خدعنا أنفسنا بإيهامها بأننا كلما غرسنا في أرضنا فسيلة مجلوبة من نبات الغرب، ونمت الفسيلة شجرة نتفيأ ظلها ونجني ثمارها، بأننا متساوون مع باذر البذرة الأولى هناك، والبذرة الأولى تلك، إنما هي الإبداع الذي يبتكر الشيء مما يشبه العدم؛ لأن ما قد أبدعه الغرب في نهضته من عصوره الوسطى، كان لفتة جديدة نحو متجه جديد، هو أن يضيف إلى قراءة الموروث من كتب السابقين، قراءة أخرى هي قراءة الطبيعة لاستخراج قوانينها، فذلك شيء جديد، لا ينفي أن قد سبقته أمثلة من العلم الطبيعي متناثرة بين العصور والأمم، كما لا ينفي أن يكون للحضارات السابقة على النهضة الأوروبية فضل التنوير والإيحاء.
كانت هذه الخواطر وأمثالها هي التي تملأ في صاحبنا خلال تلك الأعوام رأسه وقلبه معا، فيتساءل إذا أصبح به صباح، ويتساءل إذا أمسى به مساء: أين يقع من حياتنا مكمن الداء الذي إذا ما رفعنا عنه جرثومة العلة شفيت حياتنا من عوامل تقصيرها الإبداعي وقصورها؟ وإنه ليذكر تلك الليلة التي عبر فيها المحيط الأطلنطي إلى الولايات المتحدة الأمريكية، مسافرا إليها ليقضي بجامعتين من جامعاتها عاما دراسيا، في كل جامعة منهما فصل دراسي، وذلك في حركة لتبادل الأساتذة عامئذ بين جامعة القاهرة وبين من يمثل الجامعات الأمريكية، وكان ذلك للعام الجامعي 53-54، نعم إنه ليذكر تلك الليلة التي عبرت به الطائرة المحيط، ونظر خلال زجاج النافذة بجواره، ليرى ذلك المنظر الآخذ بمجامع القلوب فتنة وروعة، فتحت الطائرة ما يشبه آفاقا ممتدة إلى غير نهاية في أي اتجاه أرسل البصر، كأنها فرشت بأكداس من قطن مندوف، هي أكداس سحب بيضاء سطع بياضها تحت ضوء القمر، وأسند صاحبنا رأسه إلى حشية لينة على ظهر مقعده الوثير، وانسابت في رأسه الخواطر بادئة بهمسة فيها حسرة، تقول: هنا يقع الفرق بينك - مخاطبا نفسه - وبين كرستوفر كولمبس حين عبر هذا المحيط للمرة الأولى في تاريخ الإنسان، وهو نفسه الفرق بين وقفتنا نحن من حضارة عصرنا، ووقفة من أبدعوها ويبدعونها، فبينما أنت - مخاطبا نفسه مرة أخرى - تعبر المحيط مستريحا فوق الوسائد والحشايا، يدار عليك الطعام في أوقاته، وتضبط لك درجة الدفء داخل الطائرة حتى لا ينال منك حر أو برد، وتنام ملء جفنيك إذا أحسست رغبة في نوم، وترسل البصر إلى السماء وقمرها المضيء وإلى بساط السحب التي فضضتها باللجين فضة القمر، كلما أحسست رغبة في سرحة الخلي الذي لا تشغل قلبه هموم السفر، فما غادرت بك الطائرة مطار القاهرة في موعد مضروب، سوف تصل بمشيئة الله إلى ختام رحلتها في موعد معلوم لك قبل أن تترك دارك في القاهرة، أقول بينما أنت على هذه الحال في عبورك للمحيط، تذكر كيف كانت الحال في رحلة ذلك الملاح وصحبه، عندما عبروا هذا المحيط بذاته منذ ثلاثة قرون ونصف القرن، فكلما شالت سفينته الشراعية موجة مفترسة أو حطتها موجة، وسوس له الشيطان بما عساه ملاقيه من موج أشد افتراسا، ماذا هو صانع لو طال به الطريق البحري المجهول، إذا ما فرغ زاده هو ورجاله من طعام وماء عذب؟ إن المرض لينال من رئات بحارته ومن الكلى، فمن تأخذ المنايا من تختاره منهم، يلقون بجثته في البحر بعد أن يجتمع له الرفاق الأحياء للصلاة والدعاء، قارن يا صاحبي - مخاطبا نفسه مرة ثالثة - رحلتك الرخية الرضية المستريحة، برحلة كولمبس في وقت كان اسم هذا المحيط في كتبنا «بحر الظلمات»، لتعلم يا صاحبي كم يكون الفرق بين من أبدع ومن جاء بعده لينعم بما قد أبدعه سواه، إننا نخدع أنفسنا بإيهامها بأنها ما دامت تملك المصابيح الكهربائية لتضيء لها فتزيح عنها سواد الليل، فقد أصبحت على درجة سواء مع من ابتكر تلك المصابيح، وما دامت تعرف كيف تزيل الصداع بقرص الأسبرين، فقد تساوت مع من ابتكر الأسبرين، وما دامت شفاه الناطقين من حولها تنطق بالحرية، وأقلام الكاتبين تكتبها، فقد باتت حرة كالذين كشفوا بالعلم بعض السر من ظواهر الكون، فسخروا تلك الظواهر تسخيرا بمقدار ما كشفوا عن سرها، إنها حرية الذين يعلمون، يقهرون بها ما كانت تفرضه عليهم سطوة الطبيعة من حوائل وعقبات.
هكذا كان صاحبنا يؤمن أشد ما يكون الإيمان، بأن قلوبنا التي ومضت بالأمس ومضات الحياة، وعقولنا التي نطقت على امتداد تاريخها بكلمات الحق لتسمع عنهم أرجاء الدنيا، قد ران عليها صدأ الوخم والخمول، فلا القلوب تنبض بالحياة كما نبضت، ولا العقول تنطق بالحق كما نطقت، وأصبح سؤالنا الأول والأهم هو: كيف السبيل لنصبح كما أمسينا؟ كيف يتبدل الوهم يقظة، والخمول حركة واعية ونشاطا يبدع ويبتكر؟ والجواب هو أنه لا بد لنا من عزمة الإرادة، فبالإرادة نغير ما ران على قلوبنا وعلى عقولنا، وبفضل الله يتغير لنا وجه الحياة فيبتسم بعد عبوس، ومفتاح ذلك كله هو أن نستبدل فكرا بفكر، وأن نغرس في ثقافتنا بذورا لتنمو وتورق، فنتحول من ثقافة قعود وسكون، إلى ثقافة انتفاض وحركة.
ليست ثقافة الفرد أو الشعب ضربا من ضروب الترف، إما أن تبقى فتبقى صورة الحياة معها براقة بوميضها مزدانة بحليها، وإما أن تزول فيزول عن الحياة بريقها وزينتها، لكنها مع ذلك تبقى حياة كلا، بل الثقافة هي نفسها محركات وموجهات للسلوك، فينشأ المواطن مزودا بما يجوز له أن يفعله وما لا يجوز، بما يراه جميلا وما يراه قبيحا، ينشأ مزودا بخطة عمل بنيت كلها على أساس مجموعة من القيم والمبادئ لا يطمئن الفرد ولا الرأي العام إلا إذا جاءت الأفعال محققة لتلك المبادئ والقيم، فالأمر في ذلك هو كما وصفه أبو العلاء المعري حين قال:
وينشأ ناشئ الفتيان منا
على ما كان عوده أبوه
ثم تأتي مبدعات الفن والأدب انعكاسا لما يسود بين الناس من ضروب التفاعل، وهو انعكاس يصطنع لنفسه لغة خاصة به، فلكل لون من ألوان الفن والأدب وسيطه الذي يتوسل به إلى إبداع ما استطاع إبداعه، وعلاقة الثقافة المبدعة فنا وأدبا، بالثقافة مطبقة في التعامل والتفاعل الواقعين بالفعل في حياة الناس، هي علاقة الشعاع الضوئي يمر بعدسة فينكسر مساره بزاوية تحددها طبيعة العدسة، وهكذا يتلقى الموسيقي أو الشاعر أو الروائي والمسرحي وأديب المقالة ما يتلقاه من خبرات حية تتوالى على سمعه وبصره وسائر حواسه، فإذا تسللت إلى دخيلة نفسه نفذت خلال تلك العدسة الباطنية الخاصة، ثم خرجت منها بما لا يمكن التنبؤ به قبل خروجه، إذ تخرج راضية أو غاضبة أو ما شاءت نفس المبدع الفنان أو الأديب؛ لذلك فقد تأتي منتجات الفنان أو الأديب تصويرا مرآويا لما كان تلقاه من مؤثرات، بعد صبها في القالب الفني الخاص، ولكنها كذلك قد تأتي متجاوزة عيوب الواقع الحاضر ونواقصه لتصور مستقبلا مرجوا يتخلص من أوجه القصور التي تعيب الحياة كما هي واقعة، على الصورة الفنية أو الأدبية، سواء أكانت تفعل فعل المرآة لما هو حادث، أم تفعل فعل المصباح في كشف الطريق إلى مستقبل يغير ما هو قائم، فإن طبيعة الفن والأدب تأبى إلا أن تجيء الغاية المنشودة مختفية في ثنايا القطعة الفنية أو الأدبية، اختفاء لا يزيح عنه الستار إلا ناقد مدرب قدير، أو من كانت عنده تلك الملكة الناقدة الفاحصة من جماعة المتلقين، فما إن يترك هذا الجانب الثقافي المبدع أثره في نفوس الناس، حتى يفعل فعله بما ينسجه شيئا فشيئا من حالة نفسية معينة وموجهة لحاملها نحو أن يسلك في الحياة سلوكا يتلاءم مع تلك الحالة، وإلا فكيف يبلغ الأمر بأمة بأسرها أن تشعلها ثورة حامية مطالبة بتغيير أوجه حياتها البغيضة، مدفوعة إلى ثورتها تلك بما أحدثته فيها منتجات الفن والأدب؟ فمن ذا ينكر نشوب الثورة الفرنسية في 1789 نتيجة مباشرة لحركة التنوير التي اضطلع بها أعلام الفكر والأدب إبان القرن الثامن عشر؟ من ذا ينكر قيام الثورة في روسيا سنة 1917 نتيجة مباشرة لما كتبه ونشره كارل ماركس ومؤيدوه؟ وهل جاءت ثورة مصر سنة 1919، ثم ثورتها سنة 1952 من فراغ؟ ألم يسبق كلا من الثورتين أقلام تكتب وفنون تعزف وتصور؟
ونعيد ما قلناه قبل هذا الاستطراد الشارح، وهو أن الثقافة بمعناها المبدع، من فن وأدب وفكر، ليست ترفا تزدان به الحسناء وكان يمكن لها ألا تفعل، بل الثقافة أداة فعل، أداة توجيه وتحريك، ما دامت ناتجا سويا، بمعنى أن يكون ناتجها في مختلف ميادينه مستلهما من غاية منشودة ومضمرة، ولنلحظ هنا أن بين الجمهور ومبدعي الثقافة جدلا يظل بين قطبيهما يروح ويغدو، فالجمهور يكمن في حناياه أمل يتمنى له أن يتحقق، وبين أفراد ذلك الجمهور طائفة موهوبة بما وضعه في أفرادها ربهم الذي خلقهم على قدرات، فيلقطون ما تضطرب به صدور الناس في أنين مبهم مكتوم، فيخرجونه آخر الأمر أنغاما معزوفة أو شعرا ناطقا، أو غيرهما من وسائل الإخراج في عالم الإبداع، فتعود الكرة مرتدة إلى قطبها الأول، حين يستقبل الجمهور صناعة الفنان والأديب ليجد فيها ما كان أحسه في نفسه ولم يجد وسيلة إلى إخراجه، وها هنا تزدوج الصورة عند الجمهور المتلقي، فإحدى الصورتين هو ما يحسه في دخيلة نفسه، وأما الصورة الثانية فهي ما يراه أو يسمعه معزوفا في الموسيقى أو في شعر الشاعر أو رواية الروائي، فإما أن يرى بين الصورتين تطابقا في الجوهر المضمون، وإما أن يرى بينهما اختلافا يدله على ما ينبغي تعديله وتقويمه من جوانب حياته كما هي قائمة، لكن الحياة الثقافية لشعب معين في فترة معينة، قد لا تكون على هذا الاستواء الذي يوحدها في غاية واحدة تبث في قنوات الإبداع، لكل قناة منها بلغتها الخاصة، وعندئذ تتعرج وتتقطع خطوط السير في الحركة الجدلية بين الجمهور من جهة ومبدعي الثقافة من جهة أخرى، إذ في هذه الحالة يصبح الشعب الواحد وكأنه عدة شعوب متخاصمة متناكرة في وطن واحد!
ومثل ذلك التعدد في الغايات بين فئات الشعب، وبالتالي تعدد الوسائل، هو ما رآه صاحبنا في أمته، ولم يخدعه أن يجد ذلك التعدد المتخاصم المتعارض قد اختفى وراء توحد جمع الشعب كله ليلتقي مع الضباط الأحرار فيما أرادوه من عدالة اجتماعية لا بد منها لكي تصان لكل مواطن كرامته على أرض وطنه، وإن تعددت صور العمل وتنوعت، فذلك المطلب الذي توحدت به فئات الجمهور وراء عنوانه، لم يلبث أن تشقق وتفرق عند التطبيق، وإذا لم يكن الأمر كذلك لما اضطر أولو الأمر أن يقسموا الراشدين العاملين من أبناء الوطن خمس فئات متمايزة، ثم اختصرت الخمس لتصبح من الوجهة العملية جماعتين: فالفلاحون والعمال في جماعة واحدة، و«الفئات» الثلاث الأخرى، وهي الجنود والمثقفون وأصحاب الرأسمالية الوطنية، في جماعة أخرى، وهو تقسيم له أهميته في صنع القرار؛ لأنه تقسيم يسري في كل هيئة يصدر عنها قرارات تمس الحياة العامة بوجه من الوجوه، وقد اشترط في ذلك التقسيم النيابي أن يكون للجماعة الأولى - جماعة الفلاحين والعمال - نصف المقاعد «على الأقل»، وهذا بعبارة أخرى معناه أن القرار أيا كان مجال تطبيقه هو ما يقرره الفلاحون والعمال، والذي يهمنا من هذا الآن هو نقطة واحدة نحن الآن بصدد الحديث عنها وعن آثارها، وهي أننا لم نكن من ناحية الحقيقة الواقعة، ومن ناحية التصور الرسمي عند القادة، شعبا واحدا في رؤيته، توحده غاية قصوى واحدة، يتبعها صالح عام واحد، بل كنا عدة فئات، ما يصلح لفئة منها قد لا يصلح للفئة الأخرى، فإذا تعارض الرأي بين الطرفين، كانت الأولوية لما يصلح للفلاحين والعمال.
فعلى أي أساس - إذن - ننسج المناخ الثقافي المتجانس، الذي تستقطبه غاية واحدة تجيء مضمرة في شتى المبدعات، ليتسنى لها أن تجد طريقها إلى الجمهور كافة، فيتوجه آخر الأمر نحو مستقبل متفق عليه؟ وإذا وضعنا هذا السؤال نفسه في صورة أبسط وأوضح، قلنا: ما هي صورة المواطن الجديد الذي نسعى إلى استحداثه بما نقدمه من عناصر ثقافية؟
ناپیژندل شوی مخ