إنه مع اعترافنا بأن محاولات التبسيط، لما هو بطبيعته غني بتفصيلاته، لا بد لها من التضحية ببعض جوانب الموقف على حقيقته؛ لكي تظفر بتوصيل وصف تقريبي لذلك الموقف أقصى ما يطمع فيه هو أن تجيء المنفعة المرجوة أكثر من الضرر الناتج عن تقديم الحقيقة منقوصة العناصر! نقول: إنه مع اعترافنا بذلك منذ البداية فلا سبيل أمامنا في تصوير الحركة الثقافية خلال فترة زمنية محددة وفي أمة واحدة من استخلاص الصورة العامة بعد طرح الجانب الأكثر من تفصيلاتها.
وعلى هذا الأساس أقدم صاحبنا على تحقيق رغبته في متابعة التيارات الثقافية خلال الخمسة القرون الأولى من التاريخ العربي بعد الإسلام، وكانت خطته التي رسمها لنفسه في تحقيق ذلك هي أن يسير على مراحل، كل مرحلة منها تمتد قرنا من الزمن بادئا من القرن الثامن «الثاني الهجري»، على اعتبار أن الفترة الإسلامية السابقة على ذلك التاريخ كانت هي الفترة التي نزلت فيها الرسالة، وتحققت خلالها امتدادات الرقعة الإسلامية فانتشرت العقيدة إيمانا بها، لكنها لم تكن قد وضعت بعد في مجالات البحوث العلمية التي تقام على أساسها، وإذا قلنا البحوث «العلمية» فقد قلنا بالتالي إنها بحوث تعتمد في مناهجها على منطق العقل في التحليل والتعليل والاستدلال.
وبنظرة الطائر عبر تلك القرون الأولى يمكن أن يقال عن القرن الثامن «الثاني الهجري» إن اهم ما شغل به علماؤه علوم أريد بها أساسا أن يزداد المؤمن فهما للكتاب الكريم، فبدهي - إذن - أن تكون علوم اللغة العربية بين ما يجتذب أقدر العقول على البحث العلمي في دقة منهجه؛ إذ هي علوم تنشأ لأول مرة: فمفردات اللغة تجمع، وشواهد معانيها تستقصى، وقواعد نحو اللغة وطرق الاشتقاق من مفرداتها تستنبط وتستقرأ من واقع استعمالها ... وهكذا.
ومع علوم اللغة في ذلك القرن قامت علوم أخرى خاصة بالعقيدة الدينية وشريعتها، فقام من يطلق عليهم اسم علماء «الكلام» و«الكلام هو كلام الله سبحانه وتعالى»، فوجهوا قدراتهم العقلية على التحليل نحو أفكار وردت في الكتاب الكريم يحتاج فهمها فهما يتسم بالدقة إلى تحليلها: كفكرة التوحيد، وفكرة العدل الإلهي، وفكرة الحرية أو الجبرية في كل «فعل» يفعله الإنسان ويكون مسئولا عنه يوم الحساب، وفكرة القضاء والقدر وهكذا، ولم يكن هؤلاء العلماء على رأي واحد فيما ينتهون إليه من نتائج؛ ولذلك فهم يتفرقون فرقا متباينة: ففرقة تعلي من شأن العقل وما يكشف عنه من حقائق المعاني وتلك هي جماعة المعتزلة، وفرقة أخرى أرادت أن تحد من المدى الذي يطلق للعقل فيه أن يكون صاحب الكلمة، فالأمر أولا وآخرا هو أمر عقيدة دينية يؤمن بها من يؤمن، وهكذا إلى جانب هاتين المجموعتين من العلماء - وأعني علماء اللغة وعلماء الكلام - ظهر فقهاء الشريعة، وظهر معهم علماء الحديث، وفي كلتا الحالتين رأينا ضروبا من المنهج العلمي: في التحقق من صدق القول وفي استخراج الأحكام، وإذا كان هذا النشاط العلمي المتعدد الفروع قد شهده القرن الثاني الهجري إذن فنحن على حق إذا زعمنا أن قد كان للعقل في تلك الفترة مكان الريادة.
وجاء القرن التاسع (الثالث الهجري) فكان أبرز ما تميز به من سابقه هو تلك الحركة الواسعة في نقل الثقافات الأخرى وأهمها ما نقل عن اليونان من فلسفة وعلم، ولا يفوتنا هنا أن نذكر بأن هؤلاء اليونان يومئذ كانوا هم «الغرب» من الناحية الثقافية، إذا جاز لنا أن نستخدم في هذا السياق مصطلحا مألوفا بيننا نحن عرب اليوم، وكذلك نقلوا عن فارس وعن الهند، وكان أهم ما نقلوه من تلك الجهة الشرقية «التصوف»، وكانت مصر مصدرا ثالثا إذ أخذوا عن الإسكندرية فلسفة وعلما، ولقد كان الأثر الذي أخذته حركة النقل عن الثقافات الأخرى أثرا واسع المدى عميق الغور في تلوين الثقافة العربية بعد ذلك بطابع جديد.
ظهر ذلك الطابع الجديد في ثقافة القرن الرابع الهجري وما بعده العاشر الميلادي وما بعده ظهورا واضحا، فهنالك ظهر الفلاسفة الأفذاذ كالفارابي وابن سينا! ولنلحظ هنا أنه لولا ما نقل من فلسفة اليونان لما ظهر هؤلاء؛ لأن محور الفلسفة عند الفلاسفة المسلمين كان بمثابة الحوار مع فلسفة اليونان حوارا يراد به معرفة الصلة اتفاقا أو اختلافا بين ما نزلت به رسالة الإسلام وما قد ورد في حكمة اليونان، وكان المتجه العام في هذا الصدد، وهو نفسه المتجه العام في أوروبا المسيحية إبان العصور الوسطى، هو أن ما آمن به المؤمن وحيا هو في جوهره ما سلمت به الفلسفة اليونانية برهانا عقليا، ويجيء في مقدمة ذلك وجود الله الخالق عز وجل؛ فهو عند اليونانية كشف عقلي يقوم عليه البرهان، وهو عند المؤمن تسليم بالقلب تسليما لا حاجة به لبراهين العقل تؤيده، وفي القرن الرابع الهجري أيضا ظهر نقد أدبي منهجي يقوم على تحليل النص المنقود - وهو شعر على الأغلب - تحليلا أدق ما يكون التحليل، وجدير بنا أن نذكر للقارئ في هذه المناسبة أن مثل هذا التحليل للمركبات اللفظية لاستخراج ما يبرر قيمته الأدبية هو نفسه أساس ما يسمى عند النقاد في الغرب المعاصر بالنقد الجديد، وما دام الأمر في النقد الأدبي أمر تحليل المركب إلى عناصره لكي يتاح الحكم، إذن فهو نقد أداته منطق العقل، ولا ينفي ذلك أن يكون الناقد ذواقة للشعر وغير الشعر من الإبداع الأدبي، لكنه جانب مضاف، ليس هو أساس الحكم النقدي في آخر المطاف، وكذلك شهد ذلك القرن الرابع نفسه فروعا من العلم تزدهر، وفي العلوم الرياضية بصفة خاصة، مما يؤكد لنا المتجه العقلي إبان تلك الفترة، ويجيء القرن الحادي عشر (الخامس الهجري) ليكون امتدادا لسيادة النزعة العقلية، ولنأخذ مثلنا هذه المرة من الأندلس، فهناك أصدر ابن طفيل مؤلفه الفريد «حي بن يقظان» ليروي به قصة من خياله عن رضيع يترك وحده في جزيرة ليس فيها بشر، وكل ما فيها حيوان ونبات وظواهر الطبيعة! وتتبنى الرضيع غزالة ترضعه حتى يستقيم على قدميه ويكبر الطفل ويشاهد الدنيا من حوله، ويفكر ويستدل، فإذا هو آخر الأمر - عن طريق عقله المحض - يدرك وجود الله سبحانه وتعالى، كما يدرك كذلك بحكم الضرورة العقلية مبادئ أساسية تتفق مع مبادئ الإسلام، ومغزى ذلك هو أن ما هو إسلام بالوحي يتضمن صفات تجعله مقبولا من منطق العقل، وهكذا نرى غلبة النزعة العقلية واضحة، على أن صاحبنا كانت له - بينه وبين نفسه - وقفة أمام «حي بن يقظان» وما انتهى إليه بقوة العقل وحدها، فقد تأمل الموقف وتدبره فأخذه كثير من الشك في أن تكون العملية العقلية كما تخيلها ابن طفيل ممكنة من حيث الأساس؛ لأن طفله الذي نشأ في الجزيرة وحده، إلا من صحبة الحيوان والنبات وظواهر الطبيعة، لم تكن له «لغة» وبغير اللغة تستحيل عملية التفكير، ولنذكر هنا أن الله سبحانه وتعالى لما خلق آدم لينسل البشر علمه الأسماء كلها، أي زوده بجهاز اللغة ليكون له ولأبنائه من بعده القدرة على التفكير.
كان ذلك هو الإطار العام الذي انتهى إليه صاحبنا من قراءته لكثير من أصول الثقافة العربية خلال القرون الأولى بعد الإسلام، وهو إطار جعل «العقل» العلمي دعامة من دعامتين أقيم عليهما البناء الثقافي كله، وأما الدعامة الأخرى فهي المضمون الوجداني الذي بثه الدين الجديد في قلوب المؤمنين، ولم يكن في تلك القلوب من مضمون وجداني فيه قابلية الدوام التاريخي إلا الشعر وما يقرب من الشعر! فماذا ينتج لنا عن هذه الحقيقة، إلا أن تنتج صورة للعربي في مقوماته الإدراكية الأصيلة وجوهرها هو: أن العربي قد جمع في كيانه عقلا ووجدانا يتكاملان معا في كل عملية إدراكية، ويتناسقان معا برغم اختصاص كل منهما بطريق ينفرد به دون زميله.
وهنا قد يساورنا تساؤل: أليس ذلك هو الكيان البشري في العربي وغير العربي على السواء؟ والإجابة هي نعم ولا: أما نعم فلأن الإنسان هو الإنسان من حيث الفطرة الأولى، لا شك في ذلك وأما «لا» فلأن تلك الفطرة الأولى تتعرض لبيئات مختلفة فتختلف النسبة بين ذينك الجانبين، فمحال أن يتكيف ساكن الصحراء لمحيطه بنفس الخصائص التي يتكيف بها ساكن الجبال في البلاد المثلوجة ببردها، وليس هنا موضع القول المفصل فيما تؤثر به البيئة المعينة في ساكنيها، وحسبنا في هذا الصدد أن نستمد شاهدا حاسما من التاريخ يشهد للعربي بالقدرتين معا متكاملتين متناسقتين على نحو لم يشهد به التاريخ لأمة أخرى، وأعني بذلك الشاهد التاريخي ما أسلفنا لك ذكره، من أن العربي قد نقل عن اليونان فلسفة وعلما (وهذا نتاج عقلي صرف) كما نقل في الوقت نفسه عن فارس والهند تصوفا (وهذا وجدان صرف) فكانت له المعدة التي تهضم الطرفين بقدرة متساوية في الحالتين، ثم كانت له الحياة الثقافية بعد ذلك التي أمكن أن تجري في شرايينها معقولات ووجدانيات يجدلان معا في الموقف الواحد حينا (كما نرى رجلا كأبي العلاء المعري) أو يطغى أحدهما على الآخر طغيانا يمحوه، حينا آخر (كما ترى في متصوف كالحلاج).
هذه القدرة المزدوجة التي نراها متمثلة في تاريخ الفكر العربي - والتي مكنت العربي من أن يكون مع العلماء عالما إذا أراد ومع المتصوفة متصوفا إذا أراد - هي التي تجعلنا نؤمن بأن ما ينقص الأمة العربية لكي تشارك في حضارة عصرنا العلمية التقنية الصناعية، هو أن تتحرك إرادة العربي نحو هذا الهدف، ولكنه لأمر ما وقف من ذلك الهدف موقف الرافض، مكتفيا من العلم الجديد وما يرتبط به من تقنيات وآلات، بل ومن نظم سياسية واجتماعية أحيانا، بما يأخذه عن الغرب مصنوعا ومجهزا ، والذي نريد إثباته هنا في هذا الصدد هو أن العلم ولواحقه، ومنطق العقل وما يقتضيه، ليس هو ما يجعل الغربي غربيا، وامتناعه يجعل العربي عربيا، وكل ما يطلب لكي يعبر العربي الحدود الفاصلة بين تخلف عن موكب العصر، وتقدم مع هذا الموكب في تقدمه، هو توعية وتنوير في حياتنا الثقافية نوضح بهما للناس سواد الأسود وبياض الأبيض، ثم نترك لهم الخيار بين ضعف وقوة، بين جهل وعلم بين تبعية وسيادة.
لكن الذي تتميز به الأمة العربية حقا، ولا احتفاظ بهويتها الأصيلة بغيره، صفات أخرى تستحق منا أيضا أن ندعو إلى ترسيخها وتقويتها بتوعية وتنوير، ومن تلك الصفات رؤية العربي النابعة من عمق كيانه للقيم على اختلافها أخلاقية وجمالية معا، على أنه لا بد لنا من الإسراع إلى تنبيه القارئ، قبل أن تأخذ منه أوهامه مأخذها، بأن الفرق بيننا وبين سوانا في ذلك ليس هو الفرق بين من يملك ومن لا يملك؛ إذ ما أكثر ما نسمع بأننا أمة تلتزم قيم الأخلاق بخلاف آخرين - والمقصود دائما هم أبناء الغرب - لا يأبهون أجاءت أعمالهم مقيدة بضوابط الأخلاق، أم انسابت كما شاء لها الهوى، وليس هذا صحيحا، فكل إنسان بلا استثناء مرتبط أمام ضميره بالتزام خلقي قد يتهاون فيه هذا أو ذاك من أفراد الناس، لكن ذلك المتهاون نفسه، شأنه شأن سائر الناس من حوله، يدرك أنه قد أخطأ سواء السبيل، لا ليس الفرق بيننا وبين هؤلاء الآخرين أننا أمة أخلاقية عن مبدأ وعقيدة، وهم لا أخلاقيون عن مبدأ وعقيدة كذلك، بل الفرق هو في تصورنا وتصورهم لمصدر الأوامر والنواهي في الحياة الأخلاقية ما هو، ومن اختلافنا عنهم في التصور تتفرع نتائج تتبدى آثارها في حياتنا وحياتهم، فبينما نحن على مبدأ وعلى عقيدة بأن تلك الأوامر والنواهي - في معظمها - قد نزلت إلينا وحيا إلهيا مع الوحي، وبذلك فقد أصبحت عندنا دينا من الدين، نجد الآخرين - أو قل أكثر هؤلاء الآخرين - يرون أوامر الأخلاق ونواهيها قد نبتت من أرض الخبرة على مر القرون، فقد دلت تلك الخبرة بشئون الحياة الدنيوية على أن كذا وكذا، حتى وإن تولد عنه نفع مباشر، فمصيره آخر الأمر أن يضر بالإنسان فردا وجماعة، وأن كيت وكيت من الأفعال تبين بعد خبرة بالحياة الواقعة أنها تنتهي آخر الأمر إلى نفع الإنسان فردا وجماعة، حتى وإن لحقها فور فعلها ضر وأذى، إذن فهي خبرة الإنسان بواقع الحياة، وليس وحيا من السماء ما قد علم الإنسان ماذا يعد فضيلة وماذا يعد رذيلة، ومع ذلك الفرق بيننا وبينهم في تصور المصدر، فالأرجح ألا ينعكس هذا الفرق على القيم الأخلاقية في ذاتها، فما هو فضيلة عندنا يعد فضيلة عندهم كذلك، وما هو رذيلة هنا رذيلة هناك، اللهم إلا ما يختص ببعض صور الحياة العملية نراها مقبولة عندنا مرفوضة عندهم أو العكس.
ناپیژندل شوی مخ