وإننا لنود كل الود أن نعرف كيف كتب هيرودوت هذا العمل المتشعب؛ فهل دون ملاحظات أثناء سفره؟ هل أملى على عبد كان يرافقه في أسفاره؟ فقد كانت الكتابة باللغة اليونانية مسألة صعبة، بل وأصعب منها المراجعة، وكانت الكتب في واقع الأمر لفائف طويلة من البردي، وهو مادة غالية وغير عملية كانت تثني عن تأليف (أو شراء) أعمال طويلة ، وربما وضع «تاريخ هيرودوت» في ثلاثين لفافة من هذه اللفائف. أما المراجعة، فكانت تمثل عقبات لوجستية كبيرة، لكن هيرودوت في حالات كثيرة كان يعلق فيما يبدو على ردود الأفعال تجاه عمله، منوها مثلا إلى أن بعض الإغريق لم يقتنعوا بادعائه عقد دارا، قبل اعتلائه العرش، مناقشة بينه وبين اثنين آخرين من الفرس عن الفضائل النسبية للملكية والأوليجارشية والديمقراطية، لكنه يؤكد أن هذا الحديث دار حقيقة. وتوحي مثل هذه التعليقات الجانبية بأنه قرأ تجريبيا فقرات مختارة في مناسبات مختلفة، وكان على وعي باستقبال الناس المقولات المثيرة للجدل. ولم تكن فكرة وجود تاريخ معين «للنشر» مفهوما ذا معنى في عالم قلما كان المرء فيه يطيق شراء كتاب. وقد نشر بالفعل هذا العمل في نهاية المطاف، وكان ذلك على الأرجح قبل وفاة هيرودوت بزمن ليس بالطويل، لكن أجزاء منه على الأقل شهدت يقينا حياة حافلة بالإلقاء الشفهي قبل ذلك ببعض الوقت.
شكل 1-2: ينمو البردي في دلتا أوكافانغو في بوتسوانا كما ينمو في دلتا النيل.
2
إن العقبات الهائلة التي واجهها هيرودوت تجعل مشروعه أشد دهشة، فلم يكن ممن تفتر هممهم بسهولة، حيث توجز جملته الأولى برنامج عمل هائلا:
هذه بحوث هيرودوت الهاليكارناسوسي، كتبها لئلا تنسى مآثر البشر على مر الوقت، ولئلا تنسى المنجزات الرائعة والمذهلة التي اجترح بعضها الإغريق واجترح بعضها الآخر الأعاجم، وأخيرا لبيان أسباب النزاع بينهما.
بعبارة أخرى نقول إن دافع هيرودوت كان مزدوجا؛ تخليد ذكرى المآثر العظيمة، وبيان أسباب الحروب الفارسية. ونظرا لرغبة هيرودوت ألا يخمد ذكر الأشياء العظيمة، يردد ما كتبه هوميروس عن الأرستقراطيين في طروادة الذين حاربوا من أجل تخليد ذكراهم، وعندما يقود أوديسيوس هيئة من المبعوثين إلى خيمة أخيل في الإلياذة، يجد أخيل ممسكا بقيثارة ويترنم بأمجاد الرجال. لكن رؤية هيرودوت كانت أوسع؛ ذلك أنه سعى إلى تخليد ذكر الأبنية الفخمة والقبور الجليلة والعجائب الطبيعية بالإضافة إلى الأفعال، وكثير مما سعى إلى تخليد ذكره لم يكن من عمل الرجال، بل في الحقيقة من عمل النساء. وعلى الرغم من أن من خلفوه مباشرة لم يبدوا اهتماما بالنساء، فإن جهوده من زوايا أخرى كللت بالنجاح؛ ذلك أنه على الرغم من إشاراته العديدة التي تدل على أنه يفترض أن جمهوره إغريق (مثل «لن أصف البعير؛ لأن الإغريق يعرفون بالفعل هيئة البعير»)، فإن سعة اهتماماته وتعاطفه، وحساسيته تجاه كروب الحالة الإنسانية، أعطت عمله سعة نطاق، وزادت جاذبيته لدى القراء في عوالم ما كان ليحلم بها أبدا حتى هو نفسه، بانفتاحه على ما هو أجنبي. وليست وحدها أسطورة ثيرموبيلاي الخالدة - التي توظف في سياقات تتراوح بين تحرير اليونان من الهيمنة التركية إلى مقبرة فرنسية في فيتنام - التي ندين بها ل «تاريخ هيرودوت»؛ حيث سحرت حكايات مثل الأمازونيات، ومغامرات قمبيز في مصر ألباب الأثريين والمستكشفين، والروائيين والأنثروبولوجيين، على مر العصور.
لفت كتاب هيرودوت، الذي ترجم مرارا وتكرارا منذ عصر النهضة إلى يومنا هذا، انتباه الجغرافي الإنجليزي جيمس رينيل، الذي وضع - بالإضافة إلى عمله «نظام هيرودوت الجغرافي» (1800) - أول خريطة صحيحة على وجه التقريب للهند، بالإضافة إلى دراسات في جغرافية شمال أفريقيا، كذلك صاحب الكتاب المستكشف لاسلو أولماشي في الصحراء من العشرينيات حتى وفاته سنة 1951 (وشخصية أولماشي القصصية هي الشخصية المحورية في رواية «المريض الإنجليزي» للكاتب مايكل أونداتجي)، وأرشد هيرودوت المراسل الخارجي البولندي ريزارد كابوشنسكي الذي قاده عمله إلى السفر عبر الهند والسودان والكونغو وكمبوديا وأفغانستان ورانجون والصين، وألهم الصحفي البريطاني جستن ماروتسي كي يحزم حقيبة ويقتفي مسار هيرودوت، مستغلا هذه المناسبة ليقدم لنا تأملا حول عدم جدوى الحرب (ولينقل - مثلما فعل هيرودوت - ما سمعه من محاوريه، كتهديد سليمة إكرام الطريف بإطلاق النار على نفسها، في سياق إشارتها إلى ما تراه من ملل في مؤلف ثوسيديديس). وفي أكثر من موضع في هذا الكتاب، تعلق وجهات نظر هؤلاء «السائرين على خطى» هيرودوت على ما كان هيرودوت يفعله وما لم يكن يفعله في كتابه «تاريخ هيرودوت»، والحقيقة أنهم منخرطون في حوار لا مع هيرودوت فحسب، بل مع بعضهم بعضا. فكابوشنسكي يعتمد بشدة على أونداتجي، وفي كتاب ماروتسي نجد أن صديقته أنتيجوني تعنف كابوشنسكي لتصديه لهذا المؤرخ. فهي تقول إن رسالة هيرودوت هي:
معرفة حدود الحالة الإنسانية. فلا علاقة لها ب «لا تستغل الآخرين، وكن لطيفا معهم»، فهذا هراء ذو طابع إنساني مسيحي من كابوشنسكي؛ وسخيف جدا. يقول هيرودوت: كلا، لا تظن أنك ستكون سعيدا إلى الأبد، ولا تضع نفسك فوق الآلهة.
لكن هؤلاء السائرين على الخطى لن يجيبوا عن جميع الأسئلة التي أثيرت حول عمل هيرودوت، ومنها على سبيل المثال: ما مدى دقة تقارير هيرودوت المدهشة عن الكون المترامي الأطراف الذي تناوله في كتابه؟ وهذا سؤال سنعود إليه لاحقا.
هوامش
ناپیژندل شوی مخ