراء الأرزاق، بدا له أنه طوفان أسود يغرق كل المعادلات التي تعب في فهمها، والمعادلات التي شقي في اكتشافها. قال سليمان وقد لاحظ اهتمامه بهم: ناس طيبين وعلى الله، عمر البلد ما اشتكت منهم، دائما ضيافتهم خفيفة. سكت الدكتور ولم يرد.

عبروا المزلقان وساروا في الطريق المؤدي إلى البيت. وقف سليمان لحظة ثم قال: باقول يا دكتور نتعشى عندي الليلة. سأل الدكتور مستغربا: عندك؟

أسعفه حامد: أصل يعني سي سليمان بنى له بيت، عقبال عندك إن شاء الله تبني لك فيلا في مصر ونحضر لزيارتك. قال الدكتور: أخفيت عني هذا أيضا. قال سليمان محاولا الابتسام: قلت أعملها مفاجأة. قطب الدكتور وجهه وقال: لا، نفسي أروح بيتنا الأول، الصبح أزورك وأتغدى مع الأولاد. تردد سليمان. أشاح حامد بوجهه بعيدا. ضحك الدكتور وقال: الله! يالله بنا على البيت.

سار الدكتور في المقدمة، لم يجد سليمان وحامد بدا من متابعته، تهامسا قليلا؛ ولكن لم يجرؤ أحد منهما على مصارحته. كان هو أيضا مشغولا عنهما بذكرياته عن أبيه وأمه وإخوته الذين ماتوا في طفولتهم، والحجرة الصغيرة الدافئة التي ولد فيها، والحمام الضيق والطست الذي كان دائما ينزلق فيه. وكان سيره الحثيث واستغراقه في الذكريات لا يمنعانه من تحية المارة والتطلع إلى البيوت التي لم يغير شكلها الزمان، والابتسام لكل ما يراه من مبان أو أشجار أو بهائم أو مخلوقات.

لم يكن البيت بعيدا عن المزلقان؛ فلا يكاد الإنسان يخطو عشرين أو ثلاثين مترا في الطريق المنحدر منه، ثم ينعطف في طريق آخر ضيق معروف بالطاحونة التي أقيمت في نهايته، ويخرج منه إلى ساحة صغيرة تطل على سوق القرية من ناحية وأحد المقاهي المشهورة بشاعر الربابة من ناحية أخرى؛ حتى يرى البيت بعدهما بقليل.

كان سليمان وحامد يسيران وراءه صامتين. حاول سليمان أكثر من مرة أن يقول شيئا؛ لكنه لم يعرف كيف يبدأ؟ ولا ماذا يقول؟ ألح عيله حامد وقرص ذراعه وخبطه على ظهره؛ لكنه كان يهمس له: خبر أبيه أهون. قل له انت يا عم؛ لذلك آثرا السكوت إلى أن نبهتهما صيحة خرجت من الدكتور: سليمان، حامد، ماذا حدث؟ اقتربا منه ووضعا الحقائب على الأرض، نفخ سليمان في يده، وطقطق حامد أصابعه. لم تخطئ عين الدكتور ولا أخطأت ذاكرته، لم يحتج أن يطيل البحث عن البيت. كانت هناك عروق من الخشب قائمة، وأكوام من التراب مكدسة، ورجل أو اثنان يجمعان الأخشاب على عربة كارو، وثالث خلع جلبابه وبقي عاري الصدر بسرواله الطويل، يرفع التراب في مقطف، ويكومه على جانب الطريق.

هتف الدكتور: بيتنا يا سليمان؟ تقدم منه سليمان ووضع ذراعه على كتفه.

قال مطرقا برأسه: كان لا بد عنها يا دكتور؛ البيت وقع وجاءته الإزالة.

سأل الدكتور: الإزالة؟ من الكلب الذي أمر بها؟ قال سليمان: أنا عملت الصالح يا حبيبي. أختك أخذت حقها، وحقك محفوظ إن شاء الله. قال الدكتور وقد أحس بجرحه: حقي؟ من الذي يتكلم عن حقوق؟ لماذا لم تأخذ رأيي؟

أراد أن يصرخ في وجهه، أن يلعنه ويصفه بالقسوة والتوحش والجشع، أن يستحلفه بذكريات طفولته وشبابه، بالدفء الذي راح، بالحب الذي ضاع، بالأيام الحلوة والمرة التي عاشها فيه. لم يستطع أن يفتح فمه؛ بدا له الاحتجاج سذاجة لا تليق به، والصراخ اتهاما لا داعي له!

نظر إلى سليمان وحامد فوجدهما صامتين، رأى في صمتهما طلبا للصفح ورغبة في التسليم، أشار إلى البيت وأراد أن يسأل: هل هذا هو بيتنا؟ وجد أن السؤال سيضيع في الفراغ.

توقف في مكانه كأنه شد إلى الأرض بمسامير، أخذ يراقب العمال الذين يقذفون بالأخشاب في رتابة على ظهر العربة والصوت الذي تحدثه كأنه تكسر ضلوعه.

لم يحس بأخيه الذي اقترب منه، ومد ذراعه فوضعها على كتفه، وعندما شعر بلمسته انتفض جسده، وانزلقت قدماه فجأة فسقط على وجهه!

تناثر الطين حوله، غاص بصدره في الوحل، دخلت قطع منه في عينه ولطخت جبهته.

أسرع أخوه وابن عمه يساعدانه. وجد نفسه يتشبث بالأرض، وينشج وهو يشير للبيت، ويضرب بيديه في الطين. قال لنفسه: الدكتور غرق في الوحل، الدكتور لن ينقذه منه أحد.

انفجر البركان من صدره واشتد نشيجه، سمع نفسه يقول: أبي، أبي، انهدم برج بابل، سدت كل الأبواب! (1968م)

عاوز حاجة؟

كان هذا السؤال الذي عرفناها به، هذه المرأة الظريفة المسكينة، الملفوفة في السواد من رأسها إلى قدميها - كأنما خرجت من مستنقع الحزن الأبدي - ذات الوجه الصغير الشاحب، والعينين اللتين يطالعنا منهما أسى جارف؛ ولكنه مستسلم وديع.

كنا نراها تسير في شوارع قريتنا بلا انقطاع، حتى خيل إلينا أنها ولدت ماشية! ذراعاها تستريحان على صدرها الضيق الذي لا يكاد يعلو أو يهبط، تسندان ملاءتها الذابلة المغبرة؛ لطول ما تعرضت للشمس والتراب، وعيناها؛ نعم عيناها؛ فقد كان كل ما في وجهها هاتين العينين اللتين لم يخلق الجسد إلا ليحملهما - تتابعان عابري السبيل في إشفاق لا حد له، وتغمران بالحنان كل ما تصادفه؛ الرجال العائدين من الحقول، والنساء الذاهبات إلى السوق أو المأتم، والأطفال الذاهبين إلى الكتاب أو المدرسة البعيدة، حتى الحيوانات التي تجري على رزقها كان لها من حنانها نصيب! تقابل إنسانا وليكن فلاحا عائدا من حقل له، ومعه جاموسته وحماره وكلبه، وقد تكون معه امرأته وطفله على ظهر الحمار أو سائرين على الأرض، فتقف أمام موكبه الصغير، وتقول فجأة: عاوز حاجة يا حبيبي؟

ويوقف الفلاح جاموسته وحماره اللذين لا يفهمان سببا لذلك، ويسأل بدوره: حاجة إيه يا حاجة؟

فترد بصوتها الهادئ المبحوح قليلا: أي حاجة في نفسك يا ابني، قول على اللي انت عاوزه.

ويسكت الرجل لا يدري ماذا يقول أو يفعل؟ ويدور الكلب حولها ويتشممها وينبح غاضبا للوقفة التي لا داعي لها، وتتصعب المرأة وتضع يدها على خدها: يا عيني عليك!

وينتبه الرجل إلى نفسه، فيقول وهو يجذب حبل الجاموسة: إدعي لربنا يسترنا وإياك يا حاجة.

فتقول المرأة بصوتها الهادئ الطبيعي وهي ترى القافلة الصغيرة تبتعد عنها: حاضر يا ابني، مستورة إن شاء الله.

ثم تمضي في طريقها الذي لا يدري أحد من أين يبدأ ولا ينتهي، بغير أن تنتبه إلى دعوة إلى الله أن يشفيها ويشفي مرضانا ومرضى المسلمين بحق هذا اليوم، أو ضحكة يعبر بها صاحبها عما في الدنيا من عجائب وأحوال.

في البداية لم يكن يدري أحد كيف يجيب عن سؤالها؟ أو ماذا يقول أو يتصرف حيالها؟ فالسؤال يلقى فجأة بصوت حنون فيه بحة كشهقة طفل يبكي، يخرج من فمها طبيعيا كالنفس الذي يخرج من فمها؛ فلا يثير أي رغبة في الجواب أو جهد في البحث عنه. - «عاوز حاجة يا ابني»؟ أو «عاوز حاجة يا حبيبي»؟ ...

تأتي هادئة وثابتة كأن صاحبها يقول: إزي صحتك؟ أو سلامات يا ابني، أو إن شاء الله تكون بخير. شيء كان يلقى علينا، فنراه أمامنا كما نرى شجرة أو نهرا أو سحابة، ولا يخطر ببال أحد أن يسأل ماذا تريد الشجرة أو النهر أو السحابة؟ فكما يسير الناس في شوارع قريتنا وحاراتها ويقابلون عربة يجرها حصان، أو كلبا ينبح بغير سبب، أو قطة تقف على عتبة باب، أو طفلا يبكي على ذراع أمه أو شحاذا يمدح النبي ويطلب الأجر والثواب لعباد الله، فلا يجد أحد في ذلك شيئا غير مألوف؛ فكذلك صاروا مع الزمن يقابلون هذه المرأة، فيتوقعون أن تقف هادئة أمامهم، وتلقي عليهم بسؤالها الذي لا يتغير: عاوز حاجة؟

صحيح أننا كنا في مبدأ الأمر نصاب بالحيرة والمفاجأة، ويرتج علينا لحظة، فلا ندري بم نجيب؟ وقد نفكر بالفعل في أن نفضي بحاجة تدور في نفوسنا؛ لكن الواحد منا كان يصحو بعد قليل على هذا الشبح الآدمي الواقف أمامه، ويسأل نفسه: ماذا يمكن أن تفعله هذه المسكينة من أجله؟ وهل فعلت هي لنفسها شيئا أو قضت لنفسها حاجة حتى تسأل الناس عن حاجاتهم؟ وكانت تقابل الرجل منا، فتتجه نحوه وتقف أمامه، فيضطر أن يوقف سيره وينتظر سؤالها الذي يكون قد سمعه منها أو سمع به من أحد الناس، وغالبا ما يشده شيء مجهول إلى الأرض، ويمنعه من المضي في طريقه؛ ربما يكون حب الاستطلاع، أو الخوف من الإساءة إلى مخلوق يرى بنفسه ضعفه وسوء حاله، أو الرغبة التي تجعلنا نشتاق لإنسان يسألنا عن حاجتنا والأمل الغامض في أنه ربما ساعدنا على قضائها! يكون الواحد منا سائرا في طريقه، وإذا به يسمع السؤال الذي عرفناه من قبل: عاوز حاجة يا حبيبي؟

ويقف بحسن نية أو لإحساس خفي بأن كل إنسان لا بد أن يعوز حاجة ويسأل: نعم يا ست؟

وتكون المرأة قد اقتربت منه ووقفت أمامه وجها لوجه وثبتت عليه عينين تفيضان بعطف لا حد له: باقول عاوز حاجة يا ابني؟

ويسأل - في دهشة أو مكر أو رغبة في الدعابة أو لمجرد أننا نريد أن نسد الباب الذي تأتي منه الريح: حاجة زي إيه يا ستي؟

فتقول في صوتها الهادئ: أي حاجة يا حبيبي، قول اللي نفسك فيه.

فيسأل وقد بدأت الابتسامة تكسو الشفتين: يعني لو قلت لك على حاجة تعمليها؟

فتقول: العمل عمل الله يا حبيبي، قول وأنا أقول لهم.

ويحفزنا هذا إلى سؤال جديد: مين همه يا حاجة؟

وفجأة ترفع رأسها إلى السماء ثم تخفضها إلى الأرض، وتشير هنا وهناك، وتمسح على وجهها وصدرها، وتقول: مين؟ حد يجهلهم؟ دول ملو السما والأرض يا حبيبي!

وبالطبع لا يجد الإنسان بعد ذلك رغبة في إطالة الحديث ولا الإفضاء بحاجته؛ بل يكتفي بالدعاء إلى الله أن يشفيها ويشفي المسلمين ويسترنا وإياها دنيا وآخرة، أو قد يحن قلبه، فيضع يده في جيبه، ويمدها إليها بما قسم؛ حسنة لله بعيدة عن كل الألسن والعيون، وإذا بها تتراجع فجأة وتسحب يدها التي كانت تشير بها إلى الأرض والسماء، كأنها تخشى عليها من لدغة عقرب أو ثعبان، وتقول بصوتها الذي ترن فيه الآن بحة الحزينة المصدومة: لا يا حبيبي، مستورة والحمد لله، والنبي مستورة.

ونعزم عليها، فتقول في عتاب: لا يا ابني، ده اللي عندي فايض علي، إذا كنت انت عاوز حاجة قول، قول يا حبيبي وأنا أقول لهم، قول يا ابني، عاوز حاجة؟

كان هذا في البداية هو موقفنا منها، أو كان يمكن أن يظل هو موقفنا منها؛ لولا أن تدخل بعد ذلك الأطفال والنساء. كان يمكن على أن تستمر على برنا بها، وإشفاقنا عليها، وسماعنا لسؤالها كأنه تحية منها أو واجب كتب عليها - لسبب لا ندريه ولم نهتم بالبحث وراءه - أن تؤديه كلما قابلت أحدا منا أو قابلها؛ ولكن ماذا نفعل إذا كانت الدنيا لا تخلو من الأطفال في كل وقت، وبخاصة في الصباح عندما يذهبون إلى الحقل أو الكتاب أو المدرسة، ولا تخلو أيضا من النساء الثرثارات في البيوت وعلى الترع وفي الأسواق!

وبدأت شفقتنا عليها تزداد كلما رأيناها تقف مع جماعة من الأطفال أو امرأة أو بنت صغيرة، ونسأل الله في أنفسنا أن تمر الحكاية بسلام، وبدأنا نحس أن الأمر لا بد أن يتطور إلى السخرية بها أو الرغبة في التسلي عليها، وكنا في أول الأمر نقابل ذلك بالابتسام ونراه شيئا لا مفر منه، إلى أن زادت مخاوفنا من أن ينقلب الحوار البريء بينها وبين أطفالنا ونسائنا، فيصبح مصدر أذى لها وهي التي لا يرضى بأذاها الخالق أو المخلوق. كانت تلقى الطفل أو مجموعة الأطفال فتقبل عليهم راضية باسمة، وتسألهم في حنان لا مزيد عليه: عاوز حاجة يا حبيبي انت وهو؟

فيسأل الأطفال: حاجة زي إيه يا حاجة؟

فتقول في ثقة: أي حاجة يا حبيبي؟ قول نفسك في إيه؟

ولا يصدق الأطفال، فتنهال طلباتهم: عاوز جزمة وجلابية جديدة. - عاوز كورة شراب. - وأنا عاوز كورة كاوتش. - وأنا حصالة مليانة فلوس. - وأنا عاوز أروح مصر.

وتجيب المرأة في هدوء: حاضر، حاضر يا ابني، إن شاء الله أقول لهم.

وقد يسأل أحدهم فجأة: مين همه يا حاجة؟

فتجيب مندهشة من جهله : مين؟ إخواتكم اللي فوقكم وتحتيكم؛ أولياء الله الصالحين.

ويزيط الأطفال وتتداخل هتافاتهم: طيب قولي لهم ما يتأخروش، إوعي تنسي يا حاجة: الجزمة والجلابية لازم يكونوا جداد، الحصالة يا تكون مليانة يا بلاش، ما تنسيش تطلبي ملاية جديدة لنفسك يا حاجة. يالله يا حاجة على هناك على طول. وقد تند عن أحدهم صيحة يرددها الباقون: المجنونة أهه! العبيطة أهه! بل قد يتطور الأمر فيشدها أحدهم من ذيل ملاءتها، أو يقذفها بكومة من التراب أو بحجر. فإذا تصادف مرور أحد منا نهرهم بعنف، وأنقذها من صياحهم وأذاهم، ونصحها أن تترك الأطفال في حالهم، وتكتفي بتوجيه سؤالها إلى الرجال.

هكذا، أو قريبا من هذا، مضى الأمر أيضا مع النساء؛ فلا يدري أحد أبدا ماذا يحدث له لو استوقفت امرأة في الطريق، حتى لو كنت تريد أن تسأل عن شارع أو عنوان لكان في هذا ما فيه من إثارة الريب والشكوك؟ ولو سلمت من هذا فربما لا تسلم من حديث طويل لا يعلم إلا الله متى ينتهي؟ إذ لا يعلم غيره كيف ولا متى ولا لماذا بدأ؟ المهم أن المرأة المسكينة عندما كانت تقابل امرأة في الشارع أو على باب بيتها أو في أي مكان كانت تتجه إليها بحسن نية كعادتها؛ لتسألها سؤالها الخالد الذي ربما تكون قد ورثته كما ورثت وجهها الصغير وعينيها الهادئتين وصوتها المبحوح وملاءتها التي لا تتغير، وغالبا ما تكون إجابة المسئولة على هذا النحو: حاجة إيه يا اختي اللي ها اعوزها؟ فتقول المرأة في حسن نية متجدد: اللي في نفسك يا حبيبتي! وترد الأخرى: اللي في نفسي؟ ياما حاجات في نفسي يا اختي، يعني تعرفي تجيبي لنا قرشين، ولا تهدي لي جوزي، ولا تشفي العيل، ولا تساعدينا على بناية الأودتين! وتجيب المرأة في ثقة من يعلم أن كل الطلبات مجابة بإذن الله: حاضر يا حبيبي، طلبك مجاب إن شاء الله، حاضر يا عيني.

وتتأملها الأخرى قليلا قبل أن تتصعب على حالها بصوت عال : يا عيني عليكي انت يا حاجة ، طول النهار ماشية زي عفريت الضهرية، قادر يا اختي يشفي لك عقلك ويريحك من الدوخة دي!

وقد كان يمكن أن تمر الأمور على هذا النحو دون أن تحدث كارثة أو تخرب الدنيا بما فيها ومن فيها؛ فنحن جميعا - حتى النساء والأطفال - نكاد نقابلها كل يوم، ونكاد نتفق في الدعاء بأن يشفيها الله ويشفي مرضانا ومرضى المسلمين، ونحن حين نتحدث معها - جبرا للخاطر أو حبا في الاستطلاع أو أملا في أن يستجيب الله دعواتنا فيحضر الغائب ويظهر المستور - نكاد نشترك في العطف عليها والرثاء لها، حتى الذين يحاولون في بعض الأحيان أن يسخروا منها أو يداعبوها بلطف أو خشونة لا يختلفون في حبها، وافتقاد طلعتها والسؤال عنها إن غابت أو مرضت.

ذلك أننا كنا نعرف أن أحوالها مستورة والحمد لله، وأنها وإن كانت لا تطلب من أحد شيئا بل تسأل كل إنسان عن حاجته - حتى لقد كنا نخشى في بعض الأحيان أن تنسى وتمر على الكلاب والحمير والجاموس وتسألها السؤال نفسه؛ تجد هي مع ذلك دائما من يرعاها، بل لا نغالي إذا قلنا: إن البلد كلها ترعاها وتسأل عنها، صحيح أن أحدا لم يدخل بيتها أو على الأقل لم نسمع أن أحدا دخله؛ فهو كما سمعنا لا يزيد عن حجرة واحدة نراها تضع مفتاحا كبيرا في بابه حين تدخله وحين تخرج منه.

وصحيح أنها ترفض أن يعطيها أحد شيئا وتتعفف أن يتصدق عليها أحد بشيء؛ ولكنها من ناحية أخرى تمر على بعض بيوت جاراتها وتشاركهن في الخبيز أو العجين، أو تنقية القمح والأرز، أو عمل الكعك في الأفراح، وتحضير الصواني في المآتم؛ ولا بد أن الناس يعطونها شيئا فلا ترده، ولا بد أنها تبادر كل إنسان بسؤالها «عاوز حاجة» قبل أن يسألها إن كانت تحتاج لشيء.

ولو أن الحال استمرت على ذلك لبقي كل شيء على ما هو عليه، ولسارت الأمور على ما يرام حتى يغير الحال مغير الأحوال؛ ولكن حدث ذات يوم أن لقيت في جولتها امرأة تصرخ وتصيح، لم تكن تكتفي بالصراخ والصياح، بل كانت تعفر شعرها بالتراب، وتشد منديلا تكاد تمزقه فوق رأسها، وتلقي بنفسها على الأرض. لم يكن المشهد غريبا علينا ولا على المرأة المسكينة بالطبع، وكان يمكن أن تمر عليه صامتة، أو تدخل البيت الذي ينطلق منه الصراخ، فتعزي مع المعزيات، أو تشارك في مساعدة أهل الميت أو الميت نفسه، ولكنها - لسوء طالعها أو حسنه لا ندري - أقبلت على المرأة المفجوعة وربتت على كتفيها بحنان عظيم، وقالت في هدوء شديد: عاوزة حاجة يا حبيبتي؟ وإذا بالمرأة التي كانت تصرخ فتوقظ النائمين وتجلب التائهين، تمد يديها فجأة فتقبض على رقبتها بشدة وتهزها من صدرها وكتفيها في عنف: أيوه عاوزاه يا وش الشؤم، عاوزة راجلي وابو عيالي، عاوزة سبعي يا وش النحس، يالله امال ورينا، ليل ونهار عاوزة حاجة، عاوز حاجة، يالله امال، قولي لهم بقى يورونا!

وأسرعت النسوة من داخل البيت ليخلصنها منها، وأقبل بعض الرجال الذين كانوا يجلسون في مضيفة البيت، أو يعدون الكراسي والكنب والكلوبات أمامه، إلى انتشالها من قبضة الزوجة التي أوشكت على أن تخنقها أو تفترسها، وكان يمكن أن تمضي الحاجة في حال سبيلها وتتجه إلى مكان آخر، أو تعود إلى بيتها وتقصر الشر والسلام، ولا بد أن هذا هو ما نصحها به العاقلون والعاقلات من المعزين وأهل الميت؛ لولا أنها بقيت هادئة ثابتة كأن لم يحدث شيء، في عينيها نفس الحزن الوديع المستسلم، وعلى وجهها الصغير الشاحب نفس الطيبة والحنان والثبات. وسعت الطريق لنفسها وهي تقول: حاضر يا بنتي، حاضر، أقول لهم يا بنتي، أقول لهم يا اولادي، وسعوا يا اولادي، وسعوا يا اولاد سيبوهم يدخلوا عنده، إوعوا امال ليزعلوا منكو، يالله يا حبايبي تعالوا.

ولم يكن أحد يدري لمن تتحدث؛ ولكنهم لم يملكوا إلا إفساح الطريق لها وهم يرونها تحدث أشخاصا مجهولين، بل تمد ذراعيها إليهم كأنها تسحبهم إلى داخل البيت. سارت كأنها تعرف الطريق مقدما إلى الحجرة التي سجي فيها الميت، ولا أحد يدري كيف عرفت أن اسمه محمد؟ فراحت تخاطبه به، اقتربت من السرير النحاسي الذي مددوه عليه، ولم يستطع أحد أن يتدخل وهو يراها تزيح الملاءة البيضاء من على وجهه، وتمسح بيدها على شعره وجبينه، وتربت على صدغه، وتقول: عاوز حاجة يا محمد؟ عاوز حاجة يا حبيبي؟ قول يا ابني قول، قول لي على اللي في نفسك. أنا ها أقول لهم على كل شيء، قول وما يكونش عندك زعل، أولادك ومراتك في أمان الله إن شاء الله، حاضر يا حبيبي، حاضر يا ابني، كل اللي نفسك فيه يا عيني، أبدا أبدا يا حبيبي، كل اللي في نفسك يا ابني، حاضر، حاضر، حاضر، وقبل أن يفيق أحد إلى ما تفعل كانت قد ألقت برأسها الصغير على صدر الميت، وراحت تنشج نشيجا مفجوعا. ولم يعرف الحاضرون ماذا يفعلون إزاء بكائها المختنق وجسدها الذي يعلو ويهبط بشدة، وصيحتها المبحوحة التي لا تكاد تسمع وهي تردد: عاوز حاجة؟ عاوز حاجة؟ وبدأت النساء يربتن على ظهرها، وتحول العزاء كله إليها، وكاد الجميع ينسون الزوجة والأولاد، وراح الرجال ينصحون برش الماء على وجهها أو شدها بعيدا عن الميت، بل إن زوجة الميت قد نسيت حقدها الهائل عليها، وألقت بذراعيها حول صدرها، وراحت هي أيضا تهدئها، وتدعو الله أن يلطف بها ويرفع بلواها!

فات اليوم على خير، ولا بد أن تكون المرأة المسكينة قد بكت وعملت في نفسها ما تعمله كل مفجوعة في ميت عزيز، ولم يسأل أحد نفسه إن كانت قد فعلت ذلك مشاركة في العزاء؛ فالجميع يعلمون أنها لم تكن تعرف المرحوم، ولا دخلت بيته، ولا شربت فيه جرعة ماء! ولم يكن من الصعب أيضا أن نعلم أن ذلك أثار فيها ذكرى بعيدة لا يعرف الأطفال والشباب منا بوجه خاص أي شيء عنها؛ وإن كنا قد سمعنا من بعض عجائزنا بعد ذلك أنها تصورت ابنها «محمد» الذي مات في الغربة - ربما في أحد مستشفيات الصدر كما يؤكد البعض - من مدة طويلة، وقد يكون خيل إليها أنه مات في تلك الليلة لا قبل ذلك ، وربما يكون سؤالها الذي عرفناها به هو السؤال الذي كانت تلقيه عليه في ساعته الأخيرة، فلم يجب عليها بشيء، ولم تدر بعد ذلك كيف تتوقف عن إلقائه على كل مخلوق؟

كل هذه أشياء كنا نتكهن بها، أو نسمعها من شيوخنا ونسوتنا العجائز، أو من اجتهادنا عن غير علم، ولكننا علمنا بعد ذلك أنها قد مرضت مرضا شديدا، وأنها حين كانت تشفى قليلا منه أو يخيل إليها أنها شفيت تخرج من بيتها - إذ يسمعها الجيران وهي تغلق باب حجرتها أو يرونها أحيانا وهي تضع المفتاح الكبير فيه - فتمضي في طريقها إلى محطة السكك الحديدية في أطراف بلدتنا.

لم تعد توجه لأحد من أهل البلد سؤالها القديم، ولا عادت تكثرت بمداعبات الأطفال والبنات؛ بل ولا حتى بدعوات الفلاحين العائدين على ظهور الحمير من الحقول ومعهم نساؤهم وجاموسهم وكلابهم وأطفالهم.

كانت تنتظر في المحطة بضع ساعات، وكلما وقف قطار أقبلت على النازلين منه تسألهم بصوتها الهادئ المبحوح: عاوز حاجة يا ابني؟

ويبدو أنها كانت لا تخطئ الغريب، وأن الغرباء كانوا يؤخذون بسؤالها في أول الأمر، أو يحملونه محمل الجد، أو يرون فيه علامة على كرم أهل البلد وشهامتهم، وكانوا بالطبع يسألون عن المضيفة التي تؤويهم، أو التاجر الذي يقصدونه، أو العمدة الذي يتجهون إليه، أو المدرسة، أو الوحدة التي سيعملون بها؛ فلا يتلقون سوى جواب واحد: حاضر يا ابني، أقول لهم يا حبيبي، روح انت بالسلامة وانا اقول لهم على كل حاجة.

وما لبث الغرباء أيضا أن عرفوها، وعمال المحطة وموظفوها أن بدءوا ينهرونها، أو يحذرون المسافرين منها، أو يطالبونها بالبعد عن القطار والرصيف والمحطة كلها؛ حتى لا تأتي لهم بمصيبة.

ويظهر أنها سمعت هذه النصيحة التي بدأت تتكرر عليها من الجميع، فجاء يوم لم نجدها فيه، لا في شوارع البلد، ولا في بيتها، ولا على المحطة؛ هل تكون عجلات القطار قد دهستها دون أن نشعر في مكان بعيد أو قريب؟ أتكون قد ركبت القطار وذهبت إلى قرية أخرى، أو إلى البندر الذي سمعنا أن ابنها الوحيد مات فيه؟ لا أحد يدري! (1968م)

بكاء

كانت قد خرجت من محل شملا في ظهر ذلك اليوم، تحمل في ذراعها اليسرى كيسا منتفخا بملابس الأولاد: ملابس داخلية، قمصان للصيف، مايوهات ملونة للبحر، أحذية على مقاس الأقدام الصغيرة المحبوبة، وتضع ذراعها اليمنى في ذراع زوجها الأستاذ سعيد مهندس التنظيم، وكانت السعادة تملؤها لتوفيقها في الشراء من الأوكازيون؛ فالبائع كان لطيفا سمح الوجه، واختيار البضاعة لم يكن عسيرا، والثمن الذي دفعته لم يكن باهظا على الإطلاق، وكان الشعور بالرضا والارتياح يغمرها ويفيض عليها سعادة هادئة تبدو في عينيها المرحتين الصافيتين، ومشيتها الرزينة المطمئنة، وإحساسها اللذيذ بالقرب من زوج طيب ودود ينم وجهه الأبيض الهادئ عن الرجولة والاعتداد والحنان.

وكانت هذه المشاعر الهادئة تصرفها عن ملاحظة الجو الخانق الذي يكتم الأنفاس، وتبعد عنها السخط والضيق والنكد الذي كانت تحس به عادة من الزحام في هذه الساعة التي يخرج فيها الموظفون والعمال؛ بل إنها - لفرط سعادتها ورضاها - وجدت ذلك كله شيئا طبيعيا، وبدت كأنها تقرأ في الوجوه الملولة المتعبة التي تقابلها، والمركبات العامة التي تميل هياكلها وتئن عجلاتها تحت وطأة الزحام والصراخ والسباب، والأشجار الهامدة التي تتلهف أوراقها الجافة على نسمة من الهواء، والضجيج المزعج الذي ينبعث من الأبواق والحناجر وأجهزة الراديو؛ بدت كأنها تلمح في هذا كله نوعا من النظام الطبيعي الخالد الذي يسير كل شيء فيه على ما يرام!

كانت تتمنى لو استطاعت أن تتغنى بأغنيتها المفضلة التي ترددها بإصرار مضحك في المطبخ والحمام، أو تقبل «سعيد» قبلة مفاجئة لا يفهم سرها كعادته، ولكنه يتلقاها منها في رضا وسرور.

وراحت تداعب في خيالها صورة أولادها الثلاثة الذين سيستقبلونها بالصياح والهتاف والأيدي الممدودة إلى الجيوب والأكياس، كما ترتب في ذهنها أطباق الغداء على المائدة، والقمصان الجديدة على أجسام الصغار، والأحذية والصنادل في أقدامهم، والبهجة التي ستشع من كل مكان في المسكن الأنيق.

كانت تقترب مع زوجها من محطة الأوتوبيس الذي سيحملها إلى مصر الجديدة، وتداعب هذه الأفكار المشتتة كما لو كانت تجلس في زورق يهتز فوق موج هادئ عندما رأته، فانقلب الزورق فجأة وغاصت مفزوعة إلى القاع. من المبالغة بالطبع أن يقال: إنها عرفته أو تذكرته من أول نظرة؛ فقد كان يقف هناك على الرصيف قبل منتصف الشارع المؤدي إلى المحطة المزدحمة بالناس، كما يقف آلاف الشحاذين في كل مكان.

اتجهت إليه أول الأمر مدفوعة بنفس الشعور الهادئ الذي عرفناه فيها منذ قليل، وسحبت ذراعها برفق من ذراع زوجها؛ لتتمكن من فتح حقيبتها وإعطاء الشحاذ المجهول ما فيه النصيب. كان من الممكن أن تمد يدها إلى يده المتصلبة المفتوحة أمامها بالقرش أو القرشين، وتمضي في هدوء دون أن تنظر في وجهه أو تنتبه إلى دعوته للمحسنين، وكان من الممكن أيضا أن تمر عليه مر الكرام دون أن يحرك منظره في نفسها نزعة الإشفاق التي تميتها في العادة كثرة الشحاذين، أو تتأمله في صمت وتمضي في طريقها في عدم اكتراث؛ لولا أنه كان يقف هناك كالقدر، أو المفاجأة الحية التي تطل برأسها من بئر الذكريات. هذا الوجه الشاحب المجدور المستطيل، الذي يبدو أن الشيخوخة قبعت فيه منذ الطفولة، وحولته إلى وجه مومياء مصفرة؛ لم يستطع العفن أو الزمن أن يصل إليها.

أين رأته من قبل؟ هاتان العينان المغمضتان كعيني أعمى تحت جبهة عريضة ناصعة، لا تتناسب هي والوجه المغضن الصغير، برموشهما السوداء الطويلة المنسدلة كمظلة مقفلة الأطراف؛ هل تكونان هما نفس العينين الجائعتين الصامتتين اللتين حيرتاها منذ أكثر من عشر سنوات؟ وهذه اليد الممدودة المتخشبة كيد ميت صفراء نافرة العروق، دقيقة الأصابع، قذرة الأظفار، ملتهبة ومحمرة من أثر التدخين؛ هل هي نفس اليد التي كانت تتعجب من صغرها وهزالها ودقة تعبيرها عن بؤس مزمن وعميق؟ ولماذا تمتد الآن بين زحام الأجسام والأصوات وضجيج الشارع كسؤال أخرس، بعد أن كانت تضم أصابعها النحيلة على الكتب والصحف والمحلات، وتتشبث ببقايا سيجارة رخيصة مريضة الدخان؟ يا إلهي! كم تتغير الأيام!

تاهت يدها في حقيبتها لحظات، يبدو أنها طالت أكثر مما ينبغي، واستغرقها التأمل المشدوه في الوجه المصفر، والعينين المغلقتين، والكف المتصلبة، والقميص المتسخ الذي صار أشبه بكفن صغير، والبذلة الحقيرة المملوءة بالرقع والثقوب في أكثر من موضع، والحذاء المتهرئ من الأمام والخلف حتى صار يكشف عن بقايا جورب ممزق وملطخ بالطين. ووقف زوجها لحظة يرمقها في هدوء وابتسام، فلما طال مكثها أمام الشحاذ أخذ يتسلى بالنظر إلى التمثال القميء المنصوب على قاعدة منخفضة وسط الشارع، ويبحث في نفسه عن مبرر واحد لوجوده في هذا المكان. إن القاعدة قد امتلأت بالكتابات والتعليقات بخط قبيح وألوان مختلفة، والتمثال نفسه قد نقش الحمام على ظهره آثار فضلاته، وليس هناك عابر سبيل يتعطف عليه بنظرة واحدة، كما أنه لا يستطيع أن يجذب انتباه إنسان واحد. استدار الأستاذ سعيد، وتقدم من زوجته، ووضع ذراعه في ذراعها وهو يضحك قائلا: هذا التمثال يكفي للحجر على كل مهندسي التنظيم.

هزت ألطاف هانم رأسها كمن يفيق من كابوس، وسألت: ماذا تقول يا حبيبي؟

أشار إلى التمثال وقد ازداد ضحكه، وقال: من المؤسف أن يكون هذا مصير كل الزعماء.

التفتت إلى حيث يشير بإصبعه، وقالت: يجب عليكم أن تنظفوه.

قال بسرعة: بل قولي: يجب أن تزيلوه!

التفتت إلى الشحاذ المتسمر في مكانه، وتذكرت أنها لم تعطه شيئا، وسألت زوجها عن فكة، فبحث في جيوبه، ولم يجد سوى قرش واحد. قال لها وهو ما يزال ينظر للتمثال: الزعيم أولى به!

لم تضحك كما كان ينتظر فكتم ضحكته، خلص ذراعه من ذراعها، وأمسكت يده بيدها، وشدها كي تجري ليلحقا بالأوتوبيس. كانت لا تزال تنظر إلى الشحاذ، وتتلفت في كل لحظة لتقارن بين تمثاله الحي وبين صورته التي تقفز نحوها من الماضي البعيد. توقفت وقالت يائسة: سعيد، الدنيا زحمة. تعال نأخذ «تاكسي».

أسرع سعيد يقول: على كيفك يا حبيبتي.

وفي لحظة كان صوته القوي المرح ينادي على التاكسي، وفي لحظة كان قد انطلق بهما وعبر الميدان في طريقه إلى شارع رمسيس.

مضى الأستاذ سعيد يتحدث بغير انقطاع، كان صوته الممتلئ الوديع يتدفق في أذنيها، فتحس بالاطمئنان الذي يكاد أن يبعث فيها الرغبة في النوم.

راحت تنظر إليه بين حين وحين وذهنها شارد عنه؛ ربما لتثبت له أنها تتابع كلامه الذي يتنقل بسرعة من التمثال إلى رخص الأوكازيون، إلى مشكلة المواصلات إلى الحرب في فيتنام، ولاحظت بارتياح أن السائق التقط الخيط منه، واستغرق معه في حديث خطير عن غلاء المعيشة والخنافس وواجب استعمال العصا في المدارس؛ أما هي فلم تعرف في أي شيء تفكر على وجه التحديد؟ كانت صورة الشحاذ المتشنج اليدين تصدم وجهها باستمرار! بل إن وجهه المجدور الذابل كان كثيرا ما يتداخل هو ووجه زوجها الأبيض الناعم، والعينان المغمضتان تهتزان أمامها وتقفزان من زجاج النافذة ومصابيح الشارع ورءوس الأشجار وأعمدة البيوت.

وكما تتداخل صورة المرئيات وصور الشحاذ، تداخلت الأفكار وراحت تتشكل لها وجوها وعيونا وألسنة طويلة وأيادي تمسك برقبتها أو تصفعها على خديها! حاولت أن تبعدها بالتفكير في مشكلة الزحام، وطاف بعقلها دون سبب اسم مالتس ونظريته التي أخذتها في الجامعة، وتحاول الآن عبثا أن تتذكر صيغتها التي كانت تحفظها عن ظهر قلب، وهمت أن تسأل زوجها لولا أن وجدت صورة الشحاذ تصدم وجهها بشدة، فرفعت يديها تغطيه بسرعة؛ مما جعل زوجها يلتفت إليها ويسألها جزعا عن حالها، فأجابت في هدوء: لا شيء يا حبيبي، صداع بسيط.

كانت تراه في كل صباح، هناك منذ عشر سنوات أو تزيد، على محطة الأوتوبيس الذي كانت تركبه إلى الجامعة، لم يعد لديها شك في ذلك، لم يعد لديها أدنى شك فيه، بالطبع لم تسأل نفسها عنه في الأيام ولا الأشهر الأولى، ولا حاولت أن تفكر لحظة واحدة فيه. كان يقف بقامته القصيرة، وهيئته الرثة، وشعر رأسه المهوش الذي يسقط على أذنيه وينعقد ككومات من الطين المتناثر على رأسه وقفاه! ولم يكن يسترعي انتباهها منه في البداية سوى كومة الأوراق التي كان يحملها تحت إبطه في معظم الأحيان.

لم يكن منظره منظر طالب، ولا كانت هيئته أو سنه أو حتى مجموعة اللفائف التي في يده تسمح بهذا الظن، ولا بد أنها كانت تبتسم في سرها لمنظره، وربما تعلمت مع الزمن أن تتعجب لقذارته المزمنة (التي لم تكن فيما يبدو متعمدة؛ بل عن بؤس أكيد)، وترثي لحاله في النهاية، وتسأل نفسها إن كان له أهل في هذه الدنيا، وأين يأكل وينام ويعيش؟

ويظهر أن بائعة الجرائد العجوز لاحظت أن اهتمامها به يتزايد مع مرور الأيام، فكان أن غمزت لها بعينها وهي تشتري منها إحدى المجلات النسائية قائلة: أصله شاعر.

سألتها باستخفاف: قرأت له؟

قالت البائعة وهي تشوح بذراعها: الله يسترك، ما ناقص إلا الشعر!

سألتها في يوم آخر: من أين عرفت أنه شاعر؟

قالت البائعة: زبون دائم عندي، في يوم فتح مجلة وأشار لصفحة فيها، وقال في فرح الأطفال: الحمد لله، نشروا قصيدتي. قالت له البائعة: شعر؟ يعني حضرتك ما شاء الله شاعر؟

ابتسم ومضى يقرأ قصيدته في سره وهتف غاضبا: كلها أخطاء مطبعية.

قالت له البائعة: بركة دعا الوالدين!

ابتسم في حزن وقال: تعيشي يا حاجة.

سمعت ألطاف ذلك ولم تهتم به؛ فما لها والشعر وهي تدرس المالية والمحاسبة والاقتصاد؟ إنها لا تذكر شيئا مما كانوا يسقونه لها في حصة العربي والإنشاء، وحاولت أن تذكر منه بيتا واحدا يمسك بعضه بعضا فلم تستطع، قالت لنفسها: ما كل ما يتمنى المرء يدركه! لكنها لم تذكر الشطر الآخر ولم تعرف إن كان لشوقي أو حافظ أو النابغة الذبياني، وضحكت في سرها للاسم الأخير، وقالت لنفسها: إن نطقه وحده يميت من الضحك.

ومع الأيام راحت تتابع الشاعر المجهول، كانت تراه في معظم الأيام واقفا كالتمثال في انتظار الأوتوبيس، ويبدو أنها كانت قد فرغت من ملاحظة هيئته وملابسه الرثة، وحفظت قميصه القذر الذي لا يتغير، وبذلته البنية الداكنة؛ ولا بد أن المصادفة وحدها هي التي جعلتها تنظر مرة إلى عينيه، بدتا لها بعكس ملابسه ووجهه وكل شيء فيه، كأنهما هما الشيء الوحيد الذي يدل على الحياة فيه!

كانتا ضيقتين، تلمعان لمعة غريبة، وتتحركان باستمرار في قلق وحزن لا يطاق.

وقد فطنت بغريزة الأنثى أنه يسلطهما عليها في شوق أخرس مكتوم، ومع أنها كانت تنفر منهما وتحاول أن تتجاهلهما على الدوام؛ فقد بدأت تسأل نفسها عما تريده منها النظرة الخرساء؛ إذ ليس هناك أفظع من عينين صامتتين حزينتين، تقولان لك: إنني أحبك ولا أريد منك شيئا! هل كان هذا المخلوق البائس الزري يحبها؟ وماذا كان يرجو من وراء هذا الحب الأخرس المخبول؟ إن جدارا هائلا كثيفا من التقاليد والظروف يبعدها عنه! بل يسحقه كالحشرة الذليلة أو الدودة البائسة! وهل يعقل أن تبادله النظر أو تطمعه بأدنى إشارة أو لمحة؟ يا له من خائب مجنون!

في يوم من الأيام جاءت متأخرة عن موعدها قليلا إلى محطة الأوتوبيس، كان هناك زحام غير عادي وجماعة من الناس يتحلقون حول رجل ممدد على الأرض، وشاب يجري له تنفسا صناعيا، ويصيح بالواقفين أن يبتعدوا لكيلا يمنعوا الهواء عنه، وآخر يصرخ في طلب الماء. وحشرت نفسها لتلقي نظرة، فرأت الشاعر ممددا على الأرض ببذلته الداكنة، وقميصه وحذائه الباليين، ووجهه المصفر المجدور الذي يشبه وجه ميت. وبعد قليل نهض واقفا، ونفض التراب بشدة عن ملابسه، وراح يعتذر إلى الناس ويشكرهم، ثم تقدم من سائق عربة كارو كان يقف في خوف بعيدا عن الجمع المحتشد، وإذا به يتقدم منه خجلا كالفتاة العذراء، فيعتذر إليه بصوت مسموع، ثم يحتضنه فجأة ويقبله! بادرتها بائعة الجرائد العجوز قائلة: مجنون؛ بدل ما يطلب التعويض!

سألتها: هل داسه العربجي؟

قالت البائعة: داسه؟ قولي دهسه، العجل يا عيني فات عليه، لولا ستر ربنا كان بقى نصفين؛ والآخر يعتذر له!

أزاحت شعرها الأسود الفاحم عن عينيها، وقالت باسمة: ما هو شاعر! وجاء الأوتوبيس فقفزت فيه.

إنها لا تزال تذكر الآن كيف بدأت تهتم به وتعطف عليه؟ كانت تلاحظ أن نظراته تتابعها، نفس العيون الخرساء، العيون البائسة بلا أمل في الأرض ولا في السماء، العيون المجروحة التي تقول في انكسار: أحبك، ولا أريد منك شيئا! وبدأت هي أيضا تهتم بنفسها: كانت تطيل الوقوف أمام المرآة قبل أن تخرج إلى الشارع ، وبدأت - ربما لأول مرة - تتأمل وجهها الصغير الجميل، وتلاحظ أنفها الدقيق، ووجنتيها البارزتين، وفمها الدقيق الواسع قليلا، وشفتيها الرقيقتين اللتين تبتسمان دائما في سخرية عذبة كانت هي طابعها الأصيل؛ أما عيناها السوداوان المستديرتان فكانتا تشعان بنظرة لم تلتفت إليها من قبل؛ نظرة نارية ثائرة، فيهما كبرياء وبعد، ولكن فيهما مع ذلك حزن عميق يرسم مع الشعر الأسود الفاحم الطويل، الذي ينسدل دائما على جبينها العريض وإحدى عينيها؛ صورة من الخيالات والأحلام العذراء التي تحيط الفتيات في عمرها بهالة من الغموض والتمنع والحياء.

ها هي ذي نظرته تتابعني؛ لكن ماذا يريد؟ آه من هذا الأخرس المخبول! إنه لا يقول شيئا، لا يتحرك، لا يهتز فيه عرق واحد! هل ينظر إلي حقا أو يسبح مع أشعاره؟ وأي أشعار هذه؟ هل هي مثل أشعار شوقي وحافظ؟ هل ينشرونها حقا في الجرائد والمجلات؟ هل يكسب منها عيشه؟ هل يغنونها في الراديو؟ إنه يتابعني دائما بالنظرة الذليلة المجنونة الصامتة الصارخة بالحب واليأس والعذاب والانكسار!

لكنها تذكر الآن كيف انقلب اهتمامها الطارئ به إلى سخط وحقد واشمئزاز! إنها لا تقيم وزنا لهذه النظرات الجائعة، ولو صرخت في الأبواق بأنها تحبها حتى الموت! ماذا يقول الناس؟ ماذا تقول العائلة، والعرسان الذين يحومون حولها من الآن ويسألون عنها بل يتقدمون لأبيها: مهندسون وأطباء وضباط وموظفون محترمون؟! وها هو ذا قد خرج من حياتها التي لم يدخلها قط، واختفت نظرته وهيئته المزرية وجسده الضئيل ووجهه الشاحب الصغير، كلها اختفت إلى الأبد خلف السور الشائك الذي أقامته حولها، أو وجدته منذ البداية ملتفا عليها!

يا إلهي، ما الذي يوقفه هذه الوقفة في أكبر ميدان؟ ما الذي انتهى به إلى هذه النهاية؟ هل طردته الجريدة التي كان يعمل فيها؟ هل أفلس من الشعر؟ هل مات كل أهله فوقف في طريق الحياة كبقية شجرة قطعت من جذورها؟ هل أصابه العمى من كثرة القراءة والكتابة، أو من كثرة البكاء، أو من كثرة النظر الأخرس الحزين؟ ما الذي أدى به إلى هذا المصير؟ ما الذي جعله يمد يده المتشنجة لكل عابر سبيل؟ ألا يكسب الشعراء من شعرهم؟ ألم يكن شوقي كما يقال أمير الشعراء؟

إنها لا تذكر بيتا واحدا من الشعر - ما كل ما يتمنى المرء يدركه - لكن لا بد أن صاحبه لم يكن شحاذا، ولم يضطر إلى الوقوف في ميدان تحت شمس محرقة وسط زحام خانق، بين آلاف العيون التي تنظر أو تمر بغير اكتراث! هل دخل المسكين السجن، فعذب كما سمعت من الناس، أو علق جسده من قدميه كما تعلق الذبائح عند الجزارين، أو سلطت عليه الكلاب المتوحشة، أو أغرق بالماء إلى رقبته في زنزانة؟ هل كان من الشيوعيين والسياسيين؟ أو ماذا جرى له؟

كان الأستاذ سعيد لايزال مستغرقا في نقاش مع سائق التاكسي. أصغت قليلا، فوجدتهما يتحدثان عن مشكلات التنظيم والمدينة التي ضاقت بعرباتها وسكانها، وحاولت أن تتذكر قانون مالتس، وخطرت لها كلمة المتوالية الهندسية والمتوالية الحسابية؛ ولكنها لم تفلح في العثور على صيغة القانون. وهتف السائق: لا بد من تعميم الحبوب وجعلها بالمجان. فقال زوجها: ولو، الأرانب هي الأرانب وحياتك، وضحكا ضحكة فاضحة جعلتها تدير وجهها إلى الناحية الأخرى.

وقف التاكسي أمام باب العمارة، نزل زوجها أولا ومد إليها يده ليسندها. كم هي رخصة هذه اليد وسمينة وبيضاء ومريحة! عشرة أعوام وهي تمسك بيدها، وتربت على كتفها، وتمنحها الثقة والعطف والحنان! لكن العيون الخرساء الجائعة تقف أمامها الآن، عيون ضيقة تلمع ببريق التنفس والقلق واليأس والذل والعذاب. أأكون مذنبة أيتها العيون؟ أكان في وسعي أن أفعل شيئا ولم أفعله؟

لماذا لم يقل كلمة واحدة؟ لماذا لم ينطق بحرف لم يصدر إشارة؟

كنت بالطبع سأزجره وألزمه حده! لكن ربما كان هذا على الأقل مصدر عزاء لي الآن؛ ومن يدري؟ فربما كنت أجبته بكلمة، تصدقت عليه بنظرة، شجعته بابتسامة، مستحيل أن أتصور أنني كنت سأزيد على ذلك، مستحيل أن يكون قد خطر لي أن أكلمه مرة وأمشي معه خطوة واحدة؛ وماذا كانت تقول الناس والجيران والعائلة والعرسان الذين يحومون حولي؟ ها هو ذا سعيد يفيض علي حبه وعطفه منذ سنين، هيأ لي البيت السعيد، ووهب لي الأولاد السعداء، كأنما يقسم أن يجعل كل يوم من أيام حياتي نظيرا لاسمه، عندي كل وسائل الراحة والهناء والحياة المستقرة المريحة، وماذا تطلب الزوجة أكثر من المرتب المضمون والثلاجة والبوتاجاز والغسالة والسخان والتلفزيون؟ هل تسمح لنفسها بعد هذا ألا توفر له البيت السعيد وتملأه بالأطفال السعداء؟ ما كل ما يتمنى المرء يدركه. ليتني أعرف فقط إن كان هذا الكلام لشوقي أو حافظ!

سألها زوجها وهما يدخلان من باب الشقة ويسمعان صياح الأولاد الثلاثة: فيم تفكرين يا حبيبتي؟

قالت شاردة: في بيت من الشعر.

هتف وهو يحتضن هناء: اسألي ماما عنه يا هناء.

قالت ألطاف وهي تغتصب ضحكة: نسيته يا سعيد.

قال سعيد وهو يقبل هدى وهابي: لازم كان من المعلقات.

أقبل على الأولاد يريهم القمصان الجديدة والمايوهات والصنادل. ما أطيبه! وما أكثر حبه لها ولأولادها! ما أشد ثقتها فيه واطمئنانها بجانبه! إنها لا تذكر أنه أغضبها يوما بكلمة حادة أو خارجة، أو أخر لها طلبا من نفسها، أو بخل عليها بملبس أو مأكل أو نزهة!

وراحت تخلع ثيابها في صمت وترتدي ملابس البيت. كان شيء كالخدر يزحف من قدميها إلى رأسها، ومن رأسها إلى قدميها؛ شيء ثقيل أسود كالمارد أخذ يطبق على عينيها، ويجثم على أنفاسها، ويزحف في نبضها ودمها! وارتمت على الفراش وكل شيء يهتز أمام عينيها ويدور ويختلط دوامة من الألوان والأصوات والحركات. اتسعت العينان الجائعتان أمامها، وتحجرت فيهما النظرة الفظيعة الخرساء، وامتدت أمامها اليد المتشنجة كيد ميت تخترق النعش فجأة أخذت تتقدم منها وتتقدم، كأنها تريد أن تلمس وجهها أو تسترحمه أو تلطمه!

صرخت مفزوعة، ثم انفجرت باكية. وحين أسرع سعيد إليها وسألها ملهوفا عما بها؛ ألقت ذراعيها حول عنقه، ودفنت رأسها في صدره وقالت وهي تنشج: لا شيء يا حبيبي، لا شيء أبدا! (1968م)

الحصان الأخضر يموت على شوارع الأسفلت

كانت العربة قد توقفت تماما ، أزت عجلاتها الصدئة لحظة، واهتزت الأكياس والأقفاص وألواح الخشب المتكدسة فوقها، ثم هدأ بعد ذلك كل شيء، وتململ العربجي في مكانه وصاح: شي، شي؛ ولكن صياحه لم يحرك الحصان، ولم ينفع في تحريك العربة؛ ظهر الغضب على وجهه وتطاير من عينيه، وعاد يصيح بصوت خدشته الجوزة والمعسل والسب في خلق الله: شي يا حصان الكلب! قلت لك شي! لكن الحصان ظل جامدا في مكانه، ولم يبد عليه أنه سمع الصوت أو أنه على استعداد لسماعه، وجن جنون العربجي، فتناول سوطه وبدأ يضربه، كانت الضربات في بداية الأمر خفيفة من النوع الذي يلسع ولا يؤذي، فلما رد عليها الحصان بهز رأسه وتحريك ذيله؛ راحت تزداد وتتوالى ويسمع حفيفها في الهواء، أخذت تتهاوى على جسده كله دون تمييز، وراحت تدوي فوق الرأس والأذنين والظهر والذيل والأقدام!

صاح السائق: شي يا ابن الكلب، فضحتنا قدام الناس، قلت لك شي. ولكن الحصان اكتفى بتحريك رأسه وذيله إلى اليمين واليسار، وكلما اشتد عليه الضرب رفس العربة بأحد حافريه الخلفيين، فقعقعت عجلاتها واهتزت فوقها الأكياس والصناديق. ومع أن طرف السوط كان يتوالى كألسنة النار على رأسه وعينيه، ويصيب الجروح المشقوقة على ظهره وساقه حتى ينزف منها الدم؛ فقد كان فيما يبدو يتمسك بالصبر، كأنما يعرف أن صاحبه سيتوقف عن ضربه كما عهد ذلك منه، وينزل إليه ويربت على رأسه ويصالحه؛ ولكن العربجي كان قد جن جنونه، ومع صيحاته الخشنة المدوية توالت ضرباته في كل مكان من الجسد الأعجف المقروح!

كان ذلك كله يجري في ميدان عام، مزدحم في وقت الظهر بالناس والعربات والترام والتروللي؛ وقت خروج الموظفين من المكاتب، وعودة النساء بعد شراء الحاجات.

وكما هي العادة دائما في مثل هذه الحالات، تتلفت عيونهم من نوافذ الترام أو العربات؛ ليعبروا عن سخطهم على قسوة السائق وتعاطفهم مع الحيوان المسكين، وقد يهزون رءوسهم أسفا على الرحمة التي نزعت من قلوب الناس، أو يسألون أنفسهم: أين جمعية الرفق بالحيوان؟ أو لماذا تسكت الحكومة على هذا الظلم، ولا تسن القوانين الكفيلة بحماية الحيوان من الإنسان؟

وسرعان ما يمر الترام أو الأوتوبيس، فينسون هم العربجي والحصان ويدخلون في نفوسهم. أما السائرون على أقدامهم فإنهم يتوقفون قليلا، أو يتجمعون حول المكان، أو تأخذ الشهامة أحدهم؛ فينادي على العسكري أو يتدخل بنفسه، فينصح السائق بكلمة طيبة تعلمه الحلال من الحرام.

بدأ الناس بالفعل ينظرون من نوافذ الترام والأوتوبيس، ويتجمعون حول العربة؛ ليتفرجوا، أو يقولوا كلمة طيبة، أو يحاولوا التدخل رحمة بالحصان المسكين. صحيح أن بعضهم كان يتفرج لحظات ثم يسرع إلى عمله أو ركوب ترامه، ويقول لنفسه: إن هذا شيء يتكرر كل يوم، ولا بد من تدخل الحكومة فيه؛ ولكن توالي اللسعات ورنينها الذي كان يغلب على ضجيج الميدان ويخترق الآذان؛ جعل الكثيرين منهم يتوقف في مكانه ويحس بأنه مطالب بعمل شيء.

ومما زاد في هذا الإحساس أن العربجي جن جنونه، فسحب لوحا من الأخشاب المتراكمة على عربته، وأخذ ينهال بها في كل مكان من جسد الحصان. قاوم الحيوان قليلا، وزادت رفساته التي كانت تصطدم عبثا ومقدم العربة، وأطلق صهيله، الذي تحول مع عنف الضرب ووحشيته، وخبطاته العشوائية لعظام الظهر والبطن والصدر والأقدام والوجه والرقبة؛ إلى صوت مخدوش، راح يخفت بالتدريج حتى صار كنحيب طفل يبكي على قبر ميت! ولم تبق في الحصان قوة على المقاومة، فانثنت ساقاه الأماميتان ومال برأسه على الأرض، ثم عاجلته ضربة على مؤخر ظهره فانثنت الساقان الخلفيتان أيضا وتمدد بجسده كله على الأرض!

كان العربجي لا يزال يصرخ، ويسب ويلعن أجداد الحصان وأيامه السوداء، وينزل ضربه الأعمى على الجسد الهامد الذي لم يبق فيه من آثار المقاومة سوى اختلاجة تسري فيه وحشرجة تخرج من الفم، ودموع تسقط من العينين! وكان الناس قد تجمعوا حوله، وكل واحد منهم يحس أنه ملزم بأن يفعل شيئا، أو أنه تورط وانتهى الأمر ولا بد أن يتصرف بأي طريقة توقف هذه الوحشية؛ صرخ طفل في أول الأمر وارتفع بكاؤه، وهتفت امرأة عجوز تلف رأسها بشال أبيض: حرام عليك يا رجل! الحصان تعب يا ولداه! وتقدم شاب يضع نظارة غليظة على عينيه ويلبس بلوفرا أسود ويحمل في يده حقيبة كتب سوداء! - تعب؟ يا عالم! الحصان مات!

ولا بد أن الكلمة الأخيرة بعثت الاشمئزاز في نفوس الحاضرين، ودفعت بعضهم إلى التقدم بلا تردد إلى السائق، وتخليص لوح الخشب والسوط من يديه؛ ولكن هذا استمر يزعق ويلعن: ما لكم انتم؟ ابني وانا اربيه!

هتفت المرأة العجوز: يا شيخ حرام عليك! اتقوا الله وخلوا في قلوبكم رحمة.

تبجح السائق قليلا: اسكتي انت يا حجة، حصاني وانا اعرفه!

انفعلت الحاجة: يعني تقتله ونقف نتفرج؟ ما تتكلموا يا رجالة.

وشعر الرجال أنهم مطالبون فعلا بالتدخل، فقال شاب يرتدي بذلة بنية فخمة ويحرك يديه ولسانه حركة مهذبة: لا بد من تبليغ القسم، الحصان مات!

زعق العربجي: قسم؟ هو حضرتك أفوكاتو؟

هتف الشاب: اخرس! أمثالك لا بد من تأديبهم!

عاد العربجي يصرخ: وانتم ما لكم يا عالم؟ اشتكى لكم؟ قال لكم حاجة؟

اقترب الشاب الذي يلبس نظارة من رأس الحصان، انحنى بجانبه، وربت على رقبته، ووضع يده أمام أنفه، ثم التفت إلى الحاضرين، وقال: الحصان بخير يا جماعة، فيه الروح.

اقترب منه الشاب الآخر بعد أن نفذ بصعوبة من الزحام، وثنى ركبتيه، وتحسس ظهر الحصان بكفه، ثم رفعها إلى الجميع وقد تلوثت بالدم الأسود المتجمد: دم؟!

صاح العربجي بصوت أخف حدة بعد أن وجد نفسه مطالبا بتبرير تصرفه: قلت لكم ابني وانا اربيه! يا ناس خلونا في حالنا يا ناس!

ولكن الناس لم يتركوه في حاله؛ فها هو ذا الحصان يلهث ببطء على الرصيف، وعيناه المحمرتان الباكيتان تستنجدان، وشهيقه وزفيره الضعيفان يخترقان الآذان، وأصوات مختلطة تتعالى من كل مكان: نادوا العسكري، كلموا بوليس النجدة، اطلبوا الإسعاف، دكتور بيطري يا عالم!

وقف الشاب الذي يلبس نظارة طبية، وقال للجميع: اطمئنوا؛ أنا في الطب البيطري، إن شاء الله نأخذه الكلية ونعمل اللازم.

زأر العربجي: تاخد مين يا سيدنا الافندي؟ يا ناس ابعدوا عنا، يا عالم خلونا في حالنا، حصاني وانا عارفه!

واختلطت الأصوات من جديد؛ بعضها يلعن العربجي، أو ينادى على العسكري، أو يقترح أن ينقل فورا إلى الجيزة، أو يعالج في مكانه، أو يقبض على السائق؛ وفجأة خرج صوت عميق: يا سادة يا كرام، تلفت الجميع حولهم، ثبتوا أعينهم في أفواه بعضهم. ثنى الشاب ذو النظارة ركبتيه من جديد أمام الجسد المسجى على الأرض. مال رأس الحصان إليه قليلا، وأحس بأنفاسه اللاهثة تنفث الحرارة والدفء في وجهه، فتح فمه وقال: يا سادة يا كرام، أرجوكم أن تسمعوني قبل أن أموت.

هتف صبي صغير: الحصان يتكلم!

واقترب الجمع حتى كاد أن يلامس الجسد الممدد على الأرض. رفع الحصان رأسه المتعب قليلا وقال: من أنا؟

قال الشاب ذو النظارة: أنت حيوان ثديي وحيد الحافر من الفصيلة الخيلية، يستعمل في الركوب والسباق والجر وحرث الحقول، يوجد منك أنواع كثيرة: البلدي والعربي والإنجليزي والهجين.

قال الحصان: أنا الحصان الأخضر الذي يموت!

قال الشاب ذو النظارة: لن تموت أيها الحصان! سنأخذك حالا إلى الكلية، هناك سيرعاك المتخصصون ويشفون جراحك.

قال الحصان: وجرح نفسي أيها الشاب اللطيف؟

قاطعته الحاجة التي زغردت في فرح: والنبي إنك حصان عربي أصيل، وحياة مقام النبي إني عرفتك في الحجاز، أصيل وحياة مقام رسول الله.

قال الحصان وهو يقلب عينيه الحزينتين - كدمعتين متجمدتين - في وجهها الأبيض: كنت زمان يا حاجة وكان جدودي، ياما ركب الفرسان على ضهري وحاربوا في سبيل الله! ياما دخلت الحصون وجريت في الصحاري وصلت وجلت في المعارك والحروب! أيام زمان يا سادة يا كرام، أيام زمان يا سادة يا كرام.

هل تعرفون أصلي يا كرام؟ هل تعرفوني قبل أن يقسو علي الزمان؟

تقدم الشاب الذي يلبس البذلة البنية الفخمة، ومد ذراعيه في الهواء قبل أن يقلب وجهه بين الحاضرين في سرور ويقول: أنا أعرف التاريخ؛ الحصان معروف من العصر الحجري، وجده علماء الحفريات مرسوما في الكهوف وعلى حوافي الجبال؛ كما وجدت حول معسكر سولتر في فرنسا عظام مئات الألوف من الخيول، كان من آخر الحيوانات التي استأنسها الإنسان .

قاطعه الحصان بصوته المتحشرج العميق: نعم يا ولدي ، كنت أخرج في الصيد مع الإنسان، أسابق الريح والسحاب والغزلان، وأركض حرا في الجبال والوديان، هل تعرف ماذا حدث لي بعد ذلك؟ قل لي؛ فقد نسيت التاريخ!

قال الشاب منتهزا الفرصة: نعم، كان البدو في أواسط آسيا أول من استأنسوك، ثم نقلوك إلى الصين فآسيا الصغرى وأوروبا، حتى جئت أخيرا إلى مصر.

سأل الحصان: وأين أنا الآن يا ولدي؟

قال الشاب متعجبا: أين أنت؟ في مصر طبعا أيها الحصان.

قال الحصان وخيل للجميع أنه يبتسم: مصر المحروسة؟ باركها الله ببركة الأبطال والأولياء والفرسان. وكيف جئت إلى هنا يا ولدي؟

قال الشاب ذو النظارة كأنه يحدث نفسه: يظهر أنك نسيت التاريخ أيها الحصان! ألا تذكر أنك كنت تجر عربة فرعون في حربه مع الأعداء؟

اعترض الشاب الأنيق قائلا: غير صحيح! لقد جاء لأول مرة مع الهكسوس، وبالتحديد سنة ألف وخمسمائة وسبعين، وهنا أخرج الشاب بطاقته الشخصية، وقدمها لطالب الطب البيطري قائلا: صحفي.

أمن طالب الطب على كلامه؛ ولكنه واصل اعتراضه قائلا: ولكن المصريين لم يكونوا قد عرفوا العجلات الحربية؛ فكيف يجر حصان أحمس أو رمسيس؟

قال الشاب ضاحكا ضحكة عالية: انظروا إلى بطاقتي وتيقنوا بنفسكم، هناك عشرات النقوش محفورة في المعابد، تشهد بأن هذا الحصان هو الذي قاد عربة فرعون! انظروا في بطاقتي ولا تخافوا.

وبدا أن الحاضرين لا يهمهم أن ينظروا في بطاقته، ولا أن يتيقنوا إن كان من رجال المباحث، أو حتى من رجال السيرك. وتدخل الحصان بنفسه لكي يمنع نزاعا يمكن أن ينشب بسببه في أية لحظة: نعم كنت أنا الحصان الأصيل؛ كنت أجري في الجبال والغابات، وأخطر على ضفاف الأنهار بلا سرج أو لجام! كنت حرا كالهواء، خفيفا كالسحاب، أبيض الجبين كالفجر؛ أتهادى كالموج، وأركض كالعاصفة؛ وأغضب كالرعد، وأحب كالأطفال؛ إلى أن وضع الإنسان السرج على ظهري، واللجام في لساني. ورضيت حين عرفت أن الذين سيركبونني هم الشجعان والفرسان! ياما انطلقت بهم، وصرخت معهم في وجوه الأعداء، ودست على جثث الكفرة والمجرمين! شاكست الإسكندر طويلا حتى تيقنت شجاعته، فألنت له ظهري، ورحت أجوب معه العالم من بلاد النبيذ والزيتون والحكماء إلى بلاد في السند والهند تركب الأفيال! صحبت فرسان العصور الوسطى التي تسمونها اليوم ظلما بعصور الظلام، ودافعت معهم عن الشرف والدين، وسمعتهم يلقون في الحب أجمل الأشعار! هل كان مار جرجس يستطيع من غيري أن يقتل التنين؟ أكان خالد يهزم الفرس والروم؟ أكان عنترة يخيف الأعداء ويكتب المجد لشعره وجلده الأسود وحبيبته السمراء؟ ماذا أقول يا سادة يا كرام؟ ومن أذكر أو من أنسى من الفرسان؟ كان ياما كان، وأنتم ترونني الآن بعد أن تغير الحال والزمان!

قال الشاب ذو النظارة: ما زلنا نحبك أيها الحصان، ونعجب بغرتك البيضاء وخطوتك البديعة في الشارع وفي السباق، اطمئن فسنعالجك وتعود إلى سالف الأيام!

زفر الحصان زفرة عالية، وأمال رأسه على أرض الرصيف، وقال: لا يا ولدي، لم يعد في العمر بقية للمجد والعز والسلطان! ها أنا ذا أموت بعد اللف في الشوارع وعذاب السوط واللجام! كنا أنا وأصحابي نسابق الريح، ونطاول النجوم، ونجمع القوة والضعف والغضب والحنان، كنا نزأر في الحروب كالبركان، ونرق في السلم كالأطفال والغزلان! ماذا دهانا يا ترى؟ وماذا جرى للفرسان؟ صرنا نجر العربة الكارو، ونتحمل السياط، وننقل البصل والخشب والخضار والعزال!

كان العربجي يقف مشدوها لا يصدق ما يسمع ولا يفهمه، وكان كل ما يخشاه أن يأتي العسكري ويأخذه إلى الكركون، أو تسمع الحكومة ما يقوله الحصان ويشهد عليه الحاضرون! ولما طال به الانتظار صاح في الجميع: يا عالم خلونا في حالنا، ابني وانا مربيه، واعرف ضرره من منفعته، يا ناس الله يسهل لكم ابعدوا عنا!

وكان الصحفي فيما يبدو قد أفلت من الجمع دون أن يحس به أحد، وعاد يخترق الحلقة مرة أخرى ويقول ساخطا: ساعة وأنا أطلبهم في التليفون! طلبت الإسعاف فرد علي التليفزيون!

لم يرد عليه الطالب، كان الجميع يقفون حزانى صامتين، لم يلفت انتباههم حضور العسكري من القسم القريب، وتقليبه في رأس الحصان وجسده؛ بل لم يفطنوا إليه وهو يمسك العربجي من رقبته ليشده إلى مركز البوليس ويعمل له المحضر؛ فقد كان الحصان ممددا بجسده الجميل المجروح على أرض الشارع، ورأسه الهامد على الرصيف جحظت فيه العينان كدمعتين كبيرتين واسعتين! تلفتوا بعضهم لبعض، ثم بدءوا ينصرفون كل إلى حاله. ولا بد أنهم ظلوا لفترة طويلة يتذكرون الحصان في الميدان؛ الحصان الأخضر الذي مات على شوارع الأسفلت! (1968م)

تذكر يا مولاي

هي عبارة قالها رجل مجهول لرجل آخر مجهول، في ظروف لا ندري الآن عنها شيئا؛ ربما سمعناها تروى كنادرة أو مثل، وربما قرأناها في أحد الكتب أو المخطوطات العتيقة، بل ربما جاءت على لسان إحدى عجائزنا كموعظة أو حكمة من السلف الصالح أو الزمن القديم؛ غير أننا قليلا ما نسأل أنفسنا عن قائلها أو عمن قيلت له، ونادرا ما نحاول أن نعرف صيغتها التي قيلت بها، أو ندرك معناها ومغزاها.

فلنكرر السؤال معا على هذه الصفحات، ولنتذرع بالصبر - ونحن لا نملك سواه - لنكشف عن غموضها، ونفهم جهد الطاقة ما يختفي وراءها. «تذكر يا مولاي أنك ستموت في يوم من الأيام» هكذا تروى هذه العبارة التي لا تخلو - كما نرى - من بساطة وسذاجة، قالها رجل مجهول - كما قدمت - لرجل آخر مجهول، أمام رجال أو نساء مجهولين، في ظروف لا نكاد نعلم عنها شيئا. إنها لا تشير إلى قائلها؛ ولكنها - لحسن حظنا - تكاد تنطق بأنها قيلت لرجل غير عادي. صحيح أنه لا يزال بالنسبة إلينا مجهولا كما كان؛ ولكنه كما قلت رجل غير عادي، نحس أنه حاكم أو ملك أو خليفة أو إمبراطور أو أحد القياصرة أو ما شئتم من أسماء.

تعالوا معي نتصوره في تلك اللحظة الرهيبة، لعلها لم تكن رهيبة تماما كما تصور هذه الكلمة؛ فها هو ذا في جلال الحكم وروعته يجلس على عرشه الذهبي المريح؛ على رأسه التاج المرصع بالجوهر والدر الثمين، وفي يده صولجان الملك المخيف، وفي عينيه نظرة البطل المنتصر أو الملك العادل الحكيم. وها هم أولاء العبيد السود من غابات أفريقيا، أو الصفر من سهول الصين ، أو السمر من على ضفاف الأنهار في بابل وآشور أو وادي النيل؛ يهزون مراوح الريش على وجهه الملكي الناصع، ويضيفون إلى روعة المشهد رهبة السلطان. وها هم أولاء الوزراء ورجال البلاط والحاشية، وسفراء البلاد الغريبة وأمراء الحرب والأمن، وحكماء المملكة وشيوخها وشعراؤها وعلماؤها ومنجموها؛ يحيطون به من كل جانب. إنه يجلس إلى المائدة، والمائدة رائعة وحافلة بكل ما يخطر على بالكم من أصناف الطعام والشراب، هل أصفها لكم أو تستطيعون أن تتخيلوها؟

إن أتعس فقراء العالم يستطيع مع ذلك أن يتصور بالخيال ما لم يدخل جوفه ولن يدخله من: لحوم شهية محمرة من الضأن والغزال والديكة والحمام، صحاف ذهبية وفضية ملأى بألوان الخضر والفاكهة والحلوى، فنون من الخمر والنبيذ من كل لون وصنف ومذاق، شموع تتألق على المائدة وفي أركان القاعة الفسيحة الناصعة كمصابيح السماء التي ندعوها بالنجوم، وأيد وأفواه مشغولة بتقطيع اللحم وتذوق الحلوى وتجرع النبيذ، وعيون مبهورة بكنوز الأرض الطيبة وثمارها الحلوة المتاحة، ترتفع إلى الملك الذي يتصدر المائدة؛ لتشكره على نعمته، أو تحسده عليها، أو تتمنى بقاءه لكي تدوم، أو زواله لتستأثر بها دونه. والملك - كما هو مفهوم - قد نسي فيما يبدو أنه ملك؛ فعند الطعام تنسى الرتب والألقاب، ويذكر حتى الملوك أنهم معدة جائعة ولحم ينهش لحما، إنه يأكل ويأكل، إنه يشرب ويشرب. قد يرفع يديه ووجهه عن الأكل لحظة ليقلب عينيه في الحاضرين. قد يشير إشارة إلى اليمين أو اليسار، أو يسر بكلمة لوزير أو حكيم، أو يعلق بنكتة لطيفة على مشهد يراه من قريب أو من بعيد. وقد يتوقف قليلا ليشرب على صحة الحاضرين، أو على صحة ملكته أو أولاده أو وزرائه المخلصين. وقد يأمر فجأة بأن يقف الجميع لحظة حدادا على شخص عزيز أو نديم قديم، كان يلازمه في مثل هذه المناسبات، أو يميل بأذنه إلى جاره ليسمع الأنباء والإشاعات، أو أخبار الأعداء على الحدود، أو أبياتا من الشعر ارتجلها شاعر البلاط المعجب المتخوم ، أو نكتة بذيئة يطلقها مهرجه العابث التعس. إنه في قمة مجده وسلطانه، وهو أيضا في ذروة شبابه وعنفوانه، والخير كثير والأحوال طيبة، والملك مستقر وما من الأيام أفضل مما مضى.

أليست كل هذه المتع ملك يديه وفمه ومعدته؟ أليست بهجة قلبه وعينيه؟ ألا يستطيع أن يمنعها فجأة كما بذلها فجأة؟ أليس في قدرته أن يغضب مرة واحدة فيحول الوزير شحاذا والشحاذ وزيرا، ويحرر العبد ويأسر الحر، ويجلد الجلاد ويقطع لسان الشاعر ويعين الأخرس والأعمى والمخبول في مكان الخطيب والفلكي والحكيم؟ وأي شيء لا يستطيعه ملك الملوك وسيد الأحكام وأمير الشرق والغرب والشمال والجنوب؟

لكنه لا يفكر في هذا الذي لا يفكر فيه إلا الجائعون والمحرومون والعراة؛ بل يمضي في نهش اللحم كما يفعل وحش منهوم، وينقض على الفاكهة كنسر جارح، ويعب الخمر كالتائه العطشان في الصحراء؛ هل نضيف أنه يستمتع بلذات أخرى لا نتصورها الآن؟ هل نقول: إنه - وهو يأكل ويضحك ويشرب بصوت مسموع وينثر نكته وحكمه وأمثاله إلى اليمين واليسار - يمتع عينيه بمشهد تقطيع الرءوس؛ رءوس أعدائه بالطبع من أسرى بابل وآشور، أو من الزنوج والعبيد السود، أو من ضحايا الصراع مع الجلادين والأسود؟ أم هل نقول: إنه يمتعها بمشهد المغنين والعازفين والراقصات بالصدور والأفخاذ والبطون؟ أم تراه يمتع أذنيه بأبيات ترن في أذنيه بأعذب من رنين الذهب المكنوز من بلاد الأعداء، أو بحكمة يقولها فليسوفه ومربيه الناصح الأمين، أو نبوءة يرويها عرافه الأعمى العجوز، أو منجمه الذي لا يصدق أحدا سواه؟

ليكن كل هذا صحيحا أو لا يكون؛ فالمهم أن صوتا واحدا قد عكر صفو المكان، أطلق عاصفة على الحفل المشرق المزدان، أشعل الحريق في قصر الملك أو الخليفة أو السلطان. من أين انطلق هذا الصوت الخشن هادم اللذت! أي رجل ذلك الذي تجرأ عليه؟ إنه كما قلت لكم رجل مجهول؛ أوزير البلاط أشفق على الملك من التخمة أو من كثرة الشراب فأراد أن يحذره؟ ولكن كيف يكون وزيرا أو نديما أو قائد حرب أو داهية سياسية وكلهم على ما نعرف من حب النفاق؟ أم يكون شاعر البلاط أراد أن يطلقه بيتا يخلد مع الزمان ويدونه الكتبة للأجيال؟ ولكن العبارة غير منظومة؛ ولو قد قالها شاعر البلاط لانقطع عيشه أو رأسه، وكلاهما مجازفة لا يقدم عليها شاعر من الشعراء؛ أم يكون مهرج الملك الذي يضحكه في كل مناسبة بالنوادر والأعاجيب والحكايات المضحكة والإشاعات التي يرويها عن علية القوم أو سفلة الدهماء؟ غير أن المهرج لا يمكن أن يصل بتهريجه إلى هذا الحد، وهو يعرف بطبعه وخبثه أن هذه العبارة سرعان ما تنقلب إلى دعابة سخيفة، والدعابة السخيفة يمكن أن تدفع بالثمن الغالي؛ أم يكون طفيليا أو شحاذا أو رجلا من غمار الشعب تسلل بحيلة من الحيل إلى قاعة الطعام، ثم زحف بحيلة من الحيل أيضا إلى جانب الملك، حتى وصل إلى مسمع من أذنيه، وأسرها فيهما أو أعلنها على مسمع من الجميع؟ غير أننا نعلم أن المجهولين من الشحاذين ورجال الشارع والمتطفلين أبعد ما يكونون عن بطولة الأبطال، وهم يعلمون بفطرتهم أو يعلمون من شقائهم الطويل أن مثل هذه العبارة لا تناسب المقام، وأنها قد تحرك سيف الجلاد أو نقمة قائد القواد! نحن إذن لا ندري شيئا عن ذلك الرجل العاقل أو المجنون، والتاريخ لم يقل لنا شيئا عن شكله أو لونه أو طبعه أو منزلته بين الرجال، وليس أمامنا إلا التسليم بأنه لا بد أن يكون قد اقترب من الملك وهو في نشوة الطعام والبهجة والشراب، وأسرها في أذنيه بصوت هامس غير مسموع أو أعلنها فجأة بصوت مرتفع ذي رنين!

لكن ماذا تكون هذه العبارة؟ وبأي لغة قيلت؟ وكيف نطق بها لسانه؟ هل قالها دفعة واحدة وفي نفس واحد، أو شهقة واحدة كما يبكي طفل فجأة، أو كما يصرخ قتيل قبل أن تنفصل رأسه عن جسده، أو كما يهتف فارس وهو يغرز الحربة أو السيف في قلب عدوه؟ ثم هل قالها - كما تقول الرواية - للملك أو الخليفة أو السلطان أو الإمبراطور وهو جالس إلى مائدته الفخمة المزدانة بأطيب الطعام والشراب، المتألقة بأجمل الأنوار التي ترسلها الشموع العابقة برائحة المسك والعطور من بلاد العرب والشام؛ أو لعله قالها لهذا الملك الرائع المجيد وهو يستمتع بمجلس الأنس والطرب ويشنف أذنيه برنين القيثارة وغناء المنشدين، ويبهج عينيه بتأود الراقصات الفاتنات؛ أو وهو في أوج معركة رهيبة بينه وبين الأعداء على ظهر جواده الأصيل، أو في عربته الملكية البديعة، يرسل سهامه إلى قلوب الفرسان، ويوغل سيفه في رقاب الكفرة، ويصرخ آمرا بقتل النسوة والأطفال، وتعذيب الشيوخ والرجال، وحرق القرى والمدن والأبراج ومخازن الغلال؛ أو يكون - وهذا فرضنا الأخير - قد قالها وهو في رحلة صيد في الغابة المعتمة وراء الطيور والوحوش والغزلان، أو وهو يتتبع أفراس البحر أو يصوب حرابه للتماسيح والحيتان؟

نحن لا نعلم شيئا كما قلت، كما لا نعلم على وجه التحديد ماذا كان مصيره بعد أن قال عبارته؟ ونحن لا نريد أن نلتمس عذرا لتعكيره صفو الملك والمملكة، كما أننا لا نسأل عن الدافع الذي دفعه على قولها، وهي العبارة النزقة الطائشة. لعله تذكر الموت فجأة؛ موته الخاص أو موت الملك أو موت الحاضرين جميعا في ذلك اليوم الحزين، أو لعل الموت نفسه قد قفز إلى ذهنه أو قلبه دون أن يدري، فتصور الملك والحاشية وسكان المملكة جميعا هياكل فانية أو جثثا عفنة أو كومة تراب، وربما بعد أن قالها بصوته الهامس أو صوته الجهوري قد لقي العقاب الذي كان ينتظره أو الذي لم يكن ينتظره؛ فربما أمر الملك الغاضب في ثورة غضبه الملكي العظيم أن يقطع رأسه أمام الجميع، أو ربما أمر أن يلقى في جبه المشهور مع المذنبين والمجرمين والخونة السابقين، أو يربط جسده السمين أو النحيف إلى أربعة خيول قوية شابة فيمزق أشلاء تتناثر في جهات الأرض الأربع! أو ربما - وهذا هو الفرض الأبعد والأخير - قد أطرق في حزن ومر بيده الملكية الناعمة في شعر لحيته الكثة المهيبة، وترقرق الدمع في عينيه قبل أن يقول له في صوت هامس: معك الحق يا ولدي؛ فالملوك أيضا يموتون !

نحن لا ندري اليوم شيئا كما قلت، بل لا ندري شيئا عن تلك العبارة المشهورة السيئة الطالع، وكل ما ندريه أنها كانت تدور حول الموت، وأنها قيلت للملك أو السلطان أو الإمبراطور وهو في ذروة المجد والحياة. قد تكون كلماتها كما يلي: «تذكر يا مولاي أنك أيضا ستموت في يوم من الأيام!» (لاحظ أنه لا بد أن يكون قد ضغط بشدة على هذه الكلمة البسيطة أيضا) أو قد تكون على نحو آخر مشابه: «تذكر يا مولاي أنك أيضا ستصبح طعاما للديدان.»

وهي صيغة منفرة وغير لائقة، وبخاصة إذا كان الملك وحاشيته على مائدة الطعام. وقد تكون أخيرا على هذه الصورة: «تذكر يا مولاي أن كل الملوك يموتون.»

صحيح أن هذه الصيغة تمتلئ بالحكمة أكثر مما يجب، وأننا يمكن أن نستبعدها على رجل من الشارع أو على وزير، بل قد نستكثرها على الشاعر والحكيم؛ ولكن ماذا يهمنا من هذه الصيغة المختلف عليها، ما دامت العبارة قد ذكرت الموت وحذرت الملك من شبحه الجاثم فوق رأسه، وذكرته المصير الذي لم يفلت منه آباؤه وأجداده، وآباء الملوك وأجدادهم ورعاياهم في كل مكان؟

قد لا يهمنا هذا كله، وقد نرفض تلك الفروض جميعا؛ ولكن الشيء الأكيد الذي يهمنا والذي كان حقيقة لا نستطيع ولا يمكن أن يكون الملك أو حاشيته أو وزراؤه وندماؤه وشعراؤه ومنجموه وعبيده؛ قد شكوا فيه هو أن العبارة قد قيلت. لا يهمنا على أي صورة من الصور قيلت، ولا يهمنا ذلك الرجل المجهول الذي قالها، ولا بأي صوت أو أي طريقة، ولا المصير الذي انتظره، ولا العقاب أو المكافأة التي كانت من نصيبه؛ كما لا يهمنا أيضا أن نعرف ماذا كان رد فعل الملك أو الخليفة أو القيصر أو فرعون أو الإمبراطور أو السلطان.

أيكون قد ضحك مستهزئا واستمر في طعامه ونشوته، أم بكى كطفل وفزع وترك مائدته وتركتها الحاشية وراءه، أم أصبح بعد سماعها حكيما يعكف على كتب الحكماء ويحرص على سماع حكاياتهم وأسرارهم، أم أمر بشنق الرجل المجهول أو صلبه أو قطع رقبته أو إلقائه في قاع الجب أو السجن، أو على العكس من ذلك بمكافأته بكيس مملوء بالذهب والفضة أو خلع الحرير عليه وعلى أسرته، أو أمر بتنصيبه وزيرا في البلاط أو حكيما بدل حكمائه الخرس المنافقين، أو إطلاقه يهيم حرا في بلاد الله بعد أن ألقى الحسرة في القلب الكبير؟

لا نعلم شيئا ولا يهمنا أن نعلم؛ المهم كما قلت لكم أن العبارة قيلت ذات يوم، وهو أمر لا يصح أن نشك فيه مهما تسرب إلينا الشك في صيغتها وكلماتها ومعناها؛ المهم أنها الآن موجودة أمامنا تقول لفرعون والخليفة والقيصر والإمبراطور والوالي والسلطان: «تذكر يا مولاي أن الملوك جميعا يموتون.» أو تقول: «تذكر يا مولاي أنك ستصبح ترابا وطعاما للديدان.» أو تقول أخيرا على أحسن الأحوال: «تذكر يا مولاي أنك أيضا ستموت في يوم من الأيام!» (1968م)

النعش

يظهر أنني أملك ما لا يملكه الكثيرون من قدرة على التنبؤ بالغيب؛ فلم أكد أغلق باب السيارة ورائي، وأفرغ من محاسبة السائق، وإنزال حقيبتي على الأرض؛ حتى شعرت بأنفاسه في ظهري، كان هو بعينه، هل قلت بعينه؟ أجل بعينه «الوحيدة» التي بقيت له، ينظر بها نظرة جمود وتبلد، فيها المسكنة والخبث والحقد والذل. - عنك يا بيه.

قلت في صوت يجمع بين السخط والدهشة: أنت!

وأردت أن أعبر عن اشمئزازي من سحنته المغبرة التي قدر علي أن تكون أول ما يطالعني كلما حضرت إلى البلد، وأصرخ في وجهه الداكن السمرة، المعفر بالتراب، الذي يسيل عرقا متسخا في أخاديد وحفر كالشقوق في أرض عطشى؛ وأهتف في غضبي: كيف يمكن أن تنشق عنه الأرض في كل مرة، وهل يملك من دون الناس أنف كلب يشم رائحة صاحبه عن بعد، أو تستطيع عينه «الوحيدة» كأنها عين عراف قديم أن تنفذ وراء ألف حجاب؟

ولكنني لم أقل شيئا من هذا؛ فقد أحسست أن عينه المسدودة تشارك في المؤامرة علي، وترمقني خفية بلحمها الملتهب وفراغها المخيف، الذي يوحي بأن ضياع العين ليس إلا نوعا من خداع النظر أو الخديعة؛ ولكي أبتعد عن رائحة العرق المنبعثة من جلبابه القذر، وأتجنب ابتسامة على زاوية فمه بدت لي أشبه بحشرجة ميت، ونظرة من عينه تطق بالشماتة والتبجح والاستهزاء.

قلت في عجلة: دع عنك، ماذا تريد؟

قال وابتسامته المتبجحة لا تزال تطل من التجويف المسدود هو الفم المعوج: أوصلك يا بيه.

زمجرت غاضبا: قلت دع الحقيبة في حالها، خذ.

ومددت يدي بورقة من ذات عشرة القروش كانت هي الفكة الباقية معي؛ ولكن يده لم تمتد لأخذها كما توقعت، بل زادت الابتسامة حتى أصبحت لعنة كالحذاء تصدم أذني!

قلت: دائما طماع!

قال وهو يرفع وجهه فجأة إلى السماء كأنه يشهدها على ظلم فاضح، أو كأنه يراها لأول مرة: لا تكفي يا بيه؛ الولد مات الصبح ومنتظر النعش.

تذكرت لقاءه الأخير معي قبل بضعة شهور، وتبينت الكذبة البشعة فصحت: ابنك، ابنك، هل يموت ابنك مرتين؟

قال في تخاذل: أمر الله يا بيه.

صحت هائجا لا تذكر اسم الله على لسانك؛ ألم تطلب في المرة السابقة أن تشتري له كفنا؟ واليوم تريد نعشا، أيها الكذاب.

قال وابتسامته لا تفارقه: أستغفر الله يا بيه؛ الولد مات الصبح، حتى تعال سعادتك واحكم بنفسك.

قلت وقد ارتفع صوتي كما كان: كذاب، كلكم كذابون، هل تظن أن عندي كنز قارون؟ هيا، غر من وجهي.

وانثنيت لأرفع الحقيبة من على الأرض، ومضيت في طريقي بضع خطوات وإذا به يلاحقني وهو يتوسل: يا بيه ربنا يحنن قلبك، طيب كمل لي على ثمن النعش.

بدأ صوته يتحشرج، وخيل إلي أنه يئن كوحش يموت، ولم يكن تأثري هو الذي جعلني أستدير إليه؛ بل رغبتي في التخلص من وجوده البغيض، مددت يدي في جيبي فأخرجت ورقة من ذات الجنيه، ووقفت أمامه وأنا أتميز غيظا وأصيح: ليكن في علمك أن هذه آخر مرة يموت فيها ابنك، وإذا كذبت علي بعد هذا فسأعرف شغلي معك.

كانت عينه «الوحيدة» مستغرقة في الورقة الخضراء، وغاظني ألا أجد فيها دمعة واحدة، وقبل أن أمد له يدي سألته مهددا: أين تسكن؟

قال وهو يشير بذراعه إلى ما وراء شريط السكك الحديدية: في عزبة الغجر يا بيه، طول عمري هناك.

قلت وقد ازداد سخطي: في أي شارع؟

زادت ابتسامته المتبجحة اتساعا: شارع؟ والنبي قلبك طيب يا بيه.

صحت وقد نفد صبري: اخرس، أريد أن أعرف العنوان لأستدل عليك، سأزورك لأعرف كذبك.

قال وهو يمد يده ليأخذ الجنيه ثم يقبض عليه في سعادة: تزورني؟ تشرف والله يا بيه، اسأل سعادتك عن ابراهيم الاعور وألف يدلك.

نظرت إليه وأنا أحس أن وجهي سينفجر من الغضب، ثم رفعت الحقيبة ومضيت وهو ما يزال يشيعني قائلا: والنبي تشرف يا بيه، تنور العزبة كلها.

كان ذلك في صباح عودتي إلى البلد في إجازة قصيرة، تشاءمت لهذه البداية التي واجهتني بالشحاذ الأعور وولده الميت ونعشه؛ ولكنني سرعان ما نسيت هذا كله عندما سلمت على أبوي، واطمأننت على الصحة والأحوال، أقول اطمأننت وفي قولي مبالغة؛ فقد كانت أمي طريحة الفراش تعاني من الروماتيزم القديم الذي يهاجمها دائما في الشتاء، أما أبي فلم يكد يراني حتى بدأ يشكو من كساد الحال وغلاء المعيشة ومكر الفلاحين، وقد فهمت من ذلك إشارة خفية بأن علي أن أحمل عنه بعض أعبائه، فأزور الغيط وأحضر قسمة القمح وأباشر نقل المحصول؛ غير أنني لم أكن على استعداد للمشاركة في شيء، وأفهمت أبي أن وقتي ضيق، وأنني مكلف ببحث هام لا بد من إتمامه قبل نهاية الإجازة القصيرة.

لم أستطع بالطبع أن أقول له شيئا عن موضوع هذا البحث الذي عزمت على أن أعكف عليه؛ بل مضيت أفرغ حقيبتي من محتوياتها، وكانت لا تزيد عن بعض الملابس الضرورية حشرت بينها بعض محاورات أفلاطون، رتبت الكتب على مائدة صغيرة وضعت في الصالة، وأخرجت المحبرة والقلم والأوراق وتهيأت للعمل، أو هكذا تعمدت أن أفعل؛ لكي يعرف الجميع أنني لا أملك دقيقة واحدة أضيعها، أحضرت لي الخادمة الصغيرة كوبا من الشاي، رحت أقلب في أوراقي وأنا أسمع صوت أمي تئن من الألم وتدعو لي بالنجاح، أما أبي فقد تناول عصاه وشمسيته وقال قبل أن يغادر البيت: إنه سيسرح الغيط والمعين هو الله.

كان الموضوع الذي يشغلني عن «خلود الروح»، والحل أنني لم أكن في حاجة إلى تقليب الكتب لأعرف مزيدا عنه؛ فقد عشت الشهور الماضية مع الحكيم الإلهي بكل عقلي ووجداني، وملكت براهينه وحججه علي نفسي؛ حتى صرت أرددها في نومي ويقظتي.

كانت أحاديث سقراط مع أصحابه لا تزال تتردد في أذني وأجد متعة في ترديدها لنفسي؛ حتى خيل إلي أنني أنا الذي اكتشفتها ولم يبق إلا أن أقنع الناس بها؛ بل لقد تيقنت أن خلود الروح أمر واضح وبديهي، وأن الحكيم المتواضع قد أجهد نفسه أكثر مما ينبغي في إثبات شيء لا يصح لإنسان يستحق هذا الاسم أن يساوره الشك فيه لحظة واحدة.

يا لهذه الروح البسيطة الصافية الجميلة! إنها عربة ذات جوادين مجنحين، يقودها سائق له جناحان، تصعد وتصعد وتصعد، مخترقة السحب والنجوم والشموس؛ حتى تمتزج بالمثل وتتآلف هي ونفوس الآلهة والملائكة والعباقرة؛ أليس هذا كله من نصيب الفلاسفة الذين يقهرون عناصر الاضطراب والجموح في نفوسهم، ويرتفعون بها إلى موكب زيوس العظيم؟ أليس من حقي أن أكون سعيدا إذ أرى نفسي وهي تسوق جواديها المجنحين وتركض هناك فوق السحب والأفلاك، وفوق الغيط والمحصول والفلاحين الذين يغشون أبي، وفوق الروماتيزم والكبد وكل ما يجعل أمي الآن ترسل أنينها الذي يزعج تأملاتي؟

انتبهت على صوت الخادمة تنادينني، لم أكن قد سمعتها وهي تفتح الباب الخارجي، فرفعت رأسي عن أوراقي وسألتها عما تريد. قالت: إن أبي يريد أن أسرح الغيط. صرخت فيها: إنني مشغول، ورحت ألعن وأسب لأن أحدا لا يقدر أهمية إثبات خلود الروح؛ ولكنها وقفت عاجزة أمامي، واكتفت باسترعاء انتباهي إلى رأس كان يطل من الباب، ويبدو أن صاحبه يقف هناك في انتظاري، وبجانبه حمار يهز أذنيه ويطل هو أيضا من خلال الباب.

لا أدري لماذا تذكرت «الأعور» فجأة عندما وضعت قدمي على عتبة الباب؟ لم أتذكره هو نفسه في الحقيقة؛ بل خطر على بالي ابنه الذي قال لي: إنه مات في الصباح ، أو على الأصح ذلك النعش الذي أراد أن يشتريه له، بالطبع لم يكن في منظر الفلاح الذي أرسله أبي ولا في الحمار الذي كان معه ما يثير هذه الصورة في نفسي؛ فلعله إحساس مباغت بالندم أو الحزن اعتراني حين وضعت قدمي على أرض الشارع، وجعلني أتهم نفسي بأنني قد ظلمت ذلك الأعور، لا بل ظلمت جثة صغيرة لا ذنب لها سوى أن هذا المتسكع قد تسبب يوما في خروجها إلى الحياة، ثم في خروجها منها.

سرت إلى جانب الفلاح أدمدم بكلمات عن الصحة والأحوال ومحصول السنة والعيشة في مصر، وغيرها مما لا يمنع الإنسان من التفكير في الخلود، كانت إحدى محاورات أفلاطون في يدي، ولم أشأ أن أركب الحمار الذي بدا لي مسكينا وهزيلا إلى حد مخيف، وقضيت ساعات في الحقل، قضيتها بجسدي وحده، لا بروحي التي كانت تنطلق مرة بعربتها المجنحة في موكب الآلهة، وترقد أخرى عند جثة طفل ممدد على فراش قذر في بيت حقير أمام أب كريه وأم لا أعلم عنها شيئا! لا أدري الآن كيف استطعت أن أتخلص بسرعة من أبي والفلاحين والمحصول، وأعود وحدي على الطريق الموصل إلى عزبة الغجر؟ كان الإحساس الحزين قد انعقد كالسحابة الكثيفة في نفسي؛ حتى أصبح نوعا من الشعور بالإثم يزيدني مع كل خطوة رغبة في التكفير عنه بأي ثمن، وكيف لا يعذبني هذا الشعور وأنا الآن أجوس خلال طريق قذر بين بيوت قذرة، وأحاول أن أتصور بين الروح الصغيرة التي غادرت الجسد الصغير وراحت ترفرف بجناحيها الصغيرين؟ ها أنا ذا أقترب من العزبة المجهولة، وأسأل أناسا مجهولين عن بيت مجهول يضم جسدا مجهولا!

اقتربت من العزبة التي تبدو من بعيد ككومات من القمامة رصت بعضها بجانب بعض، وتزكمني رائحة العفن والمرض والجوع والهوان، أسأل العابرين فيبتسمون في تعجب وإشفاق، وتغوص قدمي في الوحل والعفونة وحفر الماء الآسنة وبقايا الصغار والكبار، وتغوص عيني في البيوت أو ما يمكن تسميته البيوت ؛ أبواب مفتوحة كأفواه كهوف، أو وحوش منقرضة تفضي إلى ظلام في الداخل لا يظهر منه إلا أشباح آدميين، أمهات وآباء في خرق قذرة ممددين كالموتى في انتظار الأكفان واللحود، وأطفال تجري أو تصرخ أو تلعب في التراب والطين أو تأكل لقما غطتها أسراب من الذباب، والنساء والشيوخ والرجال تداخلت أجسادهم وأطرافهم، واختلطت وجوههم حتى بدت وجها واحدا يصرخ بالمرض والذل، تحاول بالأصوات العالية أو الضحكات المغتصبة أو الكلمات البذيئة؛ أن تذود عن نفسها سأم الفقر والموت بالاحتناق. وأنا أسأل ولا أكف عن السؤال عن بيت إبراهيم الأعور، وكلما وجدت أحدا لا يعرفه سألت عن مأتم صبي أو طفل صغير مات في الصباح، الجميع يشفقون علي ويبتسمون في وقت واحد! أيتها الجثث الحية، هل تعرفين شيئا عن خلود الروح؟ أيتها الحفر الطينية التي لم يدخلها كتاب تشرق عليك الشمس كل يوم؛ لكن لا يدخلها النور، تهب عليك نسمات المساء؛ ولكن لا تعرفين الراحة، تطل عليك النجوم؛ ولكن لا يبدد ظلامك الحجري شعاع نجمة ولا قمر ولا مصباح. وأنت يا طفلي المسكين الذي ظلمته في أول النهار، هل تعلم أنني أجوس في مملكتي السفلى عالمك الذي نسيه التاريخ، وفي يدي كتاب يطوي كل البراهين التي تحبها عن خلود الروح؟ أيتها الروح الصغيرة التي تركت هذا العالم منذ ساعات، أين أنت الآن؟ وإلى أين ترفرفين؟ هل ستنضمين بعربتك الصغيرة إلى موكب الأرواح وتركضين بجواديك الصغيرين المجنحين إلى جانب الشعراء والأولياء والقديسين؟ أو يا ترى ستنزوين هناك أيضا في عزبة حقيرة، وحارة حقيرة، وبيت حقير، يملؤه الذباب والعفن والفقر والخوف في كل لحظة من الجوع والفضيحة؟

هل ستنسين الأب المتسكع والأم المريضة، ورفاق اللعب المنسيين من الأرض والسماء، واللقمة القذرة بلا غموس والحجرة المظلمة التي علمت جسدك طعم القبر؟

أيتها الروح المسكينة، يقولون: الخلود هو الانتصار على الموت في أثناء الحياة وبعد الحياة؛ لكن الموت انتصر عليك والبؤس قهرك وانتقم منك، من يجرؤ أيتها المسكينة الصغيرة مع كل هذا البؤس أن يفكر في خلود البؤس نفسه؟

أيتها المحاورات الغادرة في يدي، يا براهين الخلود الكئيبة، يا براهين الخلود المستحيلة، أنت أيتها الكتب الذليلة جميعا، ماذا بوسعك أن تفعليه أمام هذا البؤس كله، كل هذا البؤس الذي يصدم عيني، ويزكم أنفي، ويخجل جسدي، ويذل روحي؟

ها أنا ذا أقترب من بيت الأعور، إنه في نهاية هذه الحارة، أول بيت على يمين كما أشار لي الحمال العجوز الذي سألته الآن، أيكون من حظي أن أجدك يا طفلي المسكين حيا لا تزال، أم مسجى على الفراش القذر أو على الأرض الباردة؟ وماذا لو وجدت النفس يتردد في صدرك وعينيك تطلان علي؟ ماذا أفعل؟ سأتقدم منك يا طفلي الحزين، سأتولى عنك الصراع مع الملاك، سأقول لك انهض، انهض يا لعازر الصغير، لست أنا السيد ولا أستحق أن ألثم أظفار قدميه؛ لكنني سأقول لك: أنت حبيبي الذي نام وأنا جئت لأوقظك، سأطرد أباك المتسكع وأمك الوقحة، سأسوق عربتك المجنحة إلى بلد أخرى يضيئها الحب والنور والحياة، سأخر راكعا عند نعشك، وأغسل قدميك بدموعي وأقول لك: انهض وهلم خارجا من هذا البيت! انهض يا أمل بلدك يا فارس أهلك! انهض انهض هلم خارجا من هذا العالم القذر، هذه البلدة القذرة، هذه الحارة القذرة، هذا الجحر القذر الملعون، ها هو ذا بيتك يقترب؛ فهل يا ترى ستسمع صوتي الباكي؟ هل ستنهض من نعشك الصغير، أو أن أباك لم يشتر نعشك، أو لم يجد المال الذي يكفي ليشتريه؟

لم أجد ضرورة لطرق الباب؛ فقد كان مفتوحا، يطل على ممر طويل يكفي الضوء القليل الذي يتسرب إليه من الشارع ليكشف عن قبحه ويبين للعين المدققة عن بعض الأجساد الممددة فيه. تصنت قليلا قبل أن أصفق بيدي؛ فلم يكن هناك أثر للصوات، ولا حتى لبكاء صامت، أو دمدمة بآيات من القرآن! وقبل أن أصفق بيدي أو أنادي سمعت خلف ظهري صوتا عاليا يقول: ضيوف يا أولاد، كلم سعادة البيه يا ابراهيم. كان هو الحمال العجوز يلهث من الجري، وقد سبق خطواتي الحريصة المترقبة، وجاء يعلن الخبر لسكان البيت.

وما هي إلا لحظة حتى رأيتني وجها لوجه أمام إبراهيم، كانت قصبة الجوزة في فمه، والدخان الأسود يخرج من أنفه، ويحجب عني وجهه اللعين! - سعادة البيه؟ خطوة عزيزة والله.

قلت باشمئزاز: جئت أقول البقية في حياتك.

ناول الجوزة يدا لم أتبينها في ظلام الجحر الملعون، وأقبل علي يبتسم ابتسامته التي تشبه حشرجة ميت: تفضل يا بيه، تفضل، هاتي الحصيرة يا فاطمة.

قلت محاولا أن أحافظ على اتزاني وأن أشكره في الوقت نفسه: جئت أعزيكم. هل كفت الفلوس؟

رفع يديه إلى السماء في حركة أثارت سخطي، ومد ذراعه يبحث عن يدى ليقبلها، فسحبتها متضايقا وأنا أقول: أين النعش؟

قال متعجبا (وظهرت امرأة طويلة نحيلة وراء ظهره لاحظت شعرها الأشعث الذي تحاول أن تغطيه بشال قذر): نعش؟ الله يعمر بيتك يا بيه، تفضل نعمل شاي.

زاد غصبي لبروده ووقاحته، وحدثتني نفسي أن أصفعه على وجهه: أنا جئت للمأتم لا لشرب الشاي!

تدخلت المرأة الطويلة الشاحبة التي ظهرت على عتبة الباب، وقالت في صوت واحد مع الحمال العجوز: مأتم؟ مأتم إيه لا سمح الله يا ابراهيم!

عرفت الآن أنني وقعت في فخ حقير، وتبين لي بما لا يقبل الشك أن هذا الأعور قد كذب علي مرة أخرى.

رفعت يدي التي كانت لا تزال تقبض على محاورة أفلاطون قائلا في صوت كالرعد: كذبت علي يا أعور؟ هكذا تسرق الناس يا كلب؟

رفع صوته الأجش وهو يعوي ككلب مجروح، وجثا يقبل ركبتي وقدمي، فزادني هذا سخطا على بشاعة موقفي ومهانته.

صحت: سأبلغ عنك، الليلة تبيت في السجن.

عاد يعوي: في عرضك يا بيه، أنا غلبان والله، كلنا غلابة.

صرخت في وجهه: كذاب، كذاب، قل هذا في المركز.

واستدرت غاضبا بعد أن خلصت قدمي ويدي منه.

كان صوته الغليظ ما يزال يتبعني وهو يقول: كلنا على باب الله يا بيه، وشرف سعادتك لو قلنا الحق نجوع، يعني يرضيك نكذب ولا نجوع؟ (1968م)

عندما تلقاه ذات يوم

عندما تلقاه ذات يوم فلا تخش شيئا، قد يصادفك وأنت تسير في شارع مزدحم أو خال، وقد تراه على منعطف طريق وأنت تناجي نفسك، قد تلمحه عندما تشخص عيناك - بمحض الصدفة أو بدافع الملل - إلى القمر والنجوم؛ ستراه هناك يبتسم عن أسنانه الناصعة ويشير إليك. تقدم منه ولا تخش شيئا؛ لا، لا تنتفض ولا تسمح لأطرافك وقطرات دمك ونبضات قلبك أن ترتعش! لا تخف من وجهه المستدير الأخضر الذي يشع بالنور، ولا من عمامته الخضراء الملفوفة فوق رأسه المباركة، ولا من حصانه الأخضر الذي يشع صدره ويلمع كالزبرجد، ولا من بشرته المسمرة الداكنة الخضراء كسمرة الحقول يكسوها الزرع والبرسيم. اقترب منه، أمسك فرستك من خصلات شعرها ولا تجعلها تقفز في الفراغ! اجر وراءه ولا تخف أن تطاردك الكلاب أو يتهمك الناس بالجنون أو يقذفك الأطفال بالحجارة! لا تخف أن يراه الناس؛ فهو لا يظهر للعيون، ولا أن يضل في زحام الخلق؛ فقد تعود أن يتقدم الجيوش والفرسان، ولا أن تلسع أسلاك الترام قدميه الشريفتين؛ فجواده الأخضر يطير به فوق السحاب. وعندما تتعرف عليه ولا يبقى في نفسك شك من أنه سيدك ومولاك الذي انتظرته من مئات السنين، وتتذكر ما روته أمك عنه وأنت صغير، وما قرأته عنه في الكتب الصفراء عندما أصبت بمحنة المقروء والمكتوب.

عندما تتعرف عليه اقتحم الزحام واهرع كطفل يهرب من حلم مفزع، وناد بأغلى صوتك: سيدي ومولاي! ربما التفت إليك؛ لا، بل سيلتفت إليك بالتأكيد، سيوقف جواده الأخضر ويربت عليه ليخفف من طيشه وجموحه، سيميل بوجهه المنير حتى ترى ابتسامته ويقول في صوت تسمعه أنت وحدك: هل ناديتني يا ولدي؟

تقدم منه، اقتحم زحام البشر والكلاب والعربات، سر إلى أطراف المدينة أو حتى إلى آخر الدنيا، واطمئن؛ اطمئن إلى أنه سيهبط إليك من سحابة أو قبة أو مئذنة، وسيقترب منك قوس قزح مباركا وجميلا؛ ليسألك من جديد: ماذا تريد مني يا عبد الله؟ أسرع بهتافك الذي يعذبك من سنين وسنين، سله أن يفسر لك الرؤيا التي تؤرقك بالليل والنهار، ناده؛ فليس غيره من يفسر الرؤى والأحلام، صح بأعلى صوتك: مولاي، نجني يا مولاي !

سيقترب منك، ربما رفع يده ليطمئنك، أو مسح بها على رأسك ليرقيك ويقول لك: «المنجي هو الله يا ولدي، ماذا يفزعك؟» ستصيح من جديد وأنت تقترب منه وتبحث عن صدره لتدفن وجهك فيه: حلم مفزع يا مولاي، أنقذني يا ولي الله. سينعطف نحوك، سيضع يده على قلبك؛ ليشملك ببركته، سيقول لك: «احكها لي يا ولدي!»

ستردد وأنت تحبس دموعك ونشيجك: «أراني أجري في الشوارع كالمجنون، تجري الأطفال ورائي، تطاردني القطط والعساكر والكلاب، يتمزق لحمي، يتساقط، أتعثر فيه، تنهشه الغربان، يقف الناس فيشيرون نحوي ويضحكون؛ لكنك تظهر يا مولاي في كل مرة.» سيسألك: أظهر لك؟ أنا اختفيت يا ولدي، فلم أظهر لأحد بعد موسى بن عمران؟ ستقول مسرعا: بل تظهر لي فجأة كنور النيون أو كشاف السيارة، فأعرفك وأهتف بك: يا ولي الله، نجني من يأجوج ومأجوج، خذني إلى عين الحياة؟

سيرفع رأسه قليلا ويهزه إلى اليمين واليسار، ستتخلل أصابع يده لحيته الخضراء الشريفة المعطرة بالمسك، وتشخص عيناه للسماء قبل أن تهمس: يأجوج ومأجوج؟ عين الحياة؟ ها أنت ذا تذكرني يا ولدي؛ لكن أين الجيش الجرار؟ أين ألوف الفرسان؟ هل جمعتهم يا ولدي؟

ستعجب من قوله، سيدهشك أنه يتلفت حوله ليبحث عن الجيش الجرار، كما يتحسس بأنفه الغبار الذي تثيره أقدام الخيل والفرسان! ستسأل: أي جيش يا ولي الله؟ ما أنا إلا عبدك الفقير! سيزجرك بإشارة من يده ويقول: بل كلنا عبيد الله، ألست ذا القرنين يا ولدي؟ ستذهل أو تضحك أو تتأفف، ثم تقول: ذو القرنين؟ سيسألك في حيرة: إذن فأنت من نسله يا ولدي؛ وإلا فلماذا دعوتني لنهزم يأجوج ومأجوج؟ ستعود إلى الكلام فتقول: من ذو القرنين يا مولاي؟

سيرفع حاجبيه من الدهشة ويسألك: ألا تعرفه حقا؟ الذي ملك البلاد وقهر العتاة، وفتح المدائن والحصون القلاع! ستسأله من جديد: صفه لي يا مولاي، صفه لي. سيستمر في كلامه فيقول: عجيب أمرك يا ولدي! من ذا الذي لا يعرفه ؟ عبد الله الصالح ورسوله إلى أهل بابل، من عاش ألف سنة وزيادة، وفتحت جيوشه المنصورة أرض المشرق والمغرب، ودخلت أرض الظلمات!

ستسأله وقد زاد شغفك بالجواب: ولماذا سموه ذا القرنين يا مولاي؟ سيجبيك في دهشة: ومن أحق منه بهذا الاسم وقد سار من مشرق الشمس إلى مغربها، وملك أرض الروم وفارس، ورأى في منامه أنه نصب له سلم إلى السماء، فلم يزل يرقى عليه حتى بلغها، فأخذ الشمس بيده اليمنى والقمر باليسرى، ثم سار بهما وتبعته الدراري والنجوم؟

ستعود إلى السؤال وقد بدأت تتذكر: أليس هو الإسكندر يا مولاي؟ سيقول مسرعا: هو يا ولدي العبد الصالح الذي إذا سار سهل الله له ببركة صلاحه، من حارب الكفرة فألبسه الله الهيبة وسخر له جنود النور والظلمة!

ستضحك في سرك أو تفلت الضحكة منك، ربما قلت له: لكنه مات يا ولي الله، مات من أربعة وعشرين قرنا!

ربما غضب وثار وجلجل صوته: ذو القرنين لا يموت يا ولدي، ذو القرنين حي ببركة الحي الذي لا يموت، إنه يظهر في آخر الزمان أو يظهر واحد من صلبه يمحو الكفرة؛ أنسيت أنني كنت وزيره ومدبر ملكه وقائد جيشه الذي أقام السد حول يأجوج ومأجوج؟

ستبتهل إليه أن يصف لك حربه الرهيبة مع الكفار، وسيشخص إلى السماء من جديد، ويتمتم بدعواته الصالحات، ويتخلل بأصابعه الشريفة لحيته المباركة قبل أن يقول: ما زلت أذكر هذا يا ولدي وأراه أمامي كما أراك! ما زلت أذكر جيشه الجرار من ألف ألف فارس وأربعمائة ألف، يقهرون أمة أمة، يأخذون أرضا أرضا، يجتازون الجبال الشم ويفتحون الأرض المبسوطة، يقتحمون الجزائر التي تزاور عنها الشمس عند طلوعها، يخترقون بحد السيف قوما وجوههم كوجوه القرود والخنازير.

سرت يا ولدي بجيشه العظيم حتى بلغنا مغرب الشمس، أحطنا بهم من كل جانب، سلط الله عليهم ظلمة شديدة بغبار عاصف، دخل الغبار والظلام في أفواههم وآذانهم، فهلك منهم قوم كثير بأمر الله.

ستسأل من جديد: وما حكاية السد يا مولاي؟ ما حكاية يأجوج ومأجوج؟ سيقول لك والحماس يشع من عينيه المباركتين: كان ارتفاعه يا ولدي ستمائة ذراع وعرضه ثلاثمائة ذراع، أقمناه بأمر الله من معدن الحديد وصفائح النحاس، البصر لم يصل إلى مداه، فوقه شرفات من الحديد؛ في كل شرفة قرنان، في وسطه باب له درفتان؛ عرض كل درفة منهما خمسون ذراعا، وعلى الباب قفل طوله سبع أذرع، وله مفتاح طوله ذراع معلق في سلسلة طولها ثماني أذرع، وعتبته عرضها عشر أذرع، وطولها مائة ذراع. للسد حارس طوله عشر أذرع، يركب كل يوم ومعه عشرون فارسا بأيديهم مرزبات من الحديد، فيضربون على ذلك القفل ثلاث ضربات، ثم يصغون بآذانهم، فيسمعون دويا كدوي النحل، فيعلم يأجوج ومأجوج أن هناك حراسا وحفظة خلف الباب!

وتعود فتسأل: ومن هؤلاء الذين يعيشون خلفه يا مولاي؟ فيجيبك مؤكدا: الكفرة يا ولدي، إنهم كالنحل؛ منهم من طوله مائة وعشرون ذراعا، ومنهم من طوله وعرضه سواء يأكل الإنسان والوحش ومن مات منهم أكلوه!

ويغلبك السؤال مرة أخرى فتقول: وهل يبقون هناك يا ولي الله أو يهدمون السد أو يخاتلون الحراس؟

ويجيبك ولي الله: بل لا يخرجون منه إلا في آخر الزمان، إنهم يلعقون السد بألسنتهم كل يوم، حتى يروا منه شعاع الشمس إذا غربت، ويقولون لأنفسهم: غدا نفتحه. لكنهم يجدونه في اليوم التالي كما كان في الشدة والغلظ، وعندما تقوم الساعة ينام الحراس، فيجدونه مفتوحا ويخرجون على الناس ويسبحون في الأرض، ويأكلون الإنس والوحوش والأشجار، ويشربون الأنهار والبحار؛ حتى يرسل الله عليهم الريح التي أهلك بها قوم عاد، كما يرسل عليهم طيورا سودا ذات أعناق سوداء تلتقطهم وتلقيهم في البحر!

ستهتف: قامت الساعة يا مولاي! سبحوا في الأرض، أكلوا الأطفال والأشجار، أغرقوا السدود فلم توقفهم الريح، نهشوا اللحم فلم تلتقطهم الطيور السوداء ذات الأعناق السوداء.

ستراه يهز حصانه الأخضر، ويخرج سيفه من جرابه ويشرعه في الهواء، ويصيح: تعال يا ولدي نحارب يأجوج ومأجوج! تعال نغلبهم بأمر الله! وتتلفت حولك فلا تجد الجحفل الجرار، وتتحس نفسك فتراك وحيدا تنتفض من البرد تحت أعين النجوم، ويأتيك صوته الأجش العميق: هيا بنا يا عبد الله. هيا بنا يا من جئت من صلب ذي القرنين!

وتبتسم وتقول: ما لي وذي القرنين يا ولي الله؟

فيسأل غاضبا: ألست من نسله الطيب يا ولدي؟ ألست من قومه المباركين بإذن الله؟ اخلع يا ولدي رداء العظمة، وانزل عن عرشك واتبعني.

فتجيب بابتسامة لن تخفى عليه: أي رداء يا مولاي وأي عرش؟

فيقول في حماسه الذي لا يكل: رداء الجبروت يا ولدي المنسوج من الذهب والدر، عرشك المرصع بالذهب والياقوت، تواضع لله يا ولدي، تواضع لله.

فتقول وأنت - لولا الرهبة من حضرته - تكاد تضحك أو تبكي: هذه بذلتي التي لا أملك سواها!

سيسأل وقد زادت حيرته: بذلتك؟ ماذا تقول بحق الله؟ اخلع يا ولدي رداء العظمة، وتواضع لله.

وتسأله لتخرجه من حيرته: العظمة؟ من تحسبني يا مولاي؟

سيقول: القائد الذي لا يهزم بأمر الله، ماحق يأجوج ومأجوج!

سترد عليه بانكسار: ما أنا يا مولاي سوى موظف في الأرشيف!

وسيسألك من جديد: الأرشيف؟ ما معنى هذا يا ولدي؟

ستقول وأنت تحتمي بظلك: مكان مظلم يذهب إليه المساكين، يوقعون في دفاتر الحضور والانصراف، يدونون الوارد والصادر، يقولون لكل من يسألهم: حاضر ومعلهش وغدا إن شاء الله! يحلمون على مكاتبهم بالمرتب في أول الشهر، وحذاء لا يحتاج إلى نصف نعل، وبوليصة تأمين تضمن مستقبل الأولاد، ونظرة عطف من الوكيل والمراقب والمدير!

ويتخلى صوته الأجش العميق عن هدوئه، فيقول: ويأجوج ومأجوج يا ولدي؟ هل نتركهم يفسدون إلى آخر الزمان؟

وتهمس أو تفكر بينك وبين نفسك: لقد فتحوه وخرجوا يا مولاي يفسدون وينهبون ويتلذذون بلحم الأبرياء، سدود يا مولاي؛ فأي سد منها نختار؟ حراس! أين منهم حراسك العشرون؟ مذابح وصراخ وأنين عجزة وأطفال، هذا هو العالم الذي أعيش فيه، أنا موظف الأرشيف الصغير.

سيتنهد ويقول: ما زلت يا ولدي لا أفهم معنى الأرشيف؛ لكن سل عما بدا لك كما سأل ذو القرنين وموسى بن عمران.

وهنا تحضرك الرؤيا فتهتف: سيدي ومولاي، أرشدني إلى عين الحياة ، خذ بيدي إلى نبع الخلود. سيمد يده إليك في حنان، ربما ربت على رأسك المتعب بكفه المباركة المعطرة بالمسك والإيمان، ربما ناداك بصوته العميق: تعال يا ولدي، تعال معي؛ لتستريح.

ستسأل قبل أن تبدأ الرحلة على جواده الأخضر الذي يشع بالنور: إلى أين يا ولي الله؟

سيقول: لا تخف يا ولدي، إلى أرض الظلمات.

سترتعش لما سمعت، ستسأل من جديد: صفها لي يا مولاي، أهي العين الحمئة؟

فيغضب لجهلك ويقول: بل صافية يا ولدي، ماؤها أحلى من العسل.

وتسأل مرة أخرى: وهل رأيتها يا مولاي؟

فيقول مبتسما من جهلك الفظيع: بل نزلت فيها يا ولدي واغتسلت، شربت من مائها، وجربت الخلود بأمر الله.

هناك يحترق شوقك إلى عين الحياة، وتمضي مع الشيخ الطيب الذي تستنشق ندى خضرته، ستخترق أرض الظلمة وهو يسير أمامك، يتهادى فوق جواده الذي يشع كالزبرجد بالنور، سيصير ليلك ونهارك واحدا، وتسقط عين الشمس خلفك، ستوغل في ظلام لا كظلام الليل؛ يفور كالدخان ويئز كأن أسياخ حديد محمية يلقيها فيه الإنس أو الجان، وستمشي ثمانية عشر يوما وربما عشر سنين لا ترى شمسا ولا قمرا ولا ليلا ولا نهارا ولا وحشا ولا إنسا، وتسير في واد تزلق فيه الخيل والجمال والأقدام حتى ترى نورا يشع من بعيد، وعندما تقترب منه ستعرف أنك انتهيت إلى الصخرة البيضاء؛ هناك لا تستطيع أن تفتح عينيك في النور الذي يشع منها، هناك ترى ثلاثة نسور تعلقت بها، وراحت عيونها القاسية تحدق فيك!

سيشير ولي الله إشارة تطمئنك، سيبتسم لك ويشجعك، وستقترب من الصخرة فتسمعها ترتعد وتقعقع غاضبة، وترى النسور تنتفض مهرولة، وسترجع عنها خائفة فتسكت وتهدأ، ثم تحاول العودة وهي في كل مرة تنتفض بما عليها من النسور وترتعد وتقعقع كأن بركانا في باطنها، أو كأن ألف فارس يهزون سيوفهم فيها. سيتقدم منها ولي الله فتسكت وتطمئن، فيرقى عليها ولا يزال يرقى وأنت تنظر إليه وهو يطلع إلى السماء درجة درجة حتى يوشك أن يغيب، وستسمع مناديا من السماء يهتف به : امض أمامك واشرب بأمر الله فإنها عين الحياة، تطهر من مائها ؛ فإنك تعيش إلى يوم ينفخ في الصور! وستراه وهو ينزل من على فرسه، ويغترف الماء بكفيه ويظل يشرب حتى تشرق من وجهه شمس الرضا الصغيرة، ثم تراه وهو يتجرد من ثيابه ويخلع سيفه وينزل فيها ويتطهر.

وتسمع المنادي يهتف بك: ها أنت ذا قد شربت من ماء الحياة، أعطيت الحياة إلى قيام الساعة؛ أما بقية الأحياء فيموتون! ارجع يا ذا القرنين أنت وعساكرك؛ فلن تذوقوا قطرة من عين الحياة حتى تعرفوا إرادة الحياة.

ستقف هناك محسورا، على حين يعود إليك ولي الله يتهادى على جواده الأخضر، ويشع من وجهه وعمامته وجسده نور أخضر، وستعرف أنك موظف الأرشيف الذي حرم ماء عين الحياة، ولا بد أن يعود إلى مياه البرك والبلاعات والمواسير!

وستفهم أيضا أن ولي الله لم يكن له ذنب معك؛ فجسمك ضئيل لا يحتمل صعود الصخور والجبال، احمد الله أن المدينة جعلتك تسير على الأرض المرصوفة، وتقنع بالحفر المفروشة في شقوق العمارات، وأمراضك التي لم يسمع بها مولاك تسرق منك الأنفاس، وبنطلونك وقميصك وسترتك المضحكة تمنعك من الدخول. ستقف هناك وحيدا تحت القمر والنجوم، وستشخص ببصرك حولك وفوقك باحثا عن مولاك، لن تجد الوجه الأخضر ولا الجواد الأخضر، لن تشم المسك، ولن ترى اليد التي تربت على رأسك وتشجعك وترقيك؛ ربما سمعت صوتا يناديك: سل عما بدا لك يا ولدي. فلا تدري كيف تجيب؟

هل تطلب منه الراحة لقلبك والبعث، أو السلام لأرضك وللزهور والعصافير والمساكين والأطفال؟ هل تطلب منه الوجه الذي تحبه، أو تنسى هموم القلب وتطلب العدل والخير والبهجة للجميع؟

لن تستطيع أن تجيب على الصوت، ستقف وحيدا تحت أعين النجوم، ستحدق في الفراغ وتمشي وئيدا محني الظهر، وتبتعد عن الصحراء في أطراف المدينة الموحشة؛ لتعود إلى حفرتك الدافئة الجرداء. من يدري؟ ربما بكيت وبكيت وبكيت، كحيوان يستند إلى جدار ويغمض عينيه وينتظر الخلاص، كطفل يرضع من ثدي أمه الميتة! من يدري؟ ربما سخرت من رؤياك المضحكة وهربت من ولي الله؛ كل هذا عندما تلقاه ذات يوم ؟

كل هذا عندما تلقاه! (1965م)

الذئب الذي أراد أن يدخل في جملة مفيدة1

الجبانة الريفية ساكنة في حضن الوحشة والموت، والقمر معلق في وسط السماء الصافية كالقنديل الأخضر، والقبور تبدو في ضوئه الفضي كأسراب الحمام الوديع مستسلمة لقدرها وحزينة وصامتة.

من هذا الذي يزور الأموات في عز الليل؟ لا هو زوجة ولا أم، ولا هو أب ولا ابن، بل مخلوق يسير على أربع، عجوز نحيل ومسكين، ولا بد أيضا أنه جائع، شق طريقه بين الأضرحة والقبور، حتى وصل إلى أحدها، فوقف أمامه يتشمم رائحته كأنه يتحقق منه!

كان قبرا جديدا لا تزال رائحة الأسمنت الذي وضع على فتحته تفوح منه، وأوراق الشجر التي وضعت على سطحه تعبق بندى الخضرة، وحبر الكتابة الرديئة التي تشهد باسم صاحبه تزكم الأنف، وآثار الأقدام التي غادرته منذ ساعات ظاهرة على الأرض. مد الحيوان المسكين ساقيه الأماميتين، وخبط على جدار القبر كمن يطرق باب حبيب! سمع نبشا من الداخل وخبطات كضرب الفأس على أرض صلبة، ثم انفتح السقف وبرز منه وجه شاحب لا يزال الكفن يغطيه، رفع الميت القماش الأبيض على وجهه، فبان رأسه الأصلع ووجهه المصفر النحيل، وفتح عينيه مرات قبل أن يسأل: من؟

قال الزائر: أنا المتهم بدم ابن يعقوب.

قرب الميت وجهه منه، وأخرج يده بصعوبة وأشار إليه: أنت؟

قال الزائر: نعم أنا الذئب، وأنت؟

قال الميت مستنكرا: لا بد أنك تعرفني؛ وإلا فما الذي جعلك تقلقني في هذه الساعة؟

خفض الزائر ذو الأقدام الأربع والجسد النحيل والبطن الجائع رأسه خجلا أو حزنا، وقال: بالطبع أعرف كل شيء؛ أنت مدرس القرية الذي مات ليلة أمس ودفنوه اليوم!

قال المدرس بصوت مرتفع كاد يزعج حوله الراقدين: تنتهز الفرصة؟

رد الذئب في انكسار وخيبة أمل: بالعكس، لقد انتظرت هذا اليوم من مدة طويلة.

صاح المدرس غاضبا: لأنني الفريسة الجديدة؟

قال الذئب في هدوء كأنه يعاتبه: أبدا أبدا؛ لأنك مدرس النحو الوحيد في هذه الجبانة.

سأل المدرس؛ ألم يقل لك أحد: إن عظمي أكثر جدا من لحمي ؟

قال الذئب: ما زلت تسيء فهمي، هكذا أنتم البشر لا تتغيرون!

قال المدرس وهو لا يزال متشككا في نواياه: ماذا تريد إذن؟

قال الذئب وهو يرفع رأسه إليه في ابتهال: أريد أن تضعني في جملة مفيدة!

ضحك المدرس ضحكة عالية وقال: أضع الذئب في جملة مفيدة؟ مستحيل!

توسل الذئب باكيا: أرجوك، هذه خدمة العمر كله، جملة واحدة وأذهب!

أراد المدرس أن يداعبه، فسأل: إلى أين؟

قال الذئب في صوت ضعيف: إلى زوجتي وعيالي.

ضحك المدرس مرة أخرى، وغلبه الضحك حتى اضطر أن يضع يده الباردة على فمه لكيلا يوقظ الحارس: إذن فخذ هذه الجملة: الذئب له زوجة وعيال.

قال الذئب متبرما: ألا تجد سوى هذه الجملة الضارة التي سببت شقائي؟

قال المدرس وقد أمعن في العبث: إذن فخذ هذه: الذئب مسئول عن دم ابن يعقوب!

قال الذئب يائسا: لقد قلتها على سبيل المداعبة، ربما لأنها كذبة مشهورة؛ ألم يثبت القرآن نفسه براءتي؟

تعجب المدرس من علمه، وقال: معك حق، إن الله نفسه قد برأك من دمه، ولكن ربما كان ذلك مجرد صدفة.

سأل الذئب: صدفة؟ إنني لم أقتله فعلا، لقد حاول إخوته أن يقتلوه، كما يعرف كل تلميذ صغير.

قال المدرس: نعم رموه في قاع الجب؛ ولو كنت وجدته لما رحمته.

قال الذئب غاضبا: هذه كذبة أيضا؛ فأنا لم أعثر عليه ولم أقتله، إن الناس ترتكب الجريمة وتلصقها بي، أرجوك، ابحث لي عن جملة مفيدة.

تلفت المدرس حوله، رفع عينيه إلى السماء لحظة ثم خفضها إلى الأرض ليتيقن ما حوله.

رأى الذئب يقف أمامه حقيقة لا خيالا، ورأسه الشاحب يميل نحوه في ضوء القمر، وظله الداكن المغبر يمتد تحته، قال: إذن فخذ هذه الجملة: الذئب يكلم مدرس القرية.

قال الذئب وفي صوته خيبة أمل شديدة: وهل تسمى هذه جملة مفيدة؟ إنني أكلمك كما ترى، ولم أستفد من كلامك شيئا حتى الآن!

لم يدر المدرس؛ هل يضحك أو يأخذ كلامه مأخذ الجد؟ وأراد أن يجرب معه طريقة أخرى، فقال: الذئب يأكل الشاة.

قال الذئب: هذا ما يقوله الناس جميعا، وليس في جملتك جديد!

قال المدرس محتجا: ولكنها جملة حقيقية؛ هل تنكر هذا أيضا؟

خبط الذئب بمخالبه على جدار القبر متعجبا قبل أن يقول: حتى مدرس النحو يقول هذا! كنت أظن أنك لا تصدق الأكاذيب المشهورة؛ ما الفرق إذن بين العالم والجاهل؟

قال المدرس: ولكنه أمر لا شك فيه؛ فأنت تأكل الأغنام، وتفزع الرعاة منذ الأزل! وأقدم الحكايات والخرافات التي وردت إلينا تؤكد هذا.

قال الذئب: الحكايات والخرافات، بالطبع؛ ولكن الحقيقة تخالف هذا تماما.

سأل المدرس متحديا: وما الحقيقة؟

قال الذئب مدافعا عن نفسه: الحقيقة أنني أهاجم الأغنام فعلا، وقد أهاجم البشر أيضا؛ ولكنني آكل لحمها ولا أقتلها!

ضحك المدرس حتى كاد يستلقي على قفاه، وقال: تأكل لحمها ولا تقتلها! ما هذه البلاغة كلها؟

قال الذئب متضايقا: هل تعرف لماذا آكل لحمها ولا أقتلها؟

سأل المدرس في خبث: ولماذا؟!

قال الذئب متحمسا: لأنني أهاجمها بدافع الطبيعة وحده، أعني أن الطبيعة في هي التي تأكل؛ فإذا شبعت لم أهاجم أحدا ولم أعتد على أحد!

قال المدرس: وما الفرق بين الأكل والقتل؟ ما دمت تأكل الشاة فأنت تقتلها.

قال الذئب: الفرق كبير؛ إنني آكل اللحم الذي يصادفني، سواء كان لحم جدي أو شاة أو فلاح أو راع، آكله لأنني جائع، ولأن الطبيعة تريد أن تحافظ على جنس الذئاب عن طريق أنيابي.

قال المدرس: إذن فلا فرق بين الأمرين، أنت تأكل لحم الفريسة فتموت؛ أي أنك تقتلها في نهاية الأمر!

غضب الذئب وصاح محتدا: أرجوك لا تذكر كلمة القتل على لسانك، هذه إهانة لجنس الذئاب كله، وأنتم - المدرسين - مسئولون عنها.

قال المدرس محاولا أن يسترضيه: ولماذا بالله عليك؟

قال الذئب: لأنكم تعلمون التلاميذ بالصور والحكايات والخرافات أن الذئاب تقتل وتسفك الدماء البريئة، ما من كتاب من كتبكم يخلو من صورة بشعة لواحد منا وهو ينهش لحم خروف ضعيف مسكين.

قال المدرس: وما ذنبنا إذا كنتم تقتلون بالفعل؟

قال الذئب؛ قلت لك ألف مرة: نحن لا نقتل، نحن لا نقتل؛ إلى متى أكرر لك هذا حتى تفهم؟

قال المدرس: وماذا تسمي عملكم إذن؟

قال الذئب: سمه كما تشاء، فهذه حرفتكم؛ أما نحن فلا نعرف القتل، إنني مثلا لا آكل فخذ جمل لأنني أكرهه أو أنتقم منه أو من أجداده، كما تقول حكاياتكم السخيفة، إنني أشبع جوعي وحسب؛ أما أنتم ...

قال المدرس: هل تقصد المدرسين؟

قال الذئب: المدرسين وغير المدرسين، أنتم أبناء البشر جميعا تقتلون قتلا حقيقيا، إن حياتكم كما تعلم كلها قتل في قتل، تاريخكم هو تاريخ قتل؛ هل تظن أنك وحدك الذي يفهم في التاريخ؟ من عهد الحجر والحربة والسهم إلى عهد الرصاصة والقنبلة والصاروخ؛ قتل في قتل!

قال المدرس معتذرا: ربما يكون معك الحق يا صديقي؛ ولكنني كما تعلم مدرس بريء.

قال الذئب وقد بدت عليه الراحة: مثلي تماما؛ ذئب بريء!

قال المدرس: أعترف لك بأن هذا التعبير لا يريد أن يدخل عقلي تماما؛ ولكنني أؤكد لك أنني عشت طول حياتي أومن بأن الطبيعة خيرة والإنسان في صميمه خير، وإذا كانت التجربة والواقع والصراع من أجل الحياة قد غيرته؛ فلا بد أن يعود يوما إلى طبيعته الأصلية.

قال الذئب: هذا هو الذي جعلهم يختارونك مدرسا.

سأل المدرس: ماذا تعني؟

قال الذئب: أعني أنهم وجدوك على نياتك، فاختاروك لهذه المهنة.

صاح المدرس محتجا: بل أنا الذي اخترتها عن عقيدة وإيمان، ولو عشت حياتي مرة أخرى لما اخترت غيرها.

قال الذئب: لأنك لست ذئبا كما تصورون الذئاب؛ ولو كنت مثلهم لاخترت أن تكون سياسيا أو محاربا أو تاجرا أو مديرا أو محتالا أو ...

قاطعة المدرس مستاء: هذه مبالغة؛ راجع التاريخ فستجد أن كثيرين من هؤلاء كانوا مثال الخير والبطولة والفداء والتضحية.

قال الذئب ساخطا: يا سيدي متى تفهم؟ قلت لك إن الإنسان للإنسان ذئب. لست أنا الذي قال هذا؛ هل تحب أن أقولها لك أيضا باللاتينية؟

قال المدرس مستعطفا: أرجوك، إلا اللاتيني؛ فلم أكره شيئا مثله.

نظر إليه الذئب وأطال النظر، كانت عينه كأنما تبحث عن الملابس التي يرتديها فلا تجد إلا الكفن الأبيض يحيط بهيكله النحيل، قال بعد تأمل: خذ نفسك مثلا، لو كنت ذئبا مثلهم؛ فهل كنت ترضى بالعيشة التي عشتها؟

قال المدرس: ولم لا؟ لقد عشت حياة سعيدة، أعلم أولادي وتلاميذي شيئا جديدا كل يوم، راضيا بمرتبي و...

قال الذئب: مرتبك! هل تعرف مقدار المرتب الذي يقبضه أولئك الذين لا يعملون شيئا؟

قال المدرس: قلت لك لقد عشت سعيدا ومت سعيدا.

قال الذئب: وتقول أيضا مت سعيدا؟ وهذا الكفن من التيل الرخيص؛ هل يدل على السعادة؟ وهذا القبر المهجور المتواضع!

قال المدرس: الحمد لله؛ إنني وجدت مكانا أستريح فيه، ولم أمت مثلا في فم تمساح أو ذئب!

قال الذئب: رجعنا لاتهام الذئاب، يظهر أنه لا فائدة، لنرجع إذن إلى ما طلبته منك.

سأل المدرس: الجملة المفيدة؟

قال الذئب: وهل جئت لشيء سواها؟

قال المدرس: ليس عندي الآن سوى هذه الجملة: الذئب يأكل الشاة.

صاح الذئب ورفع رأسه إلى السماء كأنه يشهدها على ظلم الإنسان: قلت لك ليست هذه جملة مفيدة!

صمم المدرس على موقفه، وقال: ولكنها صادقة، صادقة من آلاف السنين، منذ أن عاش البشر والذئاب على أرض واحدة.

عاد الذئب إلى الاستعطاف وتوسل باكيا: أرجوك، أقبل قدميك، ضعني في جملة مفيدة.

قال المدرس وقد شعر بأن البرد بدأ يؤذيه والفجر بدأ يشعشع في الأفق: ليس عندي سواها، قلت لك هذا ألف مرة.

قال الذئب وقد ارتفع أنينه: ولكنها جملة ضارة، أقسم بالله جملة مضرة لي ولجنس الذئاب كله!

قال المدرس وهو يلملم أطراف الكفن حول كتفيه: يؤلمني أن أؤخر طلبك؛ هل أعرض عليك شيئا آخر مفيدا؟

قال الذئب وقد راوده الأمل: أسرع، ما هو؟

قال المدرس وهو يرفع القماش الأبيض عن كتفيه ويقدمه له: ما دمت لا أستطيع أن أفيدك بجملة فهل ترضى بهذه الكتف؟ تعال وخذها لزوجتك وعيالك.

قال الذئب بائسا: أنا لم آت لآكل؛ بل جئت لأتعلم ، وأين أجد مدرس نحو مثلك في الجبانة كلها؟ وعلى فرض أنني ذئب مفترس وقاتل كما تقولون؛ فأين هو لحمك؟ لقد أفسدته كثرة التفكير.

قال المدرس: يا صديقي، أوشك الفجر أن يطلع، ولا بد لي الآن أن أنام؛ هل نسيت أنني مت اليوم؟

سأل الذئب في لهفة: والجملة المفيدة؟

قال المدرس: الجملة التي عندي قلتها لك.

بكى الذئب، توسل للمدرس الذي غطى وجهه وغاص في قبره وأغلقه على نفسه.

خبط بمخالبه على الجدار الحجري خبطات يائسة وهو يصيح: أهكذا تبخل علي بحملة مفيدة، مع أنني عجوز ومسكين، وصاحب عيال؟ (1968م)

يمشي على الماء

جلست على الشاطئ ومدت رجليها في الماء. عندما داعبت الأمواج الدافئة قدمها الصغيرة أحست بالراحة تسري في جسدها كله. بعد أن لفت وداخت طول النهار، جاءت تستقبل الدفء والأمان، تغسل وجهها المعفر بالتراب، تبلل رأسها الذي أحرقته الشمس، وتملأ القلة لأبيها الراقد في مكان مهجور من الجزيرة الغارقة في الظلام. رفعت رأسها قليلا وأخذت تنظر للماء، فتحت عينيها وأغلقتهما، ثم عادت تفتحهما وهي لا تصدق؛ كان يقترب منها شيئا فشيئا، ارتفع كعمود من الدخان، ثم تكور على نفسه مثل كرة من الضباب، وبدأ يتضح له رأس وجسد وقدمان؛ ما أغرب هذا! والقدمان تسيران على الماء، والرأس تزينه عمامة خضراء! عندما اقترب ووقف الكيان الشاحب أمامها نورا في نور ذعرت وأرادت أن تفر، أن تقذف القلة في الماء، أن تصرخ وتنادي النائمين؛ لكنه بإشارة من يده دعاها للاطمئنان: السلام عليكم عباد الله!

تلفتت حولها، لا أحد يسمعها إن صاحت، لا أحد ينقذها، لمس الصوت المطمئن أذنيها، مسح على وجهها، نفذ من لحمها: ماذا تفعلين هنا يا صغيرتي؟

رأت الوجه الطيب كشمس صغيرة تسلط نورها عليها، أبصرت العمامة الخضراء تحيط بها هالة من النور، لاحظت العينين تشعان بالهدوء، قالت خائفة: من أنت يا سيدنا الشيخ؟

لاحت ابتسامة على الفم النوراني، انكشفت أسنان بيضاء كأسنان الملاك: قولي يا مولاي.

الجزيرة ساكنة وراءها، الناس ناموا وهم الآن يحلمون، لا شيء يسمع سوى صوت كلب ينبح في عناد، أو بكاء طفل أفزعه كابوس. - من أنت يا مولاي ؟ ماذا تريد مني؟

ضحك الروح كثيرا، خاف أن تسمع ضحكته أو توقظ الصياد النائم في قاربه البائس مع زوجته وطفله، فوضع يده النورانية على فمه المبارك: لا أجيب إلا على سؤال واحد!

قالت الصغيرة مسرعة: ومن أنت؟

قال وصوته ما يزال يترجرج بالضحك: ألم أقل: يا مولاي؟

صاحت، وكادت تندم، فكتمت صيحتها فجأة: من أنت يا مولاي؟ - روح من السماء، جاء إليك يا حبيبتي.

ضحكت، كانت ضحكتها طائشة وسؤالها أكثر طيشا: لي أنا؟

قاطعها الروح النوراني كأنه يعيدها إلى العقل: نسيت سؤالك الآخر؟

أرادت أن تضحك من جديد، خشيت أن يغضب منها أو يتلاشى من أمامها: وماذا تريد مني؟

قال في صوت مهيب: ما تريده السماء من الأرض، والنور من الظلام، والحقيقة من المظهر، واللاهوت من الناسوت!

ضحكت الصغيرة بلا خجل، خشي أن تسترسل في الضحك، فأسرع يسألها: أين كنت طول النهار يا حبيبتي؟

قالت وهي تضع يدها على فمها، وتحاول أن تخفي وجهها بيدها: مولاي روح من السماء ولا يعرف؟

أسرع يقول في ثقة: كنت مع أبيك؛ أرى هذا على وجهك وملابسك.

قالت الصغيرة: وقدمي التي التهبت من المشي على الأسفلت، وصوتي الذي بح من النداء على خلق الله.

فسأل: وماذا كنت تقولين؟

قالت في خبث: ما يقوله شحاذ على باب الله.

قال في عطف: كلنا على باب الله يا حبيبتي، كلنا على باب الله.

قالت: حسنة لله يا محسنين، الأجر والثواب على الله.

قال مكملا: عشاء الغلابة عليك يا كريم، حسنة قليلة تمنع بلاوي كثيرة ...

قالت في حزن: من سنين ونحن على هذه الحال يا مولاي.

قال وهو يرفع يديه للسماء: فرجه قريب يا ابنتي، فرجه قريب إن شاء الله.

قالت ساخطة: دخنا في بلاد الله يا سيدنا الشيخ، زهقنا من اللف على الأبواب. تمتم بصوت لم تسمعه، غاب في الجلالة ثم قال: قلت لك فرجه قريب يا ابنتي. قلت لك فرجه قريب.

قالت باكية: أبي مرض وشاخ، وأنا تعبت يا مولاي.

قال كأنه يكلم نفسه: الطعام للجوعان والماء للعطشان. ثم كأنه يأمرها: توبوا عن الشحاذة.

أجابت في استسلام: ومن أين نأكل يا مولاي؟

قال: قولي لأبيك: مولاي يوصيك بتقوى الله، مولاي يأمرك أن تتوب عن الشحاذة.

سألت: وماذا يفعل؟

قال: قولي له يضع عصا على أنفه، ستقف هناك بإذن الله.

سألت ضارعة: كلامك صعب يا مولاي!

قال مبتسما: رزقك في رجليك يا صغيرتي، ورزقه في عصاه.

ضاقت بكلامه فسألته أن يوضح ما يريد. ابتسم ابتسامة نورانية حتى ظهرت أسنانه الطاهرة البيضاء، رفع يديه إلى السماء ومشى أمامها على الماء، ثم تمتم قبل أن يدير لها ظهره ويتلاشى: فرجه قريب، فرجه قريب.

راحت أيام وجاءت أيام، ماتت ناس وعاشت ناس. ولما أقبلت على الشاطئ وكان في قدميها حذاء جميل، وعلى جسدها النحيل فستان بلا رقع ولا ثقوب؛ وضعت يدها على خدها، وراحت تنظر إلى الماء، ولم تمض لحظات حتى أحست بحركة في الماء، فرفعت وجهها؛ لترى طلعته النورانية أمامها. قالت في لهفة: مولاي، أين أنت من زمان؟

أجابها في اطمئنان: في ملكوت الله يا حبيبتي، في ملكوت الله.

قالت في عتاب: ولا تسأل عنا يا مولانا؟

قال: الله رحيم بعباده يا ابنتي، ما من حبة في السماء ...

قاطعته: دخنا في الشوارع والحواري يا مولاي!

سألها: ألم أقل لكم: توبوا عن الشحاذة؟

قالت مكملة: تبنا عنها يا مولاي.

قال في فرح: ألم أقل لك: فرجه قريب؟

قالت في أسى: معك حق، ولكن ...

قال: ولكن ماذا يا ابنتي؟ الرزق في أقدام الساعين!

قالت والأسى لا يزال يملأ صوتها: الرزق انقطع يا مولاي.

قال في إشفاق: رزق الله لا ينقطع يا حبيبتي؛ ماذا حدث؟

قالت: عملنا بوصيتك يا مولاي؛ بدلا من أن يتوكأ أبي بعصاه وضعها على أنفه. في أول يوم صفق له الأطفال والكبار وأعطوه ما فيه النصيب، في اليوم الثاني بدأ الناس يقولون: الرجل المدهش العجيب. ربينا الزبائن في القهاوي والخمارات، اشتهرنا في الشوارع والأسواق والحارات، عرفنا الناس في السيدة والحسين، وصفقوا لنا في رمسيس والتحرير.

قال الروح السماوي : ألم أقل لك: فرجه قريب؟

قالت: انتظر.

سألها: ماذا حدث؟

قالت متفكرة: بدأ الناس يضيقون بنا؛ كلما رأونا صاحوا: أوه! يا عالم بطلوا شغل الشحاذة!

قال متعجبا: لكنها ليست شحاذة، هذا فن.

قالت: وماذا ينفع من غير حظ؟ قلنا نجرب طريقة جديدة.

سألها: بإذن الله تنجحون. ماذا جربتم؟

قالت: بدأ أبي يترك العصا لي.

سألها في لهفة: موفقة بأمر الله.

قالت: قلت لك انتظر؛ كلما حاولت أن أضعها على أنفي أو جبهتي كان الناس يضحكون.

قال: الضحك يحنن القلوب بإذن الله.

قالت: لكن أبي بدأ يجرب وضع الكرسي على أنفه، يوقف الكرسي برجل واحدة على أنفه، ويميل رأسه للوراء، ويمد ذراعيه في الهواء.

قال وهو يمد ذراعيه يمينا ويسارا: طبعا يا حبيبتي، لا بد أن يفعل الإنسان هذا؛ ليسند الكرسي في الهواء أو ليمشي على الماء، وماذا حدث بعد هذا؟

قالت: أعجب الناس في أول الأمر؛ كانوا يصفقون ويهتفون ويقولون «أعد» عشر مرات قبل أن يضعوا أيديهم في جيبوهم.

قال: الدنيا بخير يا ابنتي، والمؤمنون فيها كثيرون.

قالت: انتظر يا مولانا.

قال: قولي يا ابنتي.

هتفت صائحة: لكنهم يملون بسرعة يا سيدنا الشيخ؛ فلم تمر أسابيع إلا راحوا يشتموننا ويطردوننا من الأرصفة والمقاهي والحانات: بطلوا الشحاذة يا ناس، كفاية تهويش يا عالم!

سأل الروح الإلهي: تهويش؟ ما معنى هذا يا حبيبتي؟

قالت في ضيق: يظهر أنك لست في الدنيا يا مولانا!

قال في استعطاف: أنا سابح في ملكوت الله يا ابنتي، الدنيا والآخرة عندي سواء.

استطردت قائلة: المهم ماذا نفعل الآن يا مولانا؟ أبي يشتمني ويقول: أنت السبب.

قال: قولي له: اذكر الله.

سألت: نريد أن نأكل يا مولانا.

قال: من توكل على الله كفاه.

عادت تسأل: هل ندور على الأبواب؟

قال مستنكرا: معاذ الله يا حبيبتي! من جرب الفن لا يسلاه.

قالت برغم حزنها ضاحكة: يقولون الشحاذة فن يا مولاي.

قال: أبدا أبدا يا صغيرة ، الفرق بين الفن والشحاذة كالفرق بين الجنة والنار.

أرادت أن تسأل مرة أخرى: وما العمل يا مولاي؟ حين سمعته يهتف كأنما نسيها تماما وسبح في الجلالة: النار، النار، النار.

قالت تعيده إلى الصواب: ماذا تقول يا مولانا؟

تمتم بكلماته الغامضة التي لا تفهمها، ثم ابتسم ابتسامته النورانية التي تكشف عن أسنانه الطاهرة البيضاء، وقال: قولي له يجرب النار، ويهتف باسم الله.

سألته: ماذا تقصد يا سيدنا الشيخ؟

قال وكأنه يقرأ في لوح مسطور أمامه: يضع سيخا في الغاز، ويشعل الغاز بالنار، ويدخل السيخ في فمه، وينفخ بإذن الله.

عادت تسأل: النار تحرقه يا مولاي؟

قال في سرعة كأنه ينهي حديثه، ويتهيأ للانصراف: قلت لك يذكر اسم الله.

سألت لاهثة: لكن يا مولانا النار تؤذيه، وحياتك شف لنا شيئا غير النار.

قال متبرما لأول مرة: النار للكفرة فقط، قولي له: يذكر الله.

خيل إليها أنه يريد أن يودعها؛ كان الفجر قد بدأ يشقشق في السماء، والعصافير تصفر حولها؛ جرت نحوه حتى كادت تقع في الماء، وهتفت: وحياتي عندك، قل لنا شيئا آخر غير النار.

قال مستعيذا بالله: حقا، خلق الإنسان كنودا، قولي له: يبلع الحديد والمسامير.

سألت مستفسرة: يبلع الحديد والمسامير؟

قال مودعا: وينفخ في الهواء باسم الله، فتخرج الكتاكيت والأعلام الخضراء والحمراء والبيضاء.

رأته يدير لها ظهره ويمشي مسرعا على الماء، فهتفت: وإذا لم تخرج المسامير يا مولاي، إذا لم تخرج المسامير؟

التفت إليها وقال: يذكر اسم الله، يذكر اسم الله.

لم تجد فائدة في النداء؛ كان شبحه النوراني قد تلاشى فجأة كأنما بددته أشعة الشمس التي بدأت ترسل حمرتها الوردية في جانب الأفق الشرقي. وقفت تتفكر قليلا فيما قاله رسول السماء ثم انصرفت.

راحت الأيام وجاءت الأيام، وظلت الصغيرة تتردد على الشاطئ كل مساء على أمل أن تراه، كانت تجلس في مكانها المعهود واضعة يدها على خدها تتفكر فيما حدث لها ولأبيها، وفي بعض الأحيان كانت تدلي قدميها في الماء - فلم يكن فيهما الآن حذاء - وتتسلى بالأمواج الهادئة التي تداعبها، كانت كلما أحست بحركة في الماء ترفع وجهها الصغير - الذي كساه الآن ذبول لا يخطئه أحد - فلا تسمع سوى صوت مجداف يلطم سطح الماء، أو طائر يطفو فوقه، أو ضفدعة تقفز منه؛ لكن قلب المؤمن دليله، والأمل في فرج الله - وإن طال - لا يخيب؛ فها هو ذا الشبح النوراني يتجلى لها ذات مساء بعد أن هدأت الأصوات، ونامت الريح، وبدأت الأرواح تتنفس وتنطلق على الأرض وفوق الماء، هتفت حين رأت الشبح الإلهي يتقدم نحوها وقدماه لا تكادان تلمسان سطح الماء: أين أنت يا مولانا؟ أين أنت من زمان؟

قال في صوت عميق: جئت يا حبيبتي فلا تسألي من أين ولا إلى أين؟

قالت باكية: اسمح لي بسؤال واحد.

قال متأثرا: ولم البكاء يا صغيرتي؟ لم البكاء؟

قالت تغالب دموعها: لأنك تركتنا يا مولانا، لأنك تركتنا.

قال يواسيها: الله لا يتخلى عن عباده، ماذا فعلت يا حبيبتي؟

قالت: بل ماذا فعلت بأبي؟

تقدم قليلا حتى كاد يلامسها، نظر إليها في إشفاق حتى خيل إليها أنه يود لو يشاركها في البكاء، سأل: احكي يا صغيرتي؛ لكن لا تطيلي فموعدي قصير.

رفعت رأسها إليه كأنها تشهده على الدموع التي تنساب على خديها بلا توقف: مات، مات من سبعة أيام.

جفل الروح السماوي قليلا، بدا عليه أن يفكر فيما حدث دون أن يفهم ما تريد.

قالت: خرجت الكتاكيت والأعلام ولم يخرج الحديد.

سألها في عطف ومد يده المباركة كأنما يمسح بها على رأسها: ألم يذكر اسم الله يا صغيرتي؟ ألم يذكر اسم الله؟

قالت وهي تنشج فيهتز جسدها الضئيل: لا أدري، ولكنه عمل بأمرك.

قاطعها قائلا: الأمر أمر الله يا حبيبتي، ماذا عمل؟

جففت دموعها وقالت: اشترى السيخ كما قلت؛ يغمسه في الغاز، ويشعل النار، ويضعه في فمه، ويصيح: كله بأمر الله.

قال الروح: صدقت يا صغيرتي، كله بأمر الله.

عادت تقول: كان ينفخ بعزم ما فيه، فتخرج من فمه طاقة نار، ويهلل الأطفال ويهتف الكبار وتمتد الأيدي للجيوب.

مد الشيخ المبارك يديه إلى السماء، وهتف: الأرزاق كلها على الله.

قالت كأنها تصب عليه ماء باردا: ولما زهق الناس جرب الأعلام والمناديل.

قال الشيخ مستبشرا: وخرجت الكتاكيت بإذن الله.

قالت ساخطة: خرجت تصيح وتجري على الأرض، والأعلام كانت من كل الألوان.

قال مشجعا: ثم ماذا يا حبيبتي؟

قالت كأنها تتعجب من جهله: أخذ عساكر البلدية بالهم منه، وراحوا يطاردونه في كل مكان!

سألها مقاطعا: لماذا لم يذكر اسم الله؟

قالت متضايقة: ذكر اسم الله واسم النبي وآل البيت.

وانفجرت بالبكاء كأنها تتذكر شيئا مخيفا، فهبط عليها الصوت العميق الرحيم: أكملي يا صغيرتي.

قالت بعد أن هدأت قليلا: لكن الحواة ممنوعون، الحكومة تحارب الحواة في كل مكان.

قال وكأنه لم يفهم: إذن فليجرب المسامير بإذن الله.

قالت: جرب المسامير؛ رمى السيخ والنار وبدأ يجرب الحديد والمسامير؛ كان يصيح في الشوارع وأمام المقاهي والبيوت: الحديد بأمره يصبح عجين.

قال الروح: صدقت، كله بأمر الله.

قالت كأنها تمنعه من مقاطعتها: وضع المسامير في فمه، هتف بأعلى صوته: كله يصبح عجين. صفق الأطفال وزغردت النساء وصاح الرجال برافو، وبلع المسامير.

قال في لهفة: وبأمر الله أصبحت كالعجين؟

قالت باكية: أبدا يا مولانا، أبدا.

سألها وهو يكاد يبكي: وماذا جرى يا ابنتي؟

صاحت غاضبة: دخلت في جوفه.

قالت مشجعا: وتخرج بإذن الله.

صاحت من جديد بأقصى قوتها: لم تخرج المسامير! لم تخرج المسامير!

ولم يسألها الروح الإلهي شيئا، أطرق بوجهه المنير إلى سطح الماء، راح يدور حول نفسه ويداه حينا وراء ظهره وحينا على جبينه أو على صدره. قالت الصغيرة بعد قليل: وقع على الأرض يتلوى، جريت أبكي على صدره، لطمني على وجهي، وصاح: ابعدي يا بنت الحرام!

قال الشيخ مستغفرا: لا حول ولا قوة إلا بالله، وماذا حدث يا حبيبتي؟

قالت: أخذوه على القصر العيني، بعد يومين قالوا لي: أبوك مات.

تأثر الروح الإلهي، اقترب منها، ومد يده يريد أن يمسح بها على رأسها الصغير، أو يجفف دموعها أو يشد على يدها؛ لكنه تذكر طبيعته النورانية، فعاد ينظر حزينا إلى سطح الماء.

قال بعد قليل: اصبري يا حبيبتي؛ الموت حق الله .

قالت وهي تثبت عينيها في وجهه الذي تغمره هالة ساطعة من النور: كله منك.

سأل في صوت ضعيف: كله بأمر الله.

صاحت غاضبة حتى اهتز جسدها كله: كان مالنا ومال الحديد؟

قال في صوت حزين: لا بد من قضاء الله.

صرخت: الحديد دخل جوفه.

اقترب منها حتى كاد يلامسها، انحنى حتى مال وجهه النوراني عليها، بدا كأنه يحاول أن يضمها إلى صدره أو يشدها من يدها أو يمسح على وجهها أو يقبلها، تراجعت مذعورة، ثم أخذت تئن وتنشج وتنادي شبحه السماوي الذي بدأ يهتز فوق الماء قبل أن يتلاشى كسحابة من الدخان! (1966م)

إلى أين؟

أنت في الحقيقة لا تخدع إلا نفسك؛ منذ سنين لا تدري عددها وأنت تذرع هذا المكان، في المساء، عندما تبزغ النجوم البعيدة في السماء الصافية تغادر غرفتك الباردة، تسير في خطواتك الوئيدة مطرق الرأس، تحاذر أن تقع عينك على شيء فتلمسه وتستقر عنده، تخشى أن ترفع عينيك إلى وجه من الوجوه التي تعرفك أو يخيل إليك أنها تعرفك، تنفض الضحكات عن أذنيك حتى لا تتسلل إلى قلبك المنكمش في زنزانته!

وإذا رأيت الشرطي أو سمعت خطواته على الرصيف التفت إليه كأنك تتحدى نظرته الفاحصة، كأنك دائما على استعداد لأن تخرج له بطاقتك، وتبين له اسمك وعنوانك، وتثبت له أنك مواطن صالح، ثم تعرج على الكازينو الراقد على صدر الماء؛ يداك مشبوكتان خلف ظهرك، ابتسامتك الذابلة على شفتيك، نظراتك تصافح العشاق الجالسين تحت الأشجار والفوانيس الشاحبة كعناقيد كرم ذهبي مهجور بلا جسد ولا بهجة. الجرسون الأسود يسرع إليك، يلقي عليك التحية، ابتسامته ترثي لك، وابتسامتك تعترف بالرثاء وتشكره وتسأمه.

ثم تخرج بعد أن تشرب القهوة المرة، وتحاسب الجرسون، وتطمئن إلى أنك وفيت ديونك. وتسير على الشاطئ؛ تقف عند كل جسر، ترمقه من بعيد وأنت ذاهل عن الحياة التي تضج عليه، تبتسم في سرك حين تفكر بالدور الذي يقوم به، بالأمانة التي يؤديها ، بالحمل الذي يصبر عليه، وتبتهج حين ترى الناس يسيرون عليه؛ مجهولون يلتقون فوق الماء ويفترقون ، يتشابكون لحظة ويعبرون، لا أحد يعرف أحدا، لا أحد يدري بهموم أحد؛ لكنهم يعبرون، يكاد الإحساس يجمعهم بأنهم في لحظة العبور مشتركون في المصير نفسه، وأنت تسير مثلهم على الجسر؛ تتحسس سوره، تطل منه على الماء، تفكر في كل مرة في هدوء التيار وصفائه، كما تفكر كم ستكون جثتك مرتاحة وهو يحملها على صدره؛ لكنك تتركه وتمضي إلى جسر آخر - ربما وقف على جانبيه سبعان عجوزان تجمدت مع الزمن وثبتهما؛ فما عاد أحد يخشاهما، وماتت تكشيرتهما فما عادا يؤمنان بها - وتتحسس السور، وتمر بسبابتك على ألواحه (عبثا تحاول عدها فهي كثيرة)، وتقف لحظة مطرق الرأس إلى الماء، وتفكر كم ستكون جثتك مرتاحة وهي محمولة على جسده الأسمر الثقيل في أيام الفيضان!

ويفاجئك القمر حين ترفع عينيك، فترى وجهه المستدير، وجه طفل شاحبا في تابوت فضي قديم. تدير له ظهرك، تسرع في خطواتك، تفكر أن الذين يقذفون بأجسادهم من فوق الجسور لا يعرفون تأنيب الضمير.

القمر يتبعك؛ وإن كنت تحسب أنه لا يرى إلا ظهرك، شعاعه الرحيم ينفذ إلى صدرك، يعريه، يفضحه، يضحك من سره المعتم الصغير؛ هل تحسب أن غرفتك الباردة ستنجيك منه؟

أنت تريد أن تنسى أنه كان يراك منذ سنين، كان يكشف صدرك المظلم في تلك الليلة التي لا تستطيع أن تنساها، كنت تسير معها في الغابة؛ رذاذ بسيط يتقطر من الأشجار فوقكما، أقدامكما المترددة تغوص في الطين، تصطدم هي وجذوع الشجر الناتئة، تجوس فوق الأوراق؛ فتئن تحتكما، تتكسر ضلوعها تحت ثقل أحذية الشتاء ذات الرقبة الطويلة والكعب السميك، على جسدها معطف من النايلون الشفاف (ستفرده بعد قليل على الأرض لترقدا عليه) على جسدك معطف من الكتان الرقيق، تكذب إن قلت: إنه يدفئك - على الرغم من أنك رفعت ياقته حول رقبتك - وتكذب مرة أخرى إن قلت: إن حبك لها يدفئك أكثر! الظلام في الغابة يطبق عليك، يطمس عينيك، يبتلعك، يغيبك معها في جوفه المعتم الواسع العميق. وأنت تضع ذراعك في ذراعها، معصمك يحس نبض العروق في معصمها، جسدك الظمآن المرتعش يمني نفسه بالنوم بعد قليل في أحضانها. يا أيها السندباد التعس، ماذا يكتشف السائر في الظلام؟ يا أيها الفارس القميء، ماذا يقدر عليه اللصوص؟

والقمر يرفع وجهه من بين السحب الدكناء، ينظر إليك بعين ويغلق الأخرى، يريد أن يذكرك، حين يطل عليك من بين أوراق البلوط والصبار؛ أنه هناك، يحميك من ظلك، يبعد أنفاس الظلام عن وجهك، يهمس لك بأنه يراك، وربما يسامحك.

وتذكر أنه في تلك الليلة أيضا كان هناك، يطل من خيمته المضيئة على مقبرة القرية الصغيرة الوديعة كأجنحة الحمام، البيضاء كظهر الموت. هناك كان الشيخ محمد يهيل حفنتين من التراب على جسد أخيك الصغير الذي يرقد الآن في المقبرة الضيقة الحقيرة، إلى جانب أخيه الذي سبقه منذ أسبوع. وعم مرجان الأسمر الطويل يحرك في كسل شفتيه بآيات من القرآن، وربما لم يحركهما على الإطلاق. وأبوك مع رجلين آخرين يقرآن في ملل بعض الآيات، ويرفعان السبابتين بالشهادة؛ أداء للواجب وكسبا للثواب، ويستعجلان اللحاد قبل أن ينفد زيت المصباح، ويبرد في البيت العشاء.

لكن الشيخ «محمد» عاد مع أبيك، هذا القمر نفسه كان ينظر إليه وهو يصعد عتبة بيتكم القديم، يدق على الباب الذي كان مفتوحا، يتنحنح، يقول: يا ساتر، يميل على أمك في ثقة ليطمئنها بقوله: هناك مكان للأخير. كنت راقدا على حجر إحدى العجائز، جاءت تعزي أمك في موت التوءمين. على رأسك الصغير المنحدر بشدة من الخلف طرطور متعدد الألوان، على وجهك الذابل العنيد ابتسامة الخجول من بقائه بعد ذهاب أخويه، المعتذر عن وجوده بالسكوت.

كنت هناك أيضا وكان القمر هناك حين صرخت أمك: فال الله ولا فالك يا شيخ محمد! تستخسر في هذا الولد المسكين؟ ويؤكد الشيخ «محمد» استعداده لتأدية الخدمات قبل أن يغادر باب الدار، ويضحك في سره من سذاجة أمك ويقول في نفسه: لتنتظر يومين، سوف تعرف كلامي! لكنه سينتظر طويلا؛ لأنك ستثبت له أنك برغم ضعفك أخبث منه، وسيواريه شيخ آخر في التراب، كما يواري أمك وأباك وقارئ القرآن، وعم مرجان اللحاد الأسمر الطويل قبل أن تشغل الحفرة الصغيرة الباقية لك.

تسألك وأنت تسير ساهما مطرقا برأسك المتعب المنفوش الشعر إلى جانبها، وجسدك كله ينتفض من البرد والخوف وتوقع المهاجمين الذين سمعت عن حوادثهم في الغابة: هل عدت من رحلتك؟ وقبل أن تفتح فمك لترد عليها - لم تكن قد وجدت الجواب بعد - تشدك من ذراعك حتى لا تقع في حفرة، وتسكت فلا تحدثها عن الحفرة الشاغرة التي تنتظرك في مقبرة قريتك، فتعود تسألك: هل عاد سندباد من رحلته؟ فتجيب بصوت تود ألا تسمعه: أنت أيضا تعرفين السندباد؟ فتضحك ضحكة تفزع أرواح الغابة، وتقول وهي تقبلك فجأة: ومن الذي لا يعرف السندباد؟ نحن أيضا نقرأ ألف ليلة وليلة، صحيح أنني لا أعرف كثيرا مثلك، لكن أمي حكت لي عنه، كما حكت لك أمك عن رحلاته السبع في الجزر النائية، عن الرخ الذي ربط نفسه فيه، والأسود العملاق الذي أكل أصحابه، عن جبل الألماس وجبل القرود، عن حبه للبحر. قلت وأنت تقف أمامها وتطوقها بذراعيك وتفرق فمك المحموم الخائف في شفتيها: وحبه للعيون الخضراء والشعر الأشقر والأجساد البيضاء.

سيعود إلى الغابة بعد أيام؛ سيسير في الوحل ويدوس على الأوراق الجافة، ويسمع دقات قلبه الخائفة، سيطوق الجسد الأبيض، ويقبل العيون الخضراء ويمرغ الوجه في الشعر الأشقر، ويصعد على التل الناعم، ويفترش المعطف البارد الشفاف.

والطفل سينمو ويتحرك، والبطن سيعلو ويستدير، والصيحة ستنطلق في المستشفى الكبير النظيف، ولن تستطيع قوة أن تغيبها من جديد في جوف الرحم. وأنت ستعود إلى غرفتك وتقول كل ليلة: يا إلهي! كم هي باردة! وستنظر في مرآتك وتقول: يا إلهي! كم أنا دميم! وسترن في أذنيك صيحات الطفل الذي لن تراه ولن تستطيع أن تعيده إلى جوف الرحم، وتضم ذراعيك على الفراغ وأنت تتذكر أن ذراعا أخرى تضمه، وشفة أخرى تقبله، ويدا أخرى تسحب عليه الغطاء.

وسوف تصمت وتصمت، تمد حولك أسوار القلعة المنيعة التي سمعت أو قرأت - لا تذكر أين ومتى - أن شاعرا كبيرا مدها حول نفسه، ستحلم في بعض الليالي وأنت تسند رأسك بين كفيك وترفعهما لتحدق في الفراغ أنك كنت تريد أن تكون مثل المعري أو مثل جوته أو الحلاج، وستعرف أنك أصبحت تمثالا أجوف يرن فيه الصدى الوحيد، وحتى هذا الصدى سيخرس من جديد. بماذا تحلم أيضا؟ ألم يكن أورفيوس يغني فتلتفت رءوس الأشجار، وتفزع إليه الوحوش، وتحدق في عيونها الواسعة، وتمد رءوسها راضية ليضعها في سلاسل الألحان؟

ألم تكن تتمرغ عند قدميه، وتلعن قيثارته وتقدم له الدهشة والبراءة والامتنان؟ فماذا تريد بصمتك؟ من نظرتك التي تلامس الأشياء والوجوه ثم ترتد عنها؟ تقطع كل الخيوط التي تريد أن ترتبط بك، تهدم كل الجسور التي تحاول أن تعبر إليك.

أنت تذكر عصر اليوم الذي عدت فيه إلى قريتك؛ كنت في الصحراء الصامتة الواسعة تتدرب على القتال حين وصلتك البرقية، وعندما دلفت من الباب كان كل شيء قد انقضى؛ المأتم انفض، الصوان هدم، المعزون عادوا إلى بلادهم؛ حتى الرمل الذي فرشوه على الأرض لم يبق له أثر! قلت لنفسك وأنت تدخل إلى الحجرة المعتمة، على ضوء لمبة الغاز لا تتبين أباك الممدد على الفراش كأنه أبو زيد الهلالي: يا إلهي! الحجرة باردة بدونها، يا إلهي! ماذا أفعل بدونها؟ هتفت امرأة عجوز - قالوا لك فيما بعد إنها قريبة أبيك - حتى يجذبوا انتباهك إليها ويعتذروا لها عن إهمالك في حقها قائلة: كان لها ابن عسكري. أردت أن تبكي، حاولت أن تنهنه، وقف شيء في حلقك، اختنق شيء في صدرك، بقي وجهك جامدا كوجه تمثال. قال لك أبوك في ارتياح لم يستطع أن يخفيه: هذا حال الدنيا! ثم سمع شخيره. اقتربت منك أختك وربتت على كتفيك، وقالت - بالرغم من أنها لم تلمح دمعة واحدة في عينيك: لا تدم عينيك من البكاء، البركة فيك.

أخذك أخوك من يدك إلى حجرة في السطوح، وقال وهو يصعد السلم معك ويضغط على يدك: اسمك كان آخر شيء نطقت به، كانت تتمنى أن تراك. قلنا لها هو بعيد، يخدم في سبيل الوطن. لم تفهم. قالت: ربنا ينجيه. اسمك آخر ما جاء على لسانها. (ثم وهو يخبطك بقوة على ظهرك ويكاد لولا الكسوف يقهقه) أصبحت شاويشا قد الدنيا. تذكرت آخر مرة رأيت أمك فيها؛ هل تقول: رأيت؟ ربما لم تملأ عينيك منها كما كان ينبغي، لم تقف نظرتك على الوجه الذي لم تكن تدري أنك تراه لآخر مرة - وإن كان إحساسك قد أخبرك من قبل في الليالي الطويلة التي قضتها تتقلب إلى جانبك وتدعو الله أن ينجيك من مرض القلب - كنت مشغولا بنفسك، كنت سعيدا بسجنك، تستعجل السفر لتتفرغ - كما كنت تحلم - للأبيات الركيكة التي تحلم بأنها ستجعلك مثل المتنبي، أو تضع إكليل المجد على رأسك مثل فرجيل!

هل نسيت أنها لم تفلح حتى في أن تقربك إلى الحبيبة؟ ألم تكن في كل مرة تقدم القصيدة إليها كالشحاذ الذي يجرب لأول مرة في حياته أن يعطي لكي يأخذ أكثر مما أعطى؟ ألم تكن تبتسم لك في رثاء وهي تأخذها منك؟ هل كانت تغفل عنها رعشة يدك، واصفرار وجهك، وإهمال شعرك وأظفارك؟

ثم رثاؤها مرة أخرى وهي تبتسم وتعيدها إليك، وتقول لك لتتخلص من عينك المتسولة: عظيمة. لكنني لم أفهم منها شيئا!

هل نسيت الشحاذ وبنت السلطان؟ أعجبك التشبيه وأحببت أن تتشبث به! العربة الفخمة السوداء كانت تمرق إلى جانبك فتراها فيها - وربما عزيت نفسك بأنها رأتك - وتحث رجليك القصيرتين الغارقتين في الحذاء القديم على السير - تحت لفح شمس الظهيرة، في الشارع الطويل الذي لا يرحم، نسيته السماء فلم ترسل فيه نسمة!

دخلت إلى الحجرة التي ماتت فيها أمك، قالوا لك: إنها عندما أحست بالموت وهي راقدة في الشقة المعتمة في الدور الأول؛ طلبت أن تطلع إلى فوق، أن تشم الهواء، أن ترى نور ربنا، أشفقوا عليها من السلم؛ لكنها طلعت عليه وحدها، رفضت أن يسندها أحد، أبت أن يأخذ أحد بيدها، ارتاحت حين رأت الشمس لا تزال طالعة، قالت: أموت هنا أحسن . قال لك أخوك: أنت تعبان من السفر، اخلع هدومك واغسل وجهك.

فاطمة - هل نسيتها؟ - ستحضر لك العشاء وترتب لك السرير، نم للصبح واترك الأمر لله، هذا هو حال الدنيا.

جلست على الفراش، تحسست بيدك الجامدة الملاءة التي نامت عليها أمك، والمخدة التي وضعت عليها رأسها، حاولت أن تتصور ما رأته عيناها لآخر مرة، حاولت أن تستعيد ما فكرت فيه وهي تنادي باسمك، حاولت أن تجد دمعة واحدة؛ دمعة واحدة تفلت من عينيك الجامدتين على وجهك الجامد المشدود. جاءت وفوق رأسها صينية العشاء، تذكرتها، حاولت أن تبعد جسدها عن خيالك لتنفرد بأمك. وضعت الأكل على المائدة، رتبت الحجرة وقالت من وراء ظهرها كلاما لتعزيك، اقتربت منك وجلست على الفراش، بكت وهي تحكي لك عن أمك، عن طيبة قلبها وهي تدعو لك وتوصيها عليك، عن نفسها وقد راحت في النوم على الأرض من التعب والسهر وما تحس إلا بيد أمك على جبهتها؛ فزعت وقالت: اللهم اجعله خيرا. قالت لها أمك: نامي يا حبيبتي؛ كانت الناموسة وخفت تصحيك.

وعندما طلع النفس الإلهي كنا كلنا نائمين، أخوك أيقظني، نزلت الدموع من عيني بحرا وصرخت، أخوك ارتفع صوته وكبر ومد يده فلثمها، وأسبل عينيها وغطاها بالملاءة البيضاء؛ هذه الملاءة.

حاولت أن تبكي وأنت تسمعها، وبخت نفسك لأنك لم تذرف دمعة واحدة.

انتهيت حتى انتهت من حكايتها المملة الطويلة، اقتربت منها ومددت ذراعك وربت على كتفها (هل رأى أحد هذا؟ أنت الذي كنت تعزيها!) لما زاد بكاؤها ونهنهتها! اقتربت أكثر وطوقتها بذراعيك ومسحت الدموع من على خديها بشفتيك؛ هل في الحزن ما يدفئ الجسد؟ هل في الدموع ما يثير الحواس؟ نسيت كل شيء إلا ظمأك في الصحراء الواسعة الملتهبة، على الملاءة التي ماتت عليها أمك منذ يومين نمت مع الجسد الدافئ البديع، على المخدة التي وضعت عليها وجهها العجوز عانقت الوجه الجميل. استسلمت لك البضة الغبية، استسلمت أنت أيضا كالثور المعصوب. وعندما أغلقت الباب وراءها لتنام لم تجد النوم؛ لأن البرد كان هناك والقمر أيضا كان هناك، رآك طول الوقت ولم يدار وجهه من الخجل. وحين وجدت نفسك وحدك، وصعد الذل والضياع والندم ليخنق رقبتك؛ أخذت رأسك بين كفيك ورحت تنشج وتبكي، بكيت كما لم تبك في أي يوم، بكيت حتى خفت أن يسمعوا صوتك ويأتوا إليك ليعيدوا عليك كلامهم الممل من جديد. لما تعبت من البكاء رحت في النوم، مددت جسدك في المكان الذي تمددت عليه نفسه جثة أمك، والبرد كان هناك ولم تستطع أن تهرب منه، والقمر كان هناك يطل من زجاج الشباك المكسور، كطفل شقي يسخر منك، كطفل شاحب يستيقظ في تابوته الذهبي!

الطفل أيضا كلمتك عنه، أنت تعرف أنها كانت تأتي إلى حجرتك لتنام معك، أنت تعرف أيضا أنها لم تكن تذكره إلا لتنتقم منك، لتذلك، لتضمن ألا يتمرد جسدك مرة واحدة عليها. قالت لك بعد أن ارتدت ثوبها ونظرت في المرآة وسوت شعرها وأصلحت الأحمر على شفتيها: ماذا نفعل الآن؟ قلت في صوت مكتوم: لماذا تقولين نفعل؟ لماذا لا تسألين نفسك؟ قالت وهي تقترب منك وتتفرس عيناها الخضراوان العميقتان في عينيك اللتين طالما أحبتهما، لتتيقن ضعفك الذي لم يخف يوما عليها: ألسنا شركاء؟ قلت في عدم مبالاة كأنك أفلحت في أن تبرئ نفسك: أنت التي أردت كل هذا. قالت في هدوء وهي تشعل سيجارتها وتنظر إليك لتذكرك إهمالك في أن تشعلها لها: وأنت؟ ألم ترد شيئا؟ أبعدت عينيك وقلت في قحة دهشت أنت نفسك منها: أردت جسدك. عادت تقول في صوتها الهادئ العميق وهي تنظر من النافذة إلى الثلوج التي تتساقط على الزجاج كما كانت تفعل دائما لتريك أنها لا تحس بوجودك: نعم، أنا التي أردته. قلت في غضب مصطنع: إذن فأنت وحدك مسئولة عنه.

استطردت تقول وهي تتابع نتف الثلج الرقيقة ترف على فروع الشجر النحيلة العارية، وتلامس زجاج النافذة كأجنحة طيور بيضاء تسقط ميتة: وأنا سعيدة به؛ بشعره وعيونه وجبهته العريضة وعناده وغبائه أيضا! إنه لي، لن تستطيع قوة في الأرض أن تنتزعه مني، لا يمكنك أن تتصور كم أنا سعيدة به!

قلت في حنق لم تستطع أن تخفي ضعفك المستتر وراءه: بل قولي كم أنت سعيدة بالانتقام مني!

رمقتك بنظرة بعينيها الخضراوين العميقتين اللتين تحب على الرغم من كل شيء أن تقبلهما وتتملى من صفائهما دون أن تقول كلمة واحدة، جذبت نفسا من سيجارتها كأنها تثبت لك أن كلامك لا يستحق الرد عليه، شجعك هذا على التمادي، وبالانتقام أيضا من زوجك: أنت تكرهينه لا تنكري، وتكرهينني أيضا، لا تحاولي أن تقاطعيني. ثم تستطرد في صوت مرتفع تستغرب صدوره عنك وفي حركات تمثيلية ربما كنت تجربها لأول مرة: إنني لم أرده لذلك فهو غير موجود بالنسبة لي، إننا لا نعترف بوجود شيء إلا إذا كنا نريده، العالم كله ليس موجودا بالنسبة لي ما دامت إرادتي لا تسلم بوجوده؛ فما بالك بمن لا أعرف عنه شيئا، ولم أفكر فيه ولم أره ولا أفكر في أن أراه؟

قالت في سخرية أقرب إلى الرثاء: ألا تفكر حقا أن تراه؟

قلت في قسوة تداري بها ارتجافك من السؤال وخوفك من أن يتم اللقاء: ولو نادى علي بنفسه!

ظننت أنك أغلقت باب الحديث أو أنك على الأقل ستنتقل إلى موضوع آخر، لم تكن قط تتوقع أن تفاجئك بصوتها الهادئ المتكبر يقول: جبان! كان هذا دائما رأيي فيك.

لم تثر الثورة التي كنت تتوقعها من نفسك، وتتوقعها هي أيضا منك، لم نجد الشجاعة المفاجئة التي تهز كياننا كله في لحظة واحدة كزلزال مظلم غريب، فنقوم بعمل ما ندريه ولا نتصور بعد انقضائه أننا قمنا به.

ارتجفت مرة واحدة؛ ارتجفت كل أعضائك وتفككت وانهارت، وتصببت عرقا، وتجمعت كلها، وحاولت أن تلم شتاتها؛ لتخرج صوتا حزينا ضعيفا مرتعشا يقول: لم أكن أتصور أنك تهينينني إلى هذا الحد! لنسدل الستار على كل شيء.

نهضت من على الكرسي بحركة مفتعلة، أدرت لها ظهرك الذي ينتفض كله من الخوف والخجل وخيبة الأمل لتفتح الباب، انتظرت قليلا، فلما لم تسمع حركتها التفت فوجدتها تصوب عينيها العميقتين الخضراوين إلى قلبك، لم تقل شيئا بل نهضت هي الأخرى ولمت أطراف معطفها على كتفيها، ونظرت في المرآة فسوت شعرها ، ثم جاءت فوقفت أمامك حتى أحسست بعطر أنفاسها وجسدها الذي تعرف رائحته، ومالت برأسها، وطبعت على خدك قبلة لم تفاجئك كثيرا، وقالت وهي ترفع ذراعها وتحرك أصابعها حركة الوداع: موعدنا مساء السبت مثل كل أسبوع.

بقيت وحدك في غرفتك الكئيبة؛ الأثاث الكلاسيكي القديم الذي طالما أبدت صاحبة البيت حرصها عليه يحدق فيك في سكون وينتظر! البرد كان هناك والثلج كان يتساقط من خلال النافذة ويستريح على أسطح البيوت وفروع الشجر، وأرض الشارع الساكن، والقمر أيضا كان هناك، يطل عليك من وراء الغيوم الداكنة التي تحاول أن تخنقه في غضب أسود دون أن تفلح في أن تحجب عنك وجهه المضيء، كوجه طفل صامت في تابوته الذهبي. وتسرع بارتداء معطفك، برغم أنك تعرف أنك تنجو من الإصابة بالبرد الذي لا يتركك، وتسير في الشارع الذي تتلاعب نتف الثلج بفوانيسه الشاحبة دون أن تسأل نفسك وأنت تجذب نفسا من الهواء الرطب المنعش الخالي من رائحة الدخان والفحم والعرق وعطر الجسد وعفونة الملاءة المتسخة؛ لا تسأل نفسك إلى أين؟ لأنك في العادة تتجه إلى المقبرة القريبة المهجورة (أفما زلت تذكر تمثال الحبيبة الصغيرة الممددة على التابوت وبين يديها كتاب كانت تقرأ فيه؛ الحبيبة الشابة التي كانت تأخذك دائما إليها، ثم تقف بك عند كل قبر؛ لتشرح لك قصة صاحبه، وتقرأ معك الكلام المكتوب على شاهده بحروف ذهبية).

تذهب إلى هناك، فلا تجول في هذه الساعة المتأخرة من الليل - كيف تجسر على تعكير صفو الموتى بوقع حذائك الذي ترن حديدته على الأرض كأقدام حصان عجوز عائد مع جيش مهزوم؟ - بل تجلس على الأريكة «الوحيدة» هناك، يمر عليك العشاق متعانقين، ويفطنون إلى وجودك فيتضايقون ويبحثون عن أريكة أخرى في حديقة المقبرة، أو يسيرون صامتين في طرقاتها وبين أشجارها العتيقة العالية.

في قريتك الصغيرة كنت تحب دائما أن تسير بين القبور الصغيرة الفقيرة المستسلمة، كانت قبورا متواضعة أشد تواضعا من ساكنيها؛ طلاؤها متآكل، أطرافها مهدمة، معظمها مفتوح في جانب منه؛ فتحته الذئاب أو النيابة أو لصوص الجثث ، عليها شجرة صبار على أحسن الفروض، وفوقها كتابة بخط رديء لم يتجاوز صاحبه كتاب الشيخ: الاسم وتاريخ الوفاة - فتاريخ الميلاد دائما منسي - واقرأ له الفاتحة.

كانت تسليتك أن تمر بينها وتقرأ الكتابات المنقوشة عليها كنبش الفراخ، وتنقل أبيات الشعر السخيفة التي تعثر عليها، وتملأ عينيك وصدرك برائحة الرطوبة والعفونة والزمن والتراب والمسكنة، وتتصور جسدك ممددا في واحد منها، على تلة مرتفعة قليلا عن الأرض، فوق رأسك شجرة صبار مهملة تعتمد على نفسها في الحصول على غذائها.

أنت الآن ستعود إلى حجرتك، ستمر على الجسور التي تمر عليها كل يوم، وتفكر في أن تلقي بنفسك من فوقها؛ فيشل التفكير إرادتك، ستقول لنفسك في هذه الليلة أيضا: لا بأس! أنا أيضا لم أكن جادا في المحاولة، وستحاول من جديد بغير اكتراث ولا دافع جدي، ثم يأتي يوم تنسى فيه - ولعلك نسيت بالفعل - ولا تتذكر كلما مررت بجسر منها سوى أنك في يوم من الأيام كنت غبيا وطائشا (هذه الكلمة الأخيرة ستقولها من قبيل المجاملة ليس غير!) وستعود دائما إلى حجرتك (الوحيدة) الباردة، تذكر الوجوه التي أحببتها ولم تقبلها، العيون التي تسولت منها نظرة عطف ولم تنتبه إلى وجودك، الأشعار التي حلمت بأن تكتبها فبقيت تتخبط كالوطاويط المجنونة في رأسك، الأجساد التي عشت سنوات إلى جانبها لم تفكر في أن تلمسها وكانت تشتاق إليك بكل خلجة وكل لمسة وكل نظرة، وحين تأتي ليلة الوداع، وتريد أنت أن تسلم في احترام؛ تفاجأ بها تثب عليك فتقبلك في زحمة الشارع أمام الناس، تحت أعين النجوم، تتشبث بك وتطوقك تريد أن تنتقم منك؛ لكنك تعرف أن الوداع أكيد، والحقائب تنتظرك، والساعات الباقية من الليل لا تكفي لكي تحقق الأمنية التي تمنتها إلى جانبك أربع سنوات!

ودائما ما تعود إلى شقتك بعد ليلة طويلة، قضيتها على القهوة المطلة على الميدان في نقاش طويل تسأل نفسك: كيف لم تمله من زمان؛ وظيفة الأدب في المجتمع، العلاقة بين الشكل والمضمون، موقف الكاتب من الشعب وموقف الشعب من الكاتب؟ وتتحمس فتخطب وتثور، أو تتجمد فتغيب عن الجميع وتحدق صامتا في الفراغ؛ لأنك تسأل نفسك في هذه اللحظات لماذا يعيش هؤلاء الناس؟

وتسأل نفسك أيضا السؤال نفسه، وتعود فتحدق في الفراغ؛ فراغ نفسك من الحياة، ومن إنسان نقول له بدون أن تتحرك شفاهنا: ما أصعب الحياة بدونك! وتترك القهوة متكاسلا، وتسير في الطريق نفسه، وتركب الترام نفسه، وربما قابلت المحصل والسائق أنفسهما، ولا تسأل إلى أين؟ لأنك دائما تعرف الطريق إلى غرفتك (الوحيدة) الباردة، ولأنك ستضع فيها المفتاح، ولأن البرد دائما ما يكون هناك، والفراش المهمل، والكتب والصحف التي تجعل منها كهفا أو مقبرة، ولأن القمر أيضا قد يكون هناك. حين تفتح الشباك لتجدد الهواء وتراه يتطلع إليك مثل طفل شاحب بعيد، يستيقظ فجأة في تابوته الفضي؛ ليقول لك: إلى أين؟ (1965م)

سيرة كلب يبحث عن إنسان1

سأحكي لكم حكاية إنسان نسجت حوله الخرافات والأساطير؛ لا تغتروا كثيرا بهذه الكلمة الأخيرة، فلم نعرف فيما وصلنا عنه من أخبار مضطربة أنه شبه بالآلهة أو أنصاف الآلهة أو الأبطال، لا بل إن أغلب من تحدثوا عنه قد بخلوا عليه حتى بكلمة إنسان.

فلقد سماه أرسطو المشهور بالكلب، كما أطلق عليه كل من ذكره صفة الكلبي، ولم ينكر هو أيضا هذه الصفة على نفسه، وإن كان فيما يروى عنه قد قال إنه كلب من نوع خاص لا يجرؤ أحد أن يصحبه معه إلى الصيد! وعندما مات، وكان هذا منذ أربعة وعشرين قرنا؛ كرمه سكان مدينته فأقاموا له تمثالا يطل على الخليج، وزادوا في تكريمه فوضعوا فوق التمثال كلبا من المرمر؛ علامة على شخصيته أو على مدرسته! ولكن لماذا نقفز مرة واحدة إلى موته ولا نسير معه خطوة خطوة على طريق حياته المضحكة أو المبكية؟ لنبدأ إذن حكايته من أولها، ولنحاول أن نفحص الأخبار التي تؤكد أنه كان كلبا من الأخبار التي تجعل منه إنسانا!

كان هذا الرجل - ولنتفق الآن مؤقتا على أنه كان رجلا مثل كل الرجال - يسمى «ديوجينيس»، كما كان أبوه يدعى «هيكزيوس»، ولقد ولد بالطبع كما يولد كل كائن حي، وكانت ولادته في مدينة صغيرة اسمها سينوب على البحر الأسود، لم يهم أحد من الرواة أو المؤرخين بأن يذكر لنا شيئا عن طفولته، فالطفولة كانت في ذلك العهد القديم - أكثر مما هي اليوم - شيئا لا يلقى غير الإهمال والاضطهاد؛ ولكننا نسمع على كل حال أنه نفي مع أبيه عن تلك المدينة الصغيرة لسبب لا ندريه، لعله هو الاختلاس أو تزييف النقود كما يقال!

كما نسمع أنه - حين عاش بعد ذلك في أثينا وأصبح من فلاسفتها المشهورين - ظل ينظر إلى نفسه نظرة الغريب المنفي الذي لا وطن له، كما ظل الأثينيون المدهشون يعاملونه كذلك معاملة المنفيين! هل أذكر لكم أبيات الشعر التي قالها في هذا الشأن؟ ولكن لنؤخرها قليلا؛ فقد تكون أليق بشيخوخته العاجزة منها بشبابه أو صباه.

قلت لكم: إن الناس ألفت أن تسميه الكلب، كما أن أرسطو العظيم قد ذكر أن ذلك كان اسم الشهرة الذي عرف به، ولا يجوز أن نشك في كلام المعلم الأول، إلى جانب أن هناك كثيرا من الأخبار التي تؤكد - كما قدمت - أنه كان حقا ينتمي إلى جنس الكلاب، صحيح أنه قيل عنه: إنه ذهب في شبابه إلى معبد دلفي المشهور ليتلقى الحكمة على كهنته، وصحيح أن الكلاب - كما هو معروف - لا تتردد على المعابد ولا يعنيها أن تكون حكيمة أو بلهاء؛ ولكن هذا أيضا لا يساعدنا على القول بأنه لم يكن كلبا، ولا يقدم لنا الدليل الثابت على أنه كان من بني الإنسان.

وحتى تلك الحكاية التي تروى عنه في شبابه وما تزال تؤثر في القلوب إلى اليوم، لا تستطيع أن تحل لنا المشكلة.

فيقال: إنه ذهب في صباه إلى أثينا لكي يتتلمذ على الفيلسوف أنتيستينيس مؤسس مدرسة الكلبيين، ويبدو أن الصبي لم يرق له فطرده؛ ربما لرثاثة هيئته أو ضعف بصره أو بشاعة وجهه أو شذوذ سلوكه، وألح الصبي على الأستاذ أن يقبله بين تلاميذه، فسحب الفيلسوف العجوز عصاه ليضربه بها ويتخلص منه؛ ولكن الصبي مد له رأسه قائلا: اضرب! لأنك لن تجد عصا من الخشونة بحيث تبعدني عنك، ما دمت أومن بأن لديك ما تقوله لي. ولا ندري في الحقيقة ماذا قال له الفيلسوف العجوز؟ ولكن لا بد أنه فتح له باب مدرسته على مصراعيه أو فتح له ذراعيه، وقال لنفسه أو قال له: لم أر في حياتي كلبا أصيلا كهذا! ولازم التلميذ أستاذه حتى استطاع هو نفسه أن يصبح أستاذا.

ولكن هل منعته أستاذيته أن يظل كلبا؟ لنسمع أيضا هذه الحكاية التي تروى عنه بعد أن تعلم الحكمة، وراح بعد ذلك يعلمها.

فيقال: إنه كان في رحلة إلى إيجينا، فأسره بعض القراصنة وأرسلوه إلى جزيرة كريت؛ ليباع هناك مع العبيد في المزاد، سأله المنادي على المزاد بعد أن لاحظ غرابة أطواره: ماذا تحسن من الأعمال؟

أجاب ديوجينيس: حكم الناس.

عاد المنادي يسأل، وربما لسعه بسوطه على وجهه فسال منه الدم: وكيف تريد أن تحكم الناس أيها العبد اللعين؟

فأجابه ديوجينيس في ثبات: بأن أربيهم!

وتصادف في هذه الأثناء أن مر رجل من كورنثة كان يسمى إكسينياديس يرتدي ثوبا أرجوانيا فخما، فأشار إليه العبد الفيلسوف قائلا: بعني لهذا الرجل؛ فهو يحتاج إلى سيد.

ولما تقدم منه الرجل مذهولا قال له: عليك أن تطيعني، وإن كنت عبدا لك!

سأله الرجل ضاحكا: وكيف أطيعك، إذا كنت سأشتريك؟ أجابه الفيلسوف المربوط بالأغلال: لأنني سأعلمك، ولذلك سأكون سيدك! ولأنه إذا كان هناك طبيب أو ملاح يعيشان في الأسر فلا بد لكل منهما أن يطاع!

أعجب الثري المذهول بكلام العبد الغريب، وقرر أن يأخذه معه ليعلم أولاده، ولا بد أنه رضي عنه تمام الرضا، فقد قال عنه لأصحابه فيما بعد: إن روحا طيبا دخل بيتي، ولا بد أنه ازداد إعجابا بغرابته وشجاعته حين حاول بعض أصدقائه الذين استمعوا إلى دروسه أن يفتدوه، فقال: إنهم بلهاء؛ لأن الأسود ليست عبيدا لمن يطعمها، بل إن من يطعمونها يقعون تحت رحمتها! ولا شك أننا لا نستطيع أن نأخذ كلمة الأسود مأخذ الجد، ولا نصدق أنه كان جادا في حسبان نفسه من الأسود، على حين أنه يعيش عند إكسينياديس المذكور معيشة العبيد؛ أعني معيشة الكلاب، ولكننا من ناحية أخرى نميل إلى تصديق ما يقال من أنه - وفاء لكلبيته المشهورة - لم يعلم أبناء سيده الجدل أو اللغو بالعبارات العويصة الخلابة، بل علمهم كيف يكتفون بفتات الخبز والماء البارد؟ وكيف يسيرون في الشوارع حفاة صامتين، لا يتلفتون حولهم؟

هذه الحكايات - كما ترون - قد تدل على ضعة الكلب ومهانته، أو على تواضع الحكيم وانكساره. وإذا كنتم لا تقنعون به برهانا على كلبيته فيكفي أن أوجه انتباهكم إلى سلوكه المشهور في شوارع أثينا وحاراتها وأسواقها ومسارحها وعلى سلالم معابدها ومدارسها؛ فربما رأيتم مع بعض الرواة أنه كان كلبا لا يرقى الشك في كلبيته، ستذكرون أولا ما قلته على لسانه من قبل من أنه كلب من النوع الذي يثني عليه الجميع؛ ولكن ما من أحد يجرؤ أن يصحبه معه إلى الصيد. إنه إذن - لو صح هذا التعبير - كلب مغرور! ولكن دعكم من كلامه ولننظر في أفعاله.

تخيلوا معي رجلا أشعث الشعر، رث الثوب - أقول الثوب ولا أقول الثياب - متجهم الوجه، حافي القدمين، قذر اليدين والأظفار، يحمل جرابا على ظهره، ويكشر عن أسنانه كلما قابله الأطفال وصاحوا في وجهه: ها هو ذا الكلب! ها هو ذا الكلب! إنه يمشي على الثلج في الشتاء، وينام في أي مكان تحت السماء، ويشير إلى النجوم قائلا: ها هم أولاء الأثينيون يرعونني ويقدمون لي مكانا آوي إليه.

يحمل في جرابه رداء يطويه في النهار ويتغطى به في الليل، ويضع فيه زاده القليل الذي لا يزيد عن كسرات من الخبز، ويضع حبات من الزيتون تصدق بها عليه المحسنون، يحمل في يده صحفة قديمة يأكل فيها ويشرب، بل إنه - فيما يقال - قد استغنى عن هذه الصحفة أيضا حين رأى ذات يوم طفلا يشرب من النهر براحة يده، وقال: إن طفلا صغيرا قد فاقني في بساطة الحياة. ومع أن هذا القول يوحي بإعجابه بالأطفال فإنهم فيما يبدو لم يكونوا يتركونه في حاله؛ فربما استرعاهم منظره وهو يسير شبه عار في الشوارع، أو يجلس وحيدا على قارعة الطريق يلتهم اللحم الطري، أو يقرض العظام التي يلقي بها الأثرياء من موائدهم، فيلتفون حوله ويصيحون: حذار وإلا عضنا. فيرد عليهم قائلا: لا تخافوا يا صغار؛ فالكلب لا يأكل البنجر!

ولا بد أنه سئم تعقب الأطفال له أينما ذهب، أو سخرية النساء والأغنياء به كلما شاهدوا هيئته الزرية، أو من تأفف الفلاسفة منه كلما سمعوه يتحاور في الفلسفة مع أنه لم يحمل يوما كتابا ولا شأن للكلاب بالفلسفة! لا بد أنه سئمهم جميعا؛ فاختار أن يلجأ إلى برميله المشهور، ينام فيه بالليل؛ ليحتمي من برد الشتاء، أو يتدحرج به في النهار بعيدا عن أعين الصغار والكبار، حقا إن احتماءه بالبرميل كان دليلا على زهده وقوة إرادته وإيثاره شظف العيش؛ ولكن هل خلصه من الناس أو منعهم من أن يطلقوا عليه صفة الكلب؟ العكس هو الصحيح؛ فقد أصبح البرميل علما عليه، وزاد بالطبع من اهتمام الناس به، ومشاكسة الأطفال له، وجذب الغرباء والمتطفلين إليه! ولا نستطيع أن نعرف الآن إن كان التجاؤه إلى هذا البرميل المشهور فرارا من أعين الناس وحبا في الوحدة والانفراد، أو كان رغبة منه في الخلو إلى نفسه والتعمق في ظلماتها ومتاهاتها! وهل كان ذلك لزهده في الظهور أمام الناس، أو كان إمعانا في الظهور وحبا في الاستعراض كما نقول اليوم؟

لا ندري على وجه التحديد! والمهم أنه وضع نفسه في البرميل، وراح يتدحرج به على الثلج أو فوق التراب كلما احتاج إلى الحركة؛ لقد أراد أن يقول للناس: لقد استغنيت عنكم واكتفيت بنفسي، تركت الكوخ والبيت، سئمت المعبد والمسرح، زهدت في الظهور أمامكم بثيابي المتسخة الممزقة التي تؤذي ذوقكم وأبصاركم، فاتركوني أعيش في برميلي في هدوء!

ولكن هل تركوه حقا يعيش حياته في هدوء؟ وهل كان هو نفسه يريد أن يتركوه وينسوه؟ لقد ظلوا مع ذلك يسمونه الكلب، بل إن حياته في البرميل المشهور قد أكدت لهم كلبيته أكثر من أي شيء سواه، ويظهر أنه يئس من زوال هذه الصفة عنه؛ فحين أطل برأسه ذات يوم من البرميل ليرد على من يسأله: لماذا سمي كلبا؟ قال له: إنني أهز ذيلي لمن يعطيني شيئا، وأنبح من يردني، وأعض بأسناني اللئام والأنذال!

لا شك أن هذه الإجابة تحمل في طياتها قدرا كبيرا من التكبر والغرور، وإذا كنا لا نستطيع كما قلت أن نتصور كلبا مغرورا فقد نستطيع أن نستثني كلبنا الفيلسوف من ذلك ونقول مع بعض الرواة: إنه كان مغرورا بحق، وإن كلبيته لم تكن سوى دليل على غروره الفظيع، ربما كان في تجواله في شوارع أثينا بشعره الأشعث المنسدل على أذنيه، ومنظره الزري القذر، وجراب الشحاذين على ظهره، وضراوة الوحش في عينيه وتكشيرة أسنانه، أو في دحرجته برميله هنا وهناك بلا هدف معلوم؛ ربما أراد بذلك أن يقول للأثينيين: لست كلبا؛ بل أنتم الكلاب! إنكم تحرصون على التقاليد، وتذلون أنفسكم لجمع المال، وتتباهون بالثياب الجديدة والمساكن الجميلة، وتصانعون الطغاة وتجاملون الأغبياء من الحكام والقواد والأغنياء، وتهتمون بثرثرة السفسطائيين والفلاسفة الذين يخدعونكم بكلامهم المعقد المسحور؛ ولكن ها أنا ذا قد زهدت في المال والثياب والحكم والكلام البراق، ها أنا ذا أعيش وحيدا محروما، جائعا، حافيا، مكتفيا بنفسي؛ فمن فينا الكلب أيها الكلاب؟

ربما لم يقل كلبنا المدهش كل هذا الكلام، ولكن النوادر التي تحكي عن غروره وشراسته أكثر من تلك التي تروى عن ذله وانكساره؛ لقد هاجم الجميع، واحتقر الأثينيين حتى استكثر أن يسميهم الرجال (لا تنسوا أنه أخذ ذات يوم يصيح مناديا: يا رجال! فلما تجمع الناس جرى وراءهم بعصاه قائلا: لقد ناديت الرجال ولم أناد الكلاب!)

كما راح يلعن كل فئاتهم ويقول: إن النحويين ينقبون عن عيوب أوديسيوس على حين يغفلون عن عيوبهم، والموسيقيين ينغمون أوتار القيثار على حين يتركون أوتار نفوسهم متنافرة، والفلكيين يحملقون في الشمس والقمر في حين لا ينتبهون إلى الأشياء التي في متناول أيديهم، والخطباء والحكام يثيرون الضجيج حول العدالة في حين أنهم لا يمارسونها في أعمالهم! ويظهر أنه كان يكره اللغو والجدل أكثر من أي شيء آخر في الوجود؛ فقد راح يتحدث مرة في السوق حديثا جادا فلم يأبه به أحد، فما كان منه إلا أن أخذ يعوي ويصفر، والتف الناس حوله فقال لهم: «تسرعون لسماع اللغو، وتبطئون عندما يدور الحديث حول موضوع جاد!»

ويبدو أن كرهه للغو والجدل كان سببا في هجومه المستمر على الفلاسفة، ووصفه لهم - وهذا شيء مضحك من كلب مثله - بأنهم كلاب طويلة اللسان! ألم يسمع مرة زينون الإيلي وهو يجادل في الحركة، ويثبت بالعقل بطلانها، ويقدم حججه المشهورة عن السهم الطائر والسباق الخاسر بين أخيل والسلحفاة، فنهض من مجلسه غاضبا، وراح يمشي صامتا أمام زينون؟ ألم يحتقر أفلاطون الإلهي ويصف محاوراته بأنها مضيعة للوقت؟ ألم يسفه كل معاصريه ويقل عنهم: إنهم بلهاء يسلون بلهاء؟

قد لا يكون كل هذا الهجوم دليلا كافيا على غروره بل على تهوره أو قصر عقله؛ ولكن ماذا نقول في حادثته المشهورة مع الإسكندر الأكبر نفسه؟ فيبدو أن القائد الشاب قد سمع قواده أو عساكره يتحدثون بسخرية عن الكلب وبرميله المشهور، فلم تمنعه عبقريته ولا مشاغله من الذهاب بنفسه لزيارته. تصوروا معي القائد العظيم في ردائه الفخم وخوذته الذهبية وقامته الرشيقة ووجهه الناصع المتفجر بالشباب وهو يقف متعجبا أمام البرميل وحوله جماعة من قواده وحاشيته. إن الكلب الفيلسوف لا يحس به، ويتقدم أحد قواده فيخبط بسيفه على البرميل، ويطل بوجهه العجوز محاولا أن يفتح عينيه اللتين أتعبهما الظلام أو التأمل الطويل في أعماق النفس، ويسأله الإسكندر: ألا تخافني؟

فيسأله بدوره: ومن أنت؟

ويعجب القواد من جهله وغبائه؛ إذ يستمر في السؤال: أخير أنت أم شرير؟

ويقول الإسكندر: بل أنا رجل خير.

فيقول ديوجينيس: ومن ذا الذي يخاف الخيرين؟

ويغضب القواد، ولكن الإسكندر يهدئهم بإشارة من يده، ويسأله من جديد: أنا الإسكندر الأكبر.

فيرد عليه: وأنا ديوجينيس الكلبي. ويعود الإسكندر يسأل: اطلب ما تشاء.

فيقول قبل أن يختفي رأسه في قاع البرميل: ابتعد ولا تحجب عني ضوء الشمس!

قد يكون في هذا الحادث دليل آخر على حمقه أكثر منه على ذكائه، أو قد يكون دليلا على أنه كلب حقيقي قد تقمص جسد إنسان! ولكن ماذا تقولون في حادث آخر ربما يزيد في شهرته عن لقائه مع الإسكندر؟

ها هو ذا ديوجينيس قد شاخ وانحنى ظهره الذي لا يفارقه الجراب المتسخ بما يحمل من الصحفة والزاد، وظهرت في يده عصا يتوكأ عليها ويذود بها عن نفسه الصبية والأطفال. إنه الآن جائع مسكين، يود لو كان في مقدوره أن يتخلص من هذا الجوع بتدليك معدته الخاوية؛ ولكن الجوع - كما نقول الآن - كافر، والأغنياء في كل مكان باخلون، وهو مضطر أن يسألهم الصدقة، بل أن يعضهم إن لزم الأمر وأصروا على البخل والعناد، لا أحد يريد أن ينسى أنه كلب، لا أحد يمل الضحك عليه وتجنب طريقه، والخوف على نفسه من أن ينهشه حقا بأسنانه التي لم تعد تذوق طعم اللحم، بل لم تعد تجد بقايا العظام! صحيح أن بعضهم يردد أقواله عن الحرية والشجاعة والقناعة وجمال الروح الحق، وبعضهم - وبخاصة الفقراء والمضطهدون والمتعبون من شقاء الأيدي والأجسام، البعيدون عن ترف الفكر وتدبيج الخطب والكلام الجميل - يجدون العزاء فيما يقوله من أن احتقار اللذات هو أعظم لذة، وأن الطبيعة قد يسرت للناس كل سبل السعادة؛ إلا أنهم لجنونهم يختارون أن يعيشوا تعسين، وأن الحكيم يملك كل شيء، ولذلك فليس في حاجة لأن يملك شيئا بذاته، وأن الإنسان الحق لا ينتمي لوطن لأن العالم كله وطنه. وصحيح أيضا أن هؤلاء الفقراء قد سمعوا عن كبريائه إزاء الأغنياء البخلاء، لا بل عن رفضه - وهو الجائع العجوز المحروم - أن يأكل على مائدة الطاغية كراتيروس قائلا إنه يفضل أن يعيش على حبات الملح من أن يتمتع بطعامه الفخم.

كما استمعوا بإعجاب لا حد له لما قاله حين سئل: إن كان قد تعلم من الفلسفة شيئا؛ فأجاب بأنه قد تعلم أن يرتفع فوق كل الحظوظ والأقدار، غير أنهم مع هذا العطف والإشفاق كله لم يستطيعوا على كل حال أن يقتنعوا بأنه إنسان مثلهم أو مثل غيرهم من الناس!

صحيح أن كلماته الحكيمة قد أعجبتهم ولمست قلوبهم، فسماه بعضهم كلب السماء، أو «الكلب الإلهي»؛ ولكنه ظل في أعينهم بالرغم من كل شيء الكلب المسكين المشهور. لقد رأوا أن كلبيته كانت تحمل في ذاتها دليلا صامتا على وقوفه في صفوف الفقراء والمظلومين واحتجاجا - من نوع دنيء بالطبع - على غنى الأغنياء وطغيان الطغاة، سمعوه يقول مرة: إن من المستحيل على المجتمع أن يحيا بلا قانون. فأدركوا ولو من بعيد أنه يدين القهر والعسف الذي يعانونه، كما أعجبوا به حين رأوه ذات يوم وهو يهتف بأحد الكهنة وكان يسوق أمامه رجلا سرق إناء من آنية معبد زيوس: انظروا؛ إن اللصوص الكبار يسوقون اللص الصغير!

كما فرحوا في أكواخهم وبيوتهم القذرة في أطراف المدينة حين سمعوا أنه قال لمن لامه على أنه يؤم الأماكن القذرة: إن الشمس أيضا تزور المستنقعات، دون أن تدنس نورها.

ربما يكون عطف الناس عليه قد زاد قليلا مع ازدياد ضعفه وشيخوخته، وربما يكون اسمه الجديد «كلب السماء» أو «كلب الآلهة» الذي أطلقه عليه الفقراء والطيبون قد أرضاه؛ ولكنه مع ذلك ظل شحاذا جائعا شريدا، إنه يسأل فيمنع عنه الناس أيديهم، ويزور موائد الأغنياء فيلقون إليه بالعظام وهم يضحكون، ويرى الشحاذين يسألون ويعطيهم الناس، فيذهب إلى أحد التماثيل المنصوبة في وسط المدينة، ويمد يديه إليه ويقول لمن يسأله عن سبب ذلك: «لكي أعود نفسي رفض الناس!»

وقد تحتم عليه حقا أن يتعود رفض الناس وبخلهم، ولم تنفعه حكمته التي يرسلها في الشوارع والأسواق دون أن يعبأ بتدوينها، ولم يشبع جوعه أن يتطفل عليه الفقراء مشفقين عليه حينا، ضاحكين عليه في معظم الأحيان؛ فالأغنياء والحكام مشغولون عنه بالاستماع إلى سقراط وأفلاطون ومشاهير الخطباء والمجادلين.

صحيح أنه كان مع ذلك لا يعدم من يتصدق عليه بكسرة خبز أو قطعة لحم؛ ولكن جوع المعدة لم يكن في الحقيقة هو مشكلته، إنه يستمتع حقا بحب الكثيرين من الأثينيين وعطفهم عليه؛ ولكنهم يسألونه الآن: ما أتعس شيء في الحياة؟ فيقول لهم: عجوز وحيد. وهم يبدون استعدادهم كلما كسر برميله أن يهدوا له برميلا آخر، وربما عرض بعضهم عليه أن يقيم في بيته ويريحه من الجولان وحده في شوارع المدينة؛ ولكن ماذا يجديه هذا كله؟ هل استطاع أحد أن يستمع إليه بحق؟ هل قدر أحد أنه ليس شحاذا كسائر الشحاذين؟ بل هو شحاذ فيلسوف أو فيلسوف شحاذ، يتصدق عليهم بالمعرفة والحكمة مقابل لقم قليلة؟ هل أدركوا أخيرا أنه جعل من نفسه كلبا لكي يفهموا أنهم هم الكلاب؟ هل عرفوا حقا أن حرصهم على الغنى والشرف والشهرة والأصل واللذة تجعلهم كلابا آدميين، على حين أن الفلسفة - أي محبة الجمال والخير والحق - هي التي تحفظ الإنسان من أن يصبح كلبا؟

لا، لم يفهموا ولم يعرفوا ولم يروا شيئا، وها هو ذا - كما يقول - ما يزال في نهاية عمره كما كان في بدايته شريدا بلا وطن ولا بيت، ميتا في بلده، طريدا يبحث عن خبز يومه! ربما كان هذا هو الذي دفعه ذات يوم عجيب إلى قمة اليأس، وجعله يقوم بتلك الحادثة التي قلت لكم إنها أشهر وأهم من لقائه المشهور مع الإسكندر.

وربما استطعتم أن تشكوا بحق في أمر ذلك اللقاء الخرافي؛ ولكنكم فيما أعتقد لن تشكوا في أمر هذه الحادثة.

نعم! لقد فوجئ الناس به في ذلك اليوم وهو يسير عجوزا وحيدا يتوكأ على عصاه، ويحمل جرابه على ظهره، ومصباحا في يده؛ أجل كان يحمل مصباحا كبيرا في يده اليمنى المرتعشة من الضعف والجوع والعذاب، مصباحا مضيئا في عز النهار. كانت الشمس في منتصف الظهيرة، شمس حامية ترسل حممها الخالدة على رءوس الأثينيين الذين يحتمون منها بكل وسيلة.

نعم إنه الكلب بعينه؛ الكلب الفيلسوف الشحاذ يمضي في شوارع أثينا، والشمس في الظهيرة، ومصباحه الزيتي الكبير يتأرجح بشعلته الملتهبة في يده؛ هل جن هذا الكلب المسكين؟ ألم يكتف ببرميله القذر المنتفخ فيظهر الآن بمصباحه في ضوء النهار؟ هل شبع من عض الناس بكلماته وأسنانه ويريد الآن أن يحرقهم بناره ودخانه؟ ثم من أين له هذا المصباح والزيت والزجاجة وهو لا يملك ثمن حبة ملح ولا حذاء؟ وما حاجته إليه وهو ينام راضيا منذ سنين في قاع البرميل؟ ومن أين له هذه الكلمات الفصيحة التي يطلقها الآن مع كل خطوة: أين الإنسان؟ أين الإنسان؟

إنهم بعد المفاجأة يتجمعون حوله، وكالعادة يبدأ الأطفال بسؤاله: عم تبحث يا عجوز؟

فيقول: أبحث عن إنسان! أبحث عن إنسان!

وتنقلب الحكاية إلى لعبة، ويبدأ الناس بعد ذهول المفاجأة في الضحك بصوت عال، ثم يفيق الأطفال ويبدءون بإلقاء الأحجار، وينطلق الصوت أعلى من صوت الضحكات ومن تهشم الزجاج: أين الإنسان؟ أين الإنسان؟

لا يدري أحد كيف انتهت جولة ديوجينيس في شوارع أثينا؟ ولا يدري أحد ماذا حدث له في ذلك اليوم العجيب؟

ربما يكون الجنود قد قبضوا عليه ووجدها الحكام فرصة ليستريحوا منه أخيرا في سجن يموت فيه! أو يكون الأطفال هشموا مصباحه ومعه وجهه العجوز وهيكله الفاني، أو ربما يكون المصباح نفسه قد اشتعل وامتدت النار إلى يديه وذراعيه وأكلت بقايا ردائه المتسخ!

لا ندري ماذا كان مصيره؟ لكن ما زالت صرخته تتردد تحت الشمس السوداء: أين الإنسان؟ أين الإنسان؟ (1968م)

وقائع يوم أسود

إلى ضياء الشرقاوي في رحاب الله

يوم جديد على عجلة التعذيب، شخص آخر نام في فراشي، أفطر، حلق ذقنه، خجل من النظر في المرآة، تثاءب وهز رأسه، وسأل: متى تكون أنت نفسك؟ بعد ساعة أجلس أمام الميكروفون؛ صوت يخرج من بئر مجهولة، جسد أنكره تنظره ألف عين. الأفكار تتوثب من ليلة الأمس لتقفز، تلمع وتخبو كأنوار قوارب صيد بعيدة في بحر مظلم: الجوهر، والوعي، والمنهج. الجدل، والكوجيتو والوجود. وجراد الاكتئاب يزحف فأستسلم له، وجرس الرعب البيتي يرن فأنتفض: من؟ ويأتيني صوت الصديق الأسمر فأتصور وجهه المتألم وعينيه الطيبتين ودعاباته بالجيم المعطشة: أهلا أهلا، يا صباح الخير .

أنتظر الدعابة المفاجئة، أتهيأ للهجوم المعتاد؛ للإعلان عن فتح جديد في القصة، لتجديد موعد بعد منتصف الليل، تأتي الإشارة بالصمت حاسمة: خبر سخيف أبلغه لك، لا وقت عندي، لا بد من إبلاغ الآخرين.

تصبح الإشارة لطمة مباغتة، إعصارا يقتلع الشجرة، بين الجنون والذهول ينغرز خنجر الكلمة في القلب، تمتد يد الغريق تستغيث وتتلوى وترفض الكابوس؛ لكن الكلمة سقطت، والموت اخترق الدوامة؛ الموت.

من ثلاثة أيام مر علي، ترك لي ورقة تحت الباب، أذكر السطور الثلاثة المتعرجة، الحروف الدقيقة المائلة، المسافات البيضاء بين كل كلمة وأخرى (ثبت في ذاكرتي من قراءة قديمة في علم الخط أنها علامة لا تخيب على طيب القلب)، روح الطفل المعذب تبتسم وراء كل كلمة، تحمل وعدا باللقاء القريب، أعيد قراءتها قبل أن أطويها وأبتسم لمطلعها: إلى عناية ... ولربة القدر المشاكسة التي مدت خيطا بعد غيبة أسبوعين فأفلت منا. كنت عنده في نفس اليوم ونفس الوقت، أعدت مجلة استعرتها منه وربت بكفي وجه الابن، والحنين كان في القلبين، وسؤال الأصدقاء من الطرفين، ونية اللقاء القريب والحديث الطويل مشتركة ومعلقة كالنجم؛ لكن الخيط يفلت. إلهي، أيمكن أن يفلت إلى الأبد؟

أرتدي ملابسي بسرعة، أتحسس سلسلة المفاتيح في جيبي، أطلب مكان العمل لأعتذر، وألعن كل شيء، أستعيذ بالله وأضبط شفتي تتحرك بآيات محفوظة، أرد الباب وأخجل من جسد لا يزال يتحرك ويقفز درجات السلم ويهز الرأس للبواب. العالم ما زال، الشمس ترسل ضوءها كما فعلت بالأمس ومنذ ملايين السنين، والجدران قائمة، والناس تتحرك، والعربات تجري، والكلاب تتطلع بعيونها الحزينة الذليلة، وكل شيء ... إلهي! لم أنت وحدك؟ كيف أقول عنك «كان»؟ أين تتمدد؟ كيف تنام؟ كيف أصدق!

أقف على محطة الأوتوبيس، أنتظر وأنتظر، المشكلة الأزلية، وأنت هناك، والموعد المستحيل يقترب، أشير إلى تاكسي؛ تتم المعجزة، أصارح السائق الشاب بدهشتي، ألاحظ وجهه الذابل وعينيه الصامتتين المنكسرتين. يهز رأسه موافقا: زمن المعجزات لم يفت، المعجزة أمام أعيننا، على مرمى من أقدامنا، حولنا وفينا؛ لكنا لا ننتبه، أبدا لا ننتبه. يلتفت برأسه وينظر إلي. أنهال عليه بالشكر وأسترسل في الكلام عن قدرة الله؛ هل تملك إلا التسليم؟ يؤمن على قولي بإطراقة من رأسه، أناشده أن يسرع قليلا، تفلت مني كلمات الموت والجنازة والصديق. يردد في عينيه الواسعتين، تخرج من فمه الكلمات المعتادة، أخجل من ثرثرتي، أعجب من نفسي: هل قلت الموت؟ هل صدقت؟

والوجه الأبيض الحبيب أمامي؛ مستدير ومائل باستطالة نحو الذقن الصغير المدبب، ممتلئ بالحيوية، بدا عليه الإرهاق والسهر، وتحت الحاجبين الأسودين عينان واسعتان يفيض منهما نهر حنان لن أنسى عذوبته، ويتوثب فيهما طموح قلق لا يكف عن المغامرة، وجبهة عريضة عالية أجبرت الشعر أن ينسحب عنها شيئا فشيئا لتواجه - كصخرة على الشاطئ - أمواج المخاطرة، والفم الصغير المزموم الشفتين تصطرع فوقه المرارة مع خفة الدم الآسرة، والصوت ... الصوت الرجولي الخشن الذي يندفع ويعلو ويشق الزحام كصوت القبطان المرح الآمر الذي ينبه البحارة المتعبين. هذا الوجه وهاتان العينان وهذا الصوت؛ لم لم أعرفها إلا من عام واحد؟

من النافذة الزجاجية ألمحهم واقفين على منعطف الطريق المنحدر، أمام السور القديم المتآكل. يتحرك كياني ولا أعرف من يحركه، كتلة ثقيلة سوداء. يقترب مصطفى مادا ذراعيه، طويلا منحني الظهر، كفه اليمنى تصنع السؤال الأزلي، يأخذني بين أحضانه، يريح رأسه على كتفي اليسرى، ينهنه كالطفل. فراغ من حولي، فراغ في داخلي، هاوية تحيط بي، العين جافة، والدمع لا يستجيب. أعرف نفسي: لم يأت الجيشان بعد. القلب أرض خراب، سطح ساكن، لا بد من وقت طويل قبل أن ترتفع الموجة، جربت هذا من قبل. أخجلني وجودي الصخري أمام أمي وأخي. وفي الليل، وحدي، ينهمر الطوفان. هدهدت رأسه وكتفيه، قبلت وجهه ورقبته، تلعثمت بالعزاء المحفوظ، السؤال: كيف ومتى وأين عقيم، والكلام لا يشرخ جدار الموت، يرتد إلينا كاللطمة في الوجه، يصرخ شيء في: هذا وقت الصمت. اللفظ خيانة، والعجز الراقد فيك كقزم عار يتوسل لك: دثرني بالله عليك، برداء الصمت. أتقدم من الواقفين، أرى الوجوه المربدة، والرءوس المدفونة بين الكفين، والسخط العاجز يتأجج في العينين، كبقايا نار تخبو. تسلم في صمت، تخجل أن يشغلنا شيء عنه، نريد أن ننفرد به، نرفض التسليم، مصطفى يأخذني من يدي، يدخلني معه في الكابوس؛ صباح الأمس كان في عمله، وهو عائد للبيت مع محمد، شعر برعشة، رغبة في القيء، غمر العرق وجهه، انتفض من البرد، صاحبه للبيت، طمأنه، دوار ويزول بعد الأكل والنوم، وعده بالزيارة مساء (نادرا ما كان يفعل، أهو الإلهام الأسود، النبوءة تخرج من قلب الفنان بلا وعي؟) وفي المساء - لم تكن الساعة قد جاوزت السابعة - تم كل شيء؛ انهار العالم، وسقطنا تحت الأنقاض. - وأين هو الآن؟ - يحضر الغسل، لم يتركه طوال الليل. - قبل أسبوعين كان عندي، إحدى زياراته التي أترقبها وأظل أشتاق إلى مفاجأتها الحلوة، يدخل مسكني المقهور المعتم دخول الغزاة، يسبقه الصوت الخشن المشروخ يجلجل ويهلل: أهوه! نائم أم صاح؟ دائما نزعجك! وأحس بأن جيوش الفرح تزاحمني، تدفعني، تضيء ألف مصباح في القبو المظلم، يهتف: أزعجنا صومعة الحكمة. أضحك: سمعت صوتك فانتحرت من ثالث دور! أتمنى ألا ترجع أبدا. الحكمة ليل، موت، قبر أحمله حيث ذهبت. نضحك ونضحك. أنظر في عينيه ولا أشبع، أقول لنفسي: هل أستحق كل هذا الحب؟ نصنع الشاي، يمد يده بنفرتيتي، يقول لا بد أن أصالحك عليها، أشير له إلى صورتها على الحائط المقابل؛ الملكة أعبدها، أما السيجارة فألعنها، كادت أن تسبب لي سرطان الحلق. نتكلم ونتكلم. أطلب منه أن نبتعد عن النقد، ألعن نقاد العالم فيضحك، ألح عليه أن يقرأ لي شيئا لم ينشر. لم يفعل هذا قط، يمنعه الخجل الفطري. ألح مرة ومرات. تطلع لي في يأس، يتردد أن يخيب أملي، يمد أصابعه إلى جيبه ليخرج ورقة مطوية. أغمض جفني وأتهيأ لاستقبال النسمة الرطبة التي تنعش التائه في صحراء.

حادث. لم ترفرف نحوي الآن هذه القصة الصغيرة الزرقاء؟ ألأني أنظر فأرى محطة الأوتوبيس القريبة؟ أكان يقف عليها الرجل الأسمر الطويل في جلبابه الناصع الكشمير؟ يشمر كم جلبابه من حين إلى حين ليمسح حبات العرق المتصبب على جبينه ووجهه، ينتظر في الزحام مكانا في عربة، يتدافع الرجال والنساء والأطفال وتتدافع العربات، وهو واقف في مكانه يمسح عرقه المتصبب، على صدغه وشم أخضر لأسد أخضر، فوق ذراعه أبو زيد الهلالي فوق حصان أخضر شاهرا سيفا أخضر، تراقبه فتاة سمينة بيضاء، وسط الزحام يتهاوى على الطوار، يتمدد جثة. يتقدم شاب يفتح صداره الأسود، ينفخ في فمه، يتحسس نبضه، يكشف عن سيف بن ذي يزن يركب حصانا أخضر ويشهر سيفا أخضر يشطر به فارسا آخر فوق حصانه، الحصانان والسيفان خضر، وعيون الأسد وأبي زيد وسيف والفارس المشطور نصفين تلمع بالدهشة قبل أن تغطيها الجريدة، والجثة ترقد وحيدة فوق الطوار، تحت شمس أغسطس اللافحة، وسط العربات والخلق المتزاحمين. والصديق الأسمر في البيت يحملك على صدره، يصب عليك الماء الأخير، وعربات الحياة والأدب تمضي ولا تتوقف؛ أهي النبوءة؟ هل كانت تتربص بأصابعك، تحرك سن القلم؟

أتعرف على بعضهم، أذكر أنني رأيت أحدهم مرة، أحاول أن أتذكر، في إحدى دور المجلات أو في ندوة كانت تعقد في كازينو على النيل، ربما قرأت له أيضا، ليته لا يسألني! أقف بجوار شاب يبكي بكاء مريرا، أمد يدي وأربت كتفه، أقول كلاما لا أسمعه ولا أدريه، لم يخرج مني بل من عقل جمعي موروث، أنظر في عينيه المحمرتين كالدم، أحس انتفاضة دمعة وشيكة، أحاول أن أهدئه، أن أعزيه. هذا الوجه الطيب المجد قبل الأوان، الملامح الريفية الدافئة، جيل الفقر والتمرد والبحث عن الانتماء؛ يكلمني من خلال الدموع كأنه يعرفني. أخجل أن أسأله عن اسمه، أخجل من تقصيري في حقه، أشعر شعورا غامضا أنني متطفل أو غريب. هو وحده الذي كان يجمعني بهم، هو وحده الذي نبهني من سباتي الأكاديمي إلى جهودهم، هل أستحق معاملتهم لي؟ تأتي عربة «فيات» يجلس فيها ثلاثة. خمنت أن السائق هو رئيسه في العمل. كلمه الناقد الصديق وآخر لا أعرفه. ترددت كلمات عن تصريح الدفن وإصابة العمل ومكافأة الشركة ومصاريف الجنازة والهبوط المفاجئ في القلب. ارتعشت تأملاتي الساكنة، اهتزت ربة الحكمة الجامدة: الحقيقة الدموية تنتقل من يد طبيب الصحة إلى يد الصراف. تدخل دفاتر الحسابات والمعاشات والمكافآت والإعانات، أتذكر أبياتا جاءت في إحدى قصصه:

الحلم وحده، بقوته العنيدة؛

يفتح الطريق الأخير.

وأنت ترقد الآن ومعك الحلم؛ معك وحدك، على حين يتلوى بين أيديهم ويفرك عينيه ويرفض أن يصحو على صوت الأعداد والأرقام. يعود مصطفى من البيت. أسأله عن الأولاد. صغار لا يعرفون؛ رباب تلعب على العربة السوداء، تشد التصادم الخلفي. صغار لا يعرفون؛ أكل وتقيأ ثم نام. قال لزوجته خذي الصغير للدكتور؛ حتى لا يوقظنا ليلة أخرى. بعد ربع ساعة عادت من عند الطبيب. الصغار يقفون على الباب ويبكون: تعالي شوفي بابا يا ماما. ممدد على الفراش كما تركته.

لم فعلت هذا؟ لم تركتنا؟

في الحادية عشرة تظهر العربة صاعدة على المنحدر؛ العربة السوداء! يرتفع نشيج الشاب الذي كنت أقف بجواره، ينخلع القلب ويشهق وتعاودني الأزمة الصدرية، يتبدد وعيي يتلاشى، يسقط في العدم الفاغر فاه، يحتضنني شاب طويل يضع رأسه على صدري وينفجر بالبكاء. إلهي! كل هذا الحب، كل هذا الوفاء، أضمه بشدة إلى صدري وأفكر: ما زالت الدنيا بخير، برغم كل شيء ما زالت بخير، البركة فيكم يا أولاد، عاش لكم ومات في سبيلكم. توزع العربات على الحاضرين، أشعر أنها لن تكفي. يشدني الصديق الأسمر لأركب. أقول له: أنت أولى مني. عينه كرة من الدم. يأمرني في غضب أن أركب. يقول مصطفى: إنه سهران طول الليل وعنده القلب. ودائما القلب أيها الأدباء، نتعبه ويتعبنا حتى نسقط. أنظر إلى العربة السوداء، الباب الخلفي موارب. يفهمني نبيل أن الشاب الممسك به هو شقيقه؛ وجه أبيض مستدير، شعر أسود كث، ممتلئ بعض الشيء. يفهمني أيضا أن عمه بجوار السائق. هو وحده الذي يعرف الطريق. يقول الشاب الطويل الذي لم أتنبه إليه إلا الآن: أمامنا ساعتان. يستطرد نبيل: وساعة حتى نخرج من المدينة الملعونة. يتقدم الموكب عربة صفراء في المقدمة، يكتشف صاحبها بعد مسافة قليلة أنه لا يعرف الطريق فيتراجع وراء العربة السوداء، ثم يتراجع وراء عربتنا بعد أن يتفاهم مع السائق على الطريق. أجلس على اليسار بجانب مصطفى ونبيل والشاب الطويل الذي لا أعرفه، أسأل عن صديقنا من السويس ، لا بد أنه تأخر في الطريق، أعرف من مصطفى أنه كلمه في السادسة صباحا. نردد خوفنا عليه من الصدمة؛ لكن لا يمكن أن تفوته الجنازة. سنراه في البلد بعد قليل. سيجد ألف طريقة وطريقة. يصمت نبيل ويدفن رأسه في يده، يردد آيات من القرآن، الحزن الهادئ على وجهه وفي عينيه، حمامة فزعت إلى عش الإيمان، الوجوم يفرش جناحه الأسود فوقنا، بين حين وحين تنفذ سهام الآيات لحم الصمت الأسود. مصطفى يضرب كفا بكف، يطلق اللجام لحصان التعجب الجاثم فوق صدورنا، يجري لسانه بنفس الحكاية: ليلة أول أمس كان عندي (هل ينتبه لصدمة «كان»؟) تعشينا وسهرنا طول الليل، أمس ذهب إلى مكتبه خرج مع محمد، في الطريق أحس برعشة، تصبب العرق. أسمع ولا أسمع، أغرز عيني في العربة السوداء التي تتقدمنا، ألاحظ الباب الموارب وأحاول تبين الوجوه في الداخل، أتوقف عن اللافتة الصفراء، أردد الرقم المكتوب بحروف سوداء: خمسة، ستة، أربعة. تتوه الأرقام وتتداخل وأعيد ترتيبها. أنظر للعجلات السود؛ للغبار المتصاعد منها، أرفع بصري للأشجار على الجانبين، أسأل: أهي أشجار كافور أو جزورين؟ يفهمني الشاب الأسمر الطويل عن الفرق بينهما. أرى صفصافة تميل بشعرها المتناثر على جانب الترعة، أقول هذه ندابة مملكة النبات، أتندم على ما قلت وأفكر في إيزيس وشعرها المنكوش على ماء النيل، أبعد أشلاء أوزوريس وأثبت عيني على سواد العربة السوداء. تبدأ رءوس الأحاديث تطل من جحورها. أتشاغل بالأشجار وأسلاك التليفون والعصافير الواقفة عليها وحقول البرسيم المنبسطة تحتها، والحمير والجاموس والبقر بعيونها الواسعة ونظراتها الهادئة السادرة في سعادتها المظلمة. وأنت وحدك؛ هل تسمعنا؟ هل تحس بنا؟ أين أنت؟

في أحد لقاءاتنا الأخيرة قلت له: أنتم جيل التفاصيل، أحس مما قرأت لك ولزملائك - وهو للأسف قليل - أنكم تشهدون على صدق العبارة الحديثة: الفن عين ترى وترصد. هل بعث فيكم الكاتب المصري القديم الذي ينقش حروفا ومقاطع على هيئة الحيوانات والنباتات والأشياء على ورقة بردي صفراء؟ هل تحبون فنان خان الخليلي - الذي أوشك أن ينقرض - وهو عاكف على طبقه أو مشربيته أو مشكاته بالصقل والتهذيب؟ تحددون كل شيء وتتابعون كل حركة وظل ولمعة ضوء، كل فعل ورد فعل، كل ارتعاشة ورقة أو نسمة أو خلجة. كنا نتكلم عن الأشياء وأنتم تتركون الأشياء تكون ثم تستدعي الكلمة والاسم، اللغة عندنا راع يسوق الأشياء، والأشياء عندكم ترعى اللغة، وتصبح القصة حشدا من التفاصيل، غابة من الأشياء، هل تعلمتم درس «الظاهريات» لنعد إلى الأشياء؟ أو أطلتم قراءة جرييه وساروت وبوتور؟ إنني أستمتع بهذه اللوحات المتشابكة بالخطوط والدوائر والألوان، والخرائط الهندسية الدقيقة للواقع، المفتت المنهار، والألحان المتقطعة المتعددة الأصوات والأماكن والأزمان؛ لكن لا أكتمك أنني أفتقد الإنسان، أخشى أن يكون قد أصبح شيئا بين الأشياء، مشجبا تعلق عليه أحواله وردود أفعاله.

قال: الإنسان عندكم هو المحور والمركز، أنتم رومانتيكيون مهما حاولتم الإنكار. أؤمن على كلامه، أقول عالمكم ليس فيه اختيار، يتساوى فيه التافه والهام؛ لكنه عالم محطم منهار، صحيح أن نظريات الجمال تؤكد هذا، الشعر والموسيقى والرسم والنحت والرواية تثبته وتبرره؛ لكنني غير مستريح، أتمنى أن نقرأ ونتعلم ونستفيد، ثم ننسى ما قرأناه كما علمنا نقادنا القدماء. إنني من جيل يقدم الشخص على الشيء، يرفض أن يصبح الأول مجرد أفعال وردود أفعال، يبقى على قيمته، يحاول أن ينقذه من كل ما يدمر إنسانيته، من كل ما يلغيه ويسيء إليه، خصوصا في مجتمعنا وأمام أعيننا، يرفض أيضا أن يتمدد الشيء على عرش الوجود، أن يصبح البطل الجديد والمنقذ الجديد؛ هل هذا لأن سم الرومانتيكية استشرى فينا ولم يعد منا شفاء؟ أو لارتباطنا - عن وعي أو غير وعي - بتراث روحي أقوى منا؟ تراث يؤمن بدور الفرد في التاريخ، وبينما أصبح العالم عندكم صحراء هائلة تتساوى فيها كل الأشياء، يتجول فيها شبح الإنسان الهائم على وجهه، باحثا عن ذات وهدف؟ اعترض على كلامي، قال إنني أناقض نفسي، أسقط في التعميم، إن أعمالا كثيرة له ولغيره تخرج عن هذا التعميم ، تكلمنا عن الشعر الحديث. أكدت له أن ما قلته عنه كان مجرد أداء واجب ثقافي. ضحك وقال: حيرتمونا معكم! قلت - وكنا بعد منتصف الليل نسير على الأقدام في طريقنا من زينهم إلى الجيزة - إننا نعيش في عالم مختل، متخلف، وأعمالنا تخرج من هذا العالم وتحاول أن تصوره؛ أبطالنا - إن صحت هذه التسمية - كلهم مرضى مثله، معظمهم مجانين أو مصابون بعقدة الذنب أو باحثون عن المستحيل أو هاربون، كلنا يحاول أن يهرب من هذا العالم إلى الأدب، إلى الماضي الأسطوري، إلى وحدتنا مع اللغة والأشياء؛ ولكن هروبنا نفسه يشير إلى أنه ليس هو الإنقاذ. لو سألتني وأين هو الطريق إليه لسكت؛ فليست وظيفة الكاتب تقديم الوصفات العملية، على القارئ أن يستشفها من بين السطور، وعليها أن تثيره وتوحي إليه وتحركه؛ كل ما أستطيع أن أقوله: علينا ألا ننفصل عن أهلنا، عن آلام بلدنا، لنجرب ونغامر ونخاطر في كل عمل، لتكن كل قصيدة وقصة ومسرحية مغامرة نحو المجهول ومقامرة اكتشاف، لتلجأ للرمز أو الطقس أو الأسطورة أو التاريخ، لتنصت لما يقوله فم الشعب أو ما تقوله أفواه النقاد والمنظرين؛ لكن لتذكر على الدوام أنها تنشأ في مجتمع متخلف، قد لا يحس بها ولا بنا، نحن نعلم أننا سنعيش منسيين ونموت منسيين، ليس في هذا شيء يحزن؛ المهم أن نحمل مجتمعنا البائس المتخلف في داخلنا. آه ما أفظع تخلفه! تكلمنا بعد ذلك عن صوفية الأشياء، عن شعر الجسد، عن موسيقى الأجسام والخطوط والدوائر والظلال والأضواء والألوان. تذكرت «سيدة الأزهار» و«بيت في الريح» و«النمر». ذكرنا «الركض تحت الشمس» و«رائحة الرماد» والدماء التي تسيل في قصص مستجاب. أكدت أنني تعلمت وأتعلم منها جميعا، وقبل أن نفترق على موعد طرحت السؤال الذي تردد في الظلام، أمام الباب ووسط نباح الكلاب: وأين نحن؟

تقف العربة فجأة وتقطع ذكرياتي، ينزل نبيل ليسأل عن الخبر، يعود بعد قليل ويقول: تهنا عن الطريق. ظن السائق أن العم يعرف الطريق، كان عليه أن يسير في طريق بنها- الزقازيق . علينا الآن أن نرجع عشرة كيلومترات؛ يستدير الموكب، الشمس حارقة، والريح راكدة، والسماء والأشجار والأشياء غير مبالية. غضب سائق العربة السوداء ووجه اللوم للعم والأقرباء؛ لكن حرمة الموت تجبره على المسير. هو أيضا لم يكن يزور البلد إلا قليلا، كانت آخر مرة عندما ماتت أمه. والأب؟ يجيبني مصطفى ونبيل: عجوز على المعاش؛ كان معلما فرئيسا لمديرية التعليم، لم تكن العلاقة بينهما دائما على ما يرام. أفكر في الصراع الأبدي بين الأجيال، في أن معظم الأدباء عانوا من آبائهم وأحبوا أمهاتهم، يصرون دائما أن يكونوا هاملت أو أوديب. أستحضر وجه أبي الصارم وأترحم عليه، أحن إلى أمي وأترحم عليها. نعبر جسرا ثم نخترق مدينة صغيرة، نلاحظ أن اليوم هو يوم السوق، النساء بملابسهن السوداء يفترشن الأرض تحت خيام منصوبة من الخيش وأمامهن البرتقال والبطاطس والكرنب والبصل، والتجار يفردون أمامهم أثواب الدمور والكستور والدبلان، يتوقف الجميع ويتركون ما في أيديهم، وترتفع الأيدي بالشهادتين، ويقف الرجال والأطفال خاشعين؛ بلدة تقدس الموت وتعرف حرمته أرادت أن يقهره فقهرها وعاشته وعاشت فيه. نتفق على الإحساس بالعطش، فننزل من العربة ونرويه بأربع زجاجات كوكاكولا، يدخل اثنان منا إلى قهوة مجاورة ويختفيان لحظات وراء حاجز خشبي صغير، نرجع إلى العربة ونستأنف تأملاتنا العقيمة: كيف لا يكون هذا النظام والتنسيق دليلا على القدرة؟ كيف تكون المادة وحدها هي الأصل؟ - كيف لا يكون النظام والتنسيق دليلا على وجوده؟ (الدليل الكوزمولوجي المشهور: يا للملل!) - هل تستطيع المادة أن تفكر في نفسها؟ - المادة جدلية. عليك أن تتعلم قوانين الجدل! - لكي يمكننا أن نتكلم عن المادة، لا بد أن يكون هناك شيء غير المادة. - أنتبه لهذه النقطة؛ إنها في غاية الأهمية. - الإنسان «ميكانزم»، وعندما يختل يموت. - أهكذا بلا هدف ولا معنى؟ ادرس أصغر خلية حية. - ادرس الأميبا، وستعرف أن وراءها قدرة حكيمة. - أنا لا أومن إلا بالعلم، كل ما عداه خرافات وأوهام، مجرد عزاء. - ومن قال لك إن العلم ضد الدين؟ كل حقيقة علمية تشير إلى بحر مجهول من الحقائق التي لم تكتشف بعد. - سيأتي اليوم الذي تكتشف فيه، علينا أن نؤمن بالعلم، يومها يتغير العالم ويسعد الإنسان، لم ينشأ الدين إلا عن الخوف. - حتى لو عرفنا كل الأسرار وهذا مستحيل؛ فلن يتوقف بحثنا عن الله. - وما حاجتنا إليه؟ سيكتسب الإنسان الثقة بنفسه، سيصبح هو الإله الجديد. - أستغفر الله! وهل سيمكنه التغلب على الموت؟ - وهل هذه مشكلة؟ - بل هي المشكلة، اتعظ واستغفر الله! - لن يكون الموت مشكلة لو عاش الناس سعداء، الحياة الآن هي المشكلة. - وحدوا الله. العربة وقفت من جديد.

ننظر من النوافذ الزجاجية؛ العربة توقفت أمام كشك على اليسار، يخرج منه شاب طويل في ملابس الشرطة العسكرية، يحيي باحترام ويشير بيده اليسرى إلى الطريق. يتطلع فلاح عجوز يجر بقرته، يرفع سبابته بالشهادة وتتمتم شفتاه. تتطلع عينا البقرة فينا؛ عينان واسعتان صافيتان. تمضي العربة، لا بد أنه هو الطريق الصحيح. نندفع بعيدا عن الأسفلت، على طريق مترب مليء بالمطبات، مواز للترعة الواسعة على اليمين، وتلال الرمل المتعرجة على اليسار. - الإيمان هو الحل الوحيد؛ إيمان العجائز لا الفلاسفة. - إما أن يكون الإنسان مؤمنا أو لا يكون، كل الأدلة ثبت فشلها، ولكل دليل دليل مضاد. - العقل محدود؛ فكيف يسمح لنفسه بالتفكير فيما لا يعرف الحدود؟ - نحن جميعا نوصل بعضنا؛ أوتوبيس ينزل منه ركاب ويطلع ركاب.

يضحك المادي على هذا التشبيه. ينهره نبيل وينبهه إلى العربة السوداء، يقول وهو يغمض عينيه: الله يرحمه. يسأل أحدنا: إذا لم يكن هذا هو الدليل على وجوده فأين الدليل؟ يرد آخر: الموت حق؛ لكن الفراق أليم. يستطرد نبيل: النبي نفسه بكى على فراق ولده إبراهيم. نصلي عليه ونسلم، نشعر بالخجل من ثرثرتنا فنلوذ بالصمت. أضع رأسي بين يدي وأستغفر، أحس شيئا يجيش في صدري؛ ذكريات قديمة ترتفع أمواجها، أتنفس بعمق وأنظر من النافذة؛ صبية عائدون من المدرسة، يقفون على جانب الطريق ويتأملون الموكب البطيء، ترن ضحكات، ينحني بعضهم ليلتقط حجرا ويكوم قبضته، تقع عيناه على العربة السوداء فترتخي ذراعه إلى جانبه وتنفتح قبضته عن زلطة وكومة رمل. أتصفح الوجوه الذابلة والأجسام الهزيلة التي برتها الديدان وفقر الدم. يتشجع أحدهم ويهتف وهو يضحك ويضيق عينيه من وهج الشمس: على فين؟! أيها الشقي! ألا تعرف حتى الآن؟ أتأمل الصبي الواقف في مريلته الصفراء وشريطه الأحمر المتدلي على صدره وحذائه الذي يبدو أضخم من قدميه، لا أدري لماذا تمنيت لو أصرخ فيه: أيها المهرج الصغير، ألا تعرف الفرق بين عربة الموتى وعربة السيرك؟!

تفاجئني صورة طفل آخر، أحب من قابلته في قصصه ورواياته؛ طفل تلاعبه جماعة من المهرجين البائسين. لن أنسى أبدا لاعب البيانولا الطويل. هل قلت قصة؟ الكلمة لا تصلح تماما؛ هي رفة حلم، همسة اغتراب في العالم الكبير، مع المغتربين الوحيدين الذين يسمعون قلبه، يفهمون مأساته ويضحكون عليها ويضحكون غيرهم، ثم يمضون وأعينهم دموع.

هنا أيضا العناية بالتفاصيل والأشياء؛ لكن الأشياء تنبض شعرا، يضع الكاتب «سماعته» على صدورها ويحس أنفاسها وأوجاعها.

إنه لا يكتب أو يتكلم عنها، بل يتركها تكون، تصبح اللوحة قطعة قماش مطرزة بعناية وحب، تدعوك لتشارك أيضا في نقشها وتطريزها، لا مشكلة ولا حل، لا بداية ولا نهاية؛ فالبداية تبدأ قبل البدء، والنهاية لا تنتهي عند الختام. دوامة صغيرة تثير في النفس غبارا أو رذاذا، بقية حلم تعلق بالجفنين وتدعو لمزيد من الحلم. أعدنا قراءة مقدمة القصة، حاول أن يمنعني، أن يعتذر ويغضي عنها (يندر أن يعرف فنان حق قيمة عمله، يندر أن يتبجح به أو يتاجر فيه)، أتذكر حياء تشيخوف وتواضع كافكا:

فكان أن قادني الإسكافي العجوز الأصم ممسكا بيدي اليمنى، حاملا مصباحا صغيرا في يده اليسرى، ترتجف شفتاه، وتهتز التجاعيد حول عينيه وأعلى جبهته؛ فوجدت أبي ممددا أسفل السلم، وجهه ناحية الأرض، ويداه إلى الأمام مقلوبتان. وترك الإسكافي العجوز المصباح الصغير إلى جانب رأس أبي، فرأيت طبقة من الغبار فوق رأسه وظهره. أعدت يده اليمنى إلى جانبه، وحاولت أن أدير وجهه إلى أعلى فرأيت طابورا من النحل ينحدر فوق عنقه ويتجه نحو صدره.

1

حدثته عن صورة طابور النمل التي لا تبرح المخيلة، عن قدرة الفنان تتجلى في مثل هذه الصور، فتلازمنا طول العمر (من يدري؟ قد تصحبنا حتى القبر). أخذنا في الكلام عن كافكا وكوابيسه وتفاصيلها الواقعية؛ فرقنا بين الحلم الصافي البريء وبين الكابوس، عن التوازن هنا بين البناء والدفء، بين التفاصيل والمعنى، بين الوعي المنبث في الأشياء والوعي المتسلط عليها. تكلمنا عن ضرورة تأديب اللغة؛ قهرها وإخراس مكبراتها المتخمة من آلاف السنين بالإيقاعات والكلشيهات والمحفوظات، بالرنين والضجيج والطنين. ذكرنا فضل أبينا الطيب صاحب العصا والقنديل، وضحكنا لهجومه الجبار على واو العطف والفواصل والعلامات والصفات. اتفقنا على ضرورة العلم، على أن الأديب في عصرنا هو الأديب العالم، لا الكسول المتواكل على شياطين الشعر وربات الخيال وحمى الانفعالات. حذرته بشدة من كثرة القراءة في النقد والجمال، خشيت أن تطغى عليه وتحبس ذاته وراء قضبان الآخرين. تأملت وجهه المرهق واهتزازات تجاعيده حول الفم الصغير والعينين الواسعتين، سألت نفسي: أين رأيت كل هذه الطيبة والحب، ممزوجة بالجدية والأمانة والقلق؟ لم تلبث الابتسامة أن اتسعت كالدوامة وجلجلت بالضحكة الرجولية الخشنة، التي اختنقت في سحب الدخان وتعثرت في سعال مشروخ حاد. سألت نفسي كما سألتها مرات: لم كل هذا العذاب؟! لمن؟! أغمضت جفني لحظة: كم نحن وحيدون!

نقترب من البلدة، تلوح بيوتها الطينية من بعيد ومئذنة جامعها كسلم أبيض صاعد للسماء. نعبر جسرا حجريا بسورين خشبيين، أنظر إلى أسفل وأعد سبع إوزات تنساب على سطح الترعة العكر. العربات تثير وراءها عاصفة من الغبار، والقرية كأنها خالية من السكان. نتجه نحو طريق ضيق بين صفين من البيوت، جدرانها عالية مائلة بانحناء إلى أعلى، كأسوار قلعة مهجورة. لا بد أن أحدا لمح العربة السوداء، في البداية يفزع كلب أصفر من اليسار ويمرق إلى الحارة، يتبعه صبيان بجلباب وبيجامة، وخلفهم معزة تريد أن تتبعهم ثم تتردد عند رؤية العربات وتقف على الناصية، ألاحظ وجهها المستطيل وأنفها السامي وعينيها المتفحمتين. ينطلق صوات من امرأة تقف أمام باب البيت الأول إلى اليمين، يتردد صوات أعلى من سقف البيت المجاور، ينبح الكلب، ترتد العنزة للوراء ، يجري شابان يتبعهما عجوز يشمر جلبابه الأزرق الذي لفه حول وسطه قادمين من ناحية الترعة، تتعالى عاصفة من الصوات مختلطة ببكاء امرأة تجري بمحاذاة عربتنا، يخرج رجال ونساء وفتيات وأولاد من الأزقة والحارات التي نمر بها، يسبقنا عشرات خرجوا فجأة من البيوت والدكاكين والأحواش ذات الأسوار الطينية الواطئة والحقول القريبة، تفتح الشبابيك وتطل النسوة ويشرن بأذرعهن وأيديهن، تشتعل البلدة التي كانت في الانتظار بحريق الأصوات السوداء؛ عويل من الأسطح والنوافذ، أبواب تفتح وترد بعنف، رجال يتنادون وأطفال يفركون عيونهم ويجرون. ننعطف يمينا ثم يسارا، نرجع للطريق الضيق الطويل. مع كل خطوة تهرول أقدام وتولول أصوات وترتفع أصابع بالشهادتين، ويختلط الوجوم بالغبار بالصياح بالتشنج المكتوم. يبدو جامع آخر. نتقدم نحوه، يتضح بابه المفتوح وواجهته المطلية باللونين البني والأبيض في مستطيلات متوازية. تتوقف العربات، يشتد الزحام، يخرج شيوخ من الجامع ويدخلون، تحتشد نساء تجرجر السواد بجانب العربة السوداء، يشير لهن الرجال فيتكومن إلى اليمين قليلا، يتعالى صوت امرأة: يا ابن عمي يا حبيبي. يتعاون الرجال على إخراج الخشبة من العربة، يتزاحمون، نتقدم إلى داخل الجامع، رجل عجوز ترتعش يده اليمنى ويلتهب وجهه الأبيض المحمر وذقنه الكثة تحت وهج الحر، يحاول أن يشق طريقه بصعوبة. يحيط به ثلاثة رجال بثياب بيضاء يمنعونه ويسندونه. أعرف من صوت بجانبي أنه أبوه، عرفت منذ قليل من المرأة التي تجلس الآن ورائي على قاعدة حجرية أنه كان هنا آخر مرة في مأتم أمه. يلتف حولي نبيل ومصطفى. تكف المرأة عن الصياح وتبدأ في نشيج متقطع تجاهد أن تكتمه. أعرف أنها جدته، أسمعها ورائي تردد: ليتني كنت أنا.

يرتفع نشيج في صدري، يتحشرج في حنجرتي، ينهمر من عيني. يد تربت ظهري، صوت يدعوني أن أصبر. تخرج الخشبة من الجامع، يلمع فوقها غطاء حريري بنفسجي يعكس ضوء الشمس. العيون محمرة، الأصوات تأمرنا أن نوحد الله، النساء التي تقف كسرب من الغربان المذبوحة يتعالى صياحهن، الزوجة في الوسط، يبدو جانب وجهها المحمر مشوبا بالزرقة، كتمثال منحوت من السواد، تسندها فتاتان متسربلتان بالسواد. مصطفى يجفف دموعه ويلوم الراقد في الخشبة التي بدأت تتحرك: أهكذا تتركنا؟ يلتفت للعجوز التي تنشج ورائي؛ جدته لأمه تجاوزت المائة. أنظر إلى وجهها؛ مكرمش كالخرشوفة، تتجمع وتسير وراء النعش، العجوز تتحامل على نفسها، لا تزال تنشج. أجفف عيني وأضع المنديل في جيبي، أخرجه وأمسح زجاج النظارة. «أنظر؛ مكرمشة كالخرشوفة، يا رب لا أعترض عليك».

نمضي وراء النعش، يخفق ويتمايل كقارب غريق يحمله صيادون متعبون، كعلم منكس فوق جيش مهزوم. يتبادل الرجال وضع الأذرع الخشبية الممتدة على أكتافهم، ومن لا يجد مكانا يريح كفه على النعش أو يجري بمحاذاته منتظرا دوره. فتيان وشباب وعجائز جاءوا يودعون ابن قريتهم الغائب عنهم هناك، كلهم أبوه أو أخوه أو ابنه، لم يروه إلا من سنوات عندما جاء يودع أمه، ربما لم يره أغلبهم مرة واحدة؛ لكنهم يعرفون أنه هناك، تأتيهم أخباره فيطمئنون، ربما يسمع الآباء من أبنائهم أنه يكتب، أنه ينشر كتبا باسمه، يحسون إحساسا غامضا أنه معهم يتزاحم الركب، نسير مطأطئي الرءوس، أيدينا متشابكة خلف ظهورنا، والطرق الضيقة المتربة تتلوى وتستقيم، تتفرق وتلتئم، ينضم إليها من الحواري والمنعطفات رجال وصبية جدد، تنطلق الصيحات وتختلط بالتكبير والنشيج والحسرات والتمتمات. أسمع دقات منتظمة من بعيد، ترتفع شيئا فشيئا، تبدو مع الخطوات الزاحفة كإيقاع طبول زنجية تخرج من أعماق غابة كثيفة، تقترب الدقات وتعلو، تصيح كشهيق مخنوق، تطالعنا من الطريق الطويل الموازي للترعة ساحة رحبة، تلوح القبور المتفرقة الراقدة فوقها كطيور سوداء منكفئة على نفسها. أرفع رأسي وأنظر للبيوت الكبيرة المحيطة بالساحة، ألاحظ جدرانها العالية المائلة بانحناء إلى أعلى وأتذكر معمار المعبد الفرعوني، أتأمل الأبواب والنوافذ المستطيلة الضيقة في أعلاها، والأسوار الواطئة المحيطة بأحواشها، ألاحظ التصاق البيوت ببعضها، كأنها كتلة ثقيلة سوداء يسكنها كيان واحد وروح واحد. تقترب الدقات وتعلو، أنظر يمينا فأتبين طاحونة ترتفع فوقها مدخنة، الموكب يتقدم نحو الساحة الأخيرة تصاحبه الشهقات المبحوحة. يتوقف الناس في داخل الطاحونة، ترتخي أذرعهم بجانبهم وتبدو وجوههم المعفرة بالدقيق. ترتفع أيد بالشهادتين، وينطلق صوات لا أتبين مصدره. تدخل الساحة الرملية وتطالعنا القبور المتناثرة على التلال الرملية الصغيرة. تسرع من اليمين جماعة ألاحظ بينها شيخين يجريان ليسبقا النعش، وراءهما ثلاثة بجلاليبهم الزرقاء، حفاة في أيديهم معاول. تنزل الخشبة على الأرض أمام قبر ممدد باستطالة يعلوه شاهد مرتفع ينتهي بكرة من الطين كرأس طائر أسود. يتنادى الرجال وينحنون على الأرض، تنهال المعاول وترتفع كومة الرمال على الجانبين، تتجمع إلى الخلف قليلا، حول قبرين متباعدين، ونسند الأب ليجلس على أحدهما؛ عيناه محمرتان وفمه ملتو ويده اليمنى ترتعش باستمرار. النساء تحلقن بعيدا إلى اليسار، الصوات تحول إلى نشيح متقطع، وعبارات الصبر و«كلنا لها» و«الأمر لله» ترسم الانكسار والاستسلام على الملامح والعيون. ألاحظ أن طريقة الدفن هنا مختلفة عنها في بلدنا، إن شكل القبر وطبيعة الأرض مختلفة، يغيب الجثمان وتهال أكوام التراب؛ التراب ودائما التراب. قلت لي إنك تتوثب لقفزة جديدة، خمنت أنك تستعد لعمل جديد؛ لإتمام ثلاثيتك، وأنت أمامي تقفز إلى القبر؛ هل جاءت الأحلام والأفكار والأحداث والشخصيات معك؟ ماذا يجدي كل عزاء البشر أمام القبر؟ ومئات الكتب والمذاهب والنظريات أمام التراب؟ يقف رجل نحيل طويل، بجلباب أبيض ورأس عارية وراء القبر، يخطب بصوت هادئ: «يا عبد الله وابن عبد الله، تثبت تثبت، كل نفس ذائقة الموت، وما تدري نفس بأي أرض تموت، تثبت تثبت، سبحان من خلقك من تراب ويعيدك للتراب ويبعثك يوم الحساب، اللهم ... اللهم ...» يصطف الأهل لتقبل العزاء. يتعالى نشيج الطبل من الطاحونة. يتنادى رجال وتعول نساء ويسارع شبان ليسندوا العجائز. تتصافح الأيدي وتتمتم الشفاه وتلتئم جماعات في طريق العودة.

والطقوس تكلمنا عنها في أكثر من لقاء، ما من عمل فني إلا ويقوم على طقس أو يبعث طقسا، وذكرنا العجوز والبحر وموبي ديك وزيارة السيدة العجوز والشحاذ والطريق، ونصحتني بقراءة «الأشياء تتداعى»؛ ألوم نفسي لأني لم أقرأها حتى الآن، وتحدثنا عن «مأساة العصر الجميل» و«الحديقة»، عن العجوز الصماء البكماء التي تتسلط كآلهة قدر قاسية. هو وهي يتحدثان عنها باستمرار، يسترضيها ويقدم لها القرابين ، ويعترف بقوتها الغاشمة ويثور عليها، وهي مشلولة في محبسها وعلى عجلتها، تتأمل انعكاساتها على المرايا المحيطة بها، تتلذذ بعبادة نفسها واستعباد غيرها. والإنسان لا يفعل شيئا إلا التخلص من فضلاته وقاذوراته وقراءة الجريدة مرة بعد مرة، كأنها مواثيق وصية قديمة أو نصوص عقد مقدس، يقاوم السقوط والوحدة والذل وثقل الأوهام ويكتشف خداع الآلهة المتسلطة. أوثان ترزح فوق ضمير الإنسان، تحيا في داخله وتحاصره، وارتجف من الحصار الفظيع، والجو القاتم، والجرأة والطموح الذي تجاوزت فيه بيكيت. وأطلب منك أن تحولها مسرحية، ونضحك ونحن نتخيل «هو» قائما قاعدا على الجردل، ولا نتخيل مسرحا يقدمه ولا متفرجا يشاهده! ونتكلم عن «الحديقة»، تصارع ثلاثة أجيال لتحقق عليها حلمها القديم؛ حلم الأسرة والبشرية بالفردوس المفقود. ونعاين الواقع الذي تمتد جذوره في الأسطورة والحلم، والواقع الذي يجاهد دائما ليصبح هو الأسطورة والحلم. يا حبيبي، وأنا أتركك الآن تمد جذورك كي تزدهر حديقتك، أسأل نفسي وسط تراب الموت: أين الواقع، أين الحلم؟

في القرية يتنافس الرجال على دعوتنا، من البيوت تخرج فتيات يحملن فوق رءوسهن صواني نحاسية كبيرة. أتذكر مأتم أمي والصواني التي تأتي من الجيران. يحيط بنا رجل قصير، ميال للسمنة، في جلباب نظيف، تنضح الطيبة من وجهه الأبيض المستدير. يلتف حولنا أولاده بعد أن أقنعوا بقية الرجال. ندخل من باب واطئ ونمر في ممشى طويل إلى المنظرة المفتوحة، بعد قليل يدخل ابنان لم نرهما من قبل، يسلمان ويجلسان. يأتي صبي يحمل إبريقا وطستا، وننهض واحدا بعد الآخر ونغتسل. البقية في حياتكم، عظم الله أجركم، سعيكم مشكور. نلجأ لصخرة الإيمان ونقلب أعيننا في البحر المظلم بحثا عن شاطئ، تسرع أيدينا للأحجار المحفورة بالآيات المحفوظة ونلقيها فيه. تحضر أكواب الشاي فتمتد الأيدي ويدفأ الجوف وتنبت أشجار الحكمة. يبدأ شاب يجلس أمامي في سرد حكاية، وظل ابتسامة يتمدد على شفتيه ووجهه الناعم المريح. كلف ملاك الموت أن يقبض روح امرأة في الصحراء، ذهب إليها فوجدها ترضع طفلها، عز عليه أن يحرم الوليد من أمه، رجع واستعطف وبكى، هبط عليه الصوت الآمر أن يقبض روح الأم. فعل ونفذ قضاء الله؛ هل تدرون مصير الطفل؟ ربك لا ينسى أحدا؛ مرت قافلة كانت تعبر مصادفة، أخذوا الطفل وربوه، ويمر الزمن فيكبر هذا الطفل ويصبح ملكا، ويمر ملاك الموت فيعجب حين يراه على العرش، ويناجي الرب ويستغفره ويقر بذنبه، سبحانه جل وعلا، له حكمة خافية، لا يعرف أحد أين الخير وأين الشر. «لله الملك»، «وما تدري نفس»، «ولو كنتم في بروج مشيدة»، «سعيكم مشكور»، «لله الأمر». يحكي رب البيت عما رآه بنفسه عندما كان في زيارة طنطا، كان الأب العجوز قد اشتد عليه المرض وجاوز الثمانين، رقد على الفراش وطلب الكفن بنفسه، أحضره الابن كما أمر، وانتظر أسبوعا فأسبوعا، والعجوز يقاوم الموت كأنه زكام خفيف؛ هل تدرون ماذا حدث؟ يسقط الابن فجأة بالسكتة القلبية، ويلفونه في الكفن الذي اشتراه بنفسه. والأب؟ لا يزال الأب يعيش. لله الأمر، حكمته تخفى عنا، هل نملك إلا التسليم وطلب الستر؟ ويأتي الطعام على صينية صفراء كبيرة، ويقوم حوار: هل نجلس على الأرض أم نوضع على المائدة. نجلس على الأرض فوق الشلت والمخدات، يقول أحدنا: مرجعنا للأرض. نأكل ونشبع ويصب الماء على أيدينا، ونعود للجلوس على الكنب البلدي. ألمح جاري يخرج منديله ويجفف عينه، يتبعه شاب آخر. تمتد الأيدي فتربت الظهور والسيقان. أتذكر أوديسيوس ورفاقه الذين نجوا من كهف الوحش ذي العين الواحدة، بعد أن تجمعوا في سفينتهم وأكلوا وشبعوا، تذكروا رفاقهم الذين التهمهم الوحش فبكوا. أتذكر يوم تكلمنا عن الواقعية وتكلمنا عن هوميروس، أذكر عينيك الواسعتين الطيبتين، أخجل من هذا الصلح مع الموت، أغرق في الصمت، أتذكر نفسي ممدودا في مقبرة القرية. يربت جاري ساقي وينبهني أن قد أزف الوقت. أنهض وأسلم.

يفلت لسان أحدنا وهو يصافح صاحب البيت: فرصة سعيدة. تنغرز الشوكة في قلبي. نخرج من البيت ونتجه إلى العربات. أمد عيني إلى الساحة البعيدة، وأقول لنفسي: سقط الرجل الجاد.

في طريق العودة يسرع السائق قبل حلول الليل؛ العربة ترتج في المطبات، والشمس تابوت ذهبي ينحدر رويدا رويدا في حفرته السوداء. ندخن ونكرر ما قلناه ونفكر فيما سنفعل، ونستحضر صور الماضي القريب، ونكثر دون أن نشعر من استخدام فعل كان. يتكلم نبيل عن قدرته على التنبؤ، عن سهرته معه حتى وقت متأخر، أكثر مما فعل في أي ليلة سابقة، عن تأكيده بأنه سيموت في هذا العام، عن مداعبته لابنه كما لم يحدث من قبل، عن حرصه في الأيام الأخيرة على زيارة الأصدقاء والاطمئنان على المرضى، عن ضحكاته المجلجلة التي توقفها كالعادة كف توضع على الفم. ونتحدث عن الرسالة التي أداها، عن الأعمال التي أتمها ولم تر النور، عن مشروعاته ومسوداته، قراءاته وتجاربه، عن تجاهل النقاد وصمت الدارسين، عن جدوى كلمة صدق تسقط في بحر الزيف، عن عمر ضاع وراء البحث عن المجهول، عن صوت لم يسمعه الشعب.

توصلني العربة إلى البيت الذي أسكنه. نسلم ونتعانق ونفترق على موعد. أصعد السلم وأنظر إلى حذائي المعفر بتراب المقبرة، أفكر في التراب الذي سأكونه وأحذية المشيعين التي ستعفر به. يلتفت القلب إلى الحديقة الساكنة التي زرعنا فيها جسد الصديق. أفتح الباب وأقف عند الكرسي الذي جلس عليه آخر مرة، والجهاز الذي وضع عليه الأسطوانات، والكتب التي قلب فيها. أتسمع أصداء صوته، وأرى أمامي ملامح وجهه، وأصابع يديه والشعر الذي يكسوها، وتحدق في عيناه الواسعتان المتألمتان فأجفل، يتردد صوته في أذني وهو يسألني آخر مرة عما يشغلني، فأقول: تشغلني اللحظة. يدهشه قولي فأحدثه عن سر اللحظة؛ كيف تصورها الأسطورة في صورة رب شاب يهبط من جبل الأوليمب، يحمل سكينا في يمناه، وفي قدميه جناحان، من جبهته تتدلى خصلة شعر ذهبية، ومؤخرة الرأس صلعاء. من يلق اللحظة فليتقدم وليمسكها من خصلات الشعر، فلو فاتته فلن يقدر أن يمسكها أبدا، لو عبرت لن ترجع أبدا. تعجبه الصورة، يصمت، يضحك فأقول: انتهز اللحظة؛ إن جاءت لا تتردد، اكتب اكتب، لا تتركها تفلت منك فتندم، هذا ما أقول لنفسي. يستطرد: ولي أيضا. فأعترض قائلا: أنت أطعت اللحظة، عشت حياتك لحظة صدق، عشت بعمق . يسألني: وأنت؟ فأقول: لو كنت فعلت لما فكرت؛ فالفكر عدو الفعل، والعلم عدو الفن. يضحك، يتمنى لي أن أكتب قصة، فأقول: ستجيء اللحظة. أقول لنفسي وأنا أعبر الصالة وأقف في الطرقة: ليتك عشت وما جاءت هذه اللحظة. يفجؤني صوت الهاتف في الليل، أسمع صوت صديق يسأل: هل علمت؟ أقول: البقية في حياتك. يتهدج صوته: لا أستطيع أن أصدق، إنني أرتجف، أرتجف. هذه هي الكلمة المناسبة، ترتفع الموجة ويجيش الطوفان. أدفن رأسي بين يدي: رب، لم تركته؟ لم تركتنا؟ (1977م)

ناپیژندل شوی مخ

اصول - د اسلامي متنونو لپاره څیړنیز اوزار

اصول.اي آی د اوپنITI کورپس څخه زیات له 8,000 اسلامي متونو خدمت کوي. زموږ هدف دا دی چې په اسانۍ سره یې ولولئ، لټون وکړئ، او د کلاسیکي متونو د څیړلو کولو لپاره یې آسانه کړئ. لاندې ګډون وکړئ ترڅو میاشتني تازه معلومات په زموږ د کار په اړه ترلاسه کړئ.

© ۲۰۲۴ اصول.اي آی بنسټ. ټول حقوق خوندي دي.