لا نعرف إلا تفاصيل قليلة عن حياة هيرودوت بعد طفولته في هاليكارناسوس. لقد تعرض على الأرجح للإبعاد في واحدة من موجات الحرب الأهلية التي اتسمت بها المدن الإغريقية، وأمضى جزءا كبيرا من حياته مترحلا في منفاه، وزار أثينا، ومات على الجانب المقابل من العالم الهيليني في مستعمرة ثوريوم الإغريقية في جنوب إيطاليا بعد سنة 430 بحين من الدهر، على الرغم من قول بعضهم إن وفاته كانت على الحافة الشمالية في مدينة بلا المقدونية. وتذكر المصادر اللاحقة أن اسم أبيه ليكسيس، وأمه درايو أو رويو أو ربما شيء مختلف بالكلية، الأهم من ذلك اسم شخص آخر من أقاربه (ربما عمه أو ابن عمه) هو الشاعر بانياسيس، الذي أشاد به بعض القراء (بعد موته فقط للأسف) وقالوا إنه لا يفوقه مكانة إلا هوميروس. كتب بانياسيس عن بدايات المدن الإغريقية في أيونيا - الاسم الذي كان يعرف به ساحل الأناضول الغربي - فجعل بذلك هيرودوت منتميا إلى عائلة أدبية، على الرغم من أنه كان يكتب شعرا، ومن ثم فلم يشكل إلا سابقة جزئية للعمل البارز الذي اضطلع به هيرودوت.
كانت هاليكارناسوس التي عاش فيها هيرودوت تقع عند ملتقى طرق الشرق والغرب، ويقطنها خليط من السكان الإغريق والسكان الأصليين، وتضم مزيجا من هاتين الثقافتين، وكان السكان المحليون كاريين، وقال هوميروس إن بعضهم شاركوا في حرب طروادة حلفاء لطروادة، وتشمل معلوماتنا الضئيلة عن أقارب هيرودوت أسماء إغريقية وأسماء كارية على السواء. وقد عزا بعض القراء، مثل كابوشنسكي، اتساع أفق هيرودوت إلى عرقه المختلط هذا، مدعين أن «أصحاب العرق المختلط» الذين يقضون شبابهم بين ثقافات مختلفة «كمزيج من سلالات مختلفة، تتحدد رؤيتهم الكونية بفعل مفاهيم من قبيل الحدود والمسافة والاختلاف والتنوع.» وقد شكلت طريقة هيرودوت في النظر إلى الأشياء بلا شك، وأثريت بفعل الثقافة المختلطة التي تميزت بها مدينته الأصلية، وكذلك بفضل مخاطر العقلية الإمبريالية التي اكتسبها الأثينيون من بلاد فارس.
علاوة على ذلك، كانت مدن أيونيا الإغريقية مرتعا للفكر الجديد الذي اتسم بالجرأة في أغلب الأحوال. ففي ظل غياب مناهج علمية راسخة، كانت ما نعتبرها الآن فروعا فكرية منفصلة (العلوم الطبيعية، الفلسفة، علم النفس، اللاهوت) مندمجة أكثر بكثير منها اليوم. وكان طاليس قد تكهن بأصل المادة، وانتهى إلى أن كل شيء كان في الأصل على هيئة ماء، لكن من جهة أخرى كان أنكسيمانس يرى أن كل شيء نشأ من الهواء، الذي يمكنه التحول إلى نار أو ريح أو سحاب أو - عند تكثيفه - إلى مادة صلبة، في حين قال أنكسيمندرس بأن المخلوقات الأولى نشأت من الطين، وأن البشر تطوروا من أنواع حيوانية أخرى، وكان أول إغريقي يرسم خريطة للعالم المعروف. وقدر زينوفان - المعمر الذي ولد هيرودوت في حياته - أن البشر خلقوا الآلهة وليس العكس، حيث زعم - مستخفا - أنه لو استطاعت الأنعام والخيل والأسد أن ترسم، لصور كل منها صور آلهة شبيهة بجنسه. وقال هيراقليطس - الرجل الذي نربط بينه وبين ادعاء أن المرء لا يمكنه الخوض في النهر نفسه مرتين أبدا - بأن كل شيء في حالة تدفق. وكان هيرودوت وريثا لهذا التراث الأيوني بما اشتمل عليه من فضول وشكوكية.
وفي الوقت نفسه، شاع التكهن بالصلات بين الجغرافيا والمجتمع. كان عمل هيرودوت منتشرا، كلاما وكتابة، قبل أن يبلغ الطبيب أبقراط ذروة نجاحه كطبيب، لكن أبا أبقراط وجده كانا طبيبين، وكان البحث عن تفسيرات علمية للمرض تنبذ الأسباب الإلهية يجري على قدم وساق منذ زمن ليس بقصير، وكانت جزيرة كوس التي عمل فيها أبقراط تقع على الجانب الآخر من المضيق قبالة هاليكارناسوس. وقد ربطت ملاحظات شهود العيان والحوارات وتقييم الأدلة واستخدام القياس وتحليل البيانات التراكمي عمل هيرودوت بعالم الأطباء، فتعلم هو منهم بلا شك وتعلموا منه. كل هذا يقدم لنا تفسيرا عميقا لثراء عقل هيرودوت وعكوفه على البحث وجرأته في فضوله بشأن المناخ والطبوغرافيا، وانفتاحه على الأفكار الجديدة وتسامحه مع التنوع الثقافي، لكن وجود دافعية غير عادية هو وحده الذي يمكنه تفسير قراره الاضطلاع بعمل غير مسبوق بهذا الحجم. كان «تاريخ هيرودوت»، بتغطيته نطاقا واسعا من حيث الزمان والمكان، أطول من أن يلقى بكامله على المسامع في مهرجان ما، بل إن فريقا من القراء يعمل أعضاؤه بالتناوب كانوا سيحتاجون إلى خمسين ساعة على الأقل لتلاوته.
يصعب علينا اليوم أن نستوعب بدعة تأليف كتاب كامل على هيئة نثر؛ فنحن نتعلم التحدث والكتابة نثرا قبل أن نقرض الشعر، وبعضنا لا يصادف كلاما موزونا إلا عند الغناء أو الاستماع إلى الأغاني أو سماع أناشيد رياض الأطفال، وأما النثر فهو ببساطة موجود في كل مكان، مما يجعله غير ملحوظ، فهو لغة الصحف وأفلام الإثارة وكتيبات التعليمات والبريد الإلكتروني. كانت هذه التراتبية، من نواح عديدة، مقلوبة في اليونان القديمة، حيث كان الأدب يؤلف في البداية شعرا ولا يؤلف نثرا إلا فيما بعد. وفي الحقيقة، لم يكن لدى الإغريق على أيام هيرودوت كلمة للإشارة إلى النثر، ولم يدخل تعبير «الكلام المجرد» (ويقصد به الكلام غير الموزون) أو «اللغة التي تسير على القدمين» (ويقصد بها اللغة التي لا تستعين بمركبة الشعر المجنحة) نطاق الاستخدام كتصنيف للنثر إلا بعد قرن أو نحو ذلك من الزمان. وكتب النصان التأسيسيان للحضارة الإغريقية - وأعني الإلياذة والأوديسة - على هيئة شعر، والتجأ إليهما الإغريق جيلا بعد جيل طلبا لنماذج بطولية ملهمة، وأساليب تعبير راقية، ورؤية كونية كاملة، ورغبة في الاطلاع على حكاية سردية طويلة ثرية، بها كثير من المنعطفات؛ فكانتا زادا معتادا للإلقاء والتلاوة كمادة ترفيهية بعد العشاء في عصر خلا من المصابيح الكهربائية والتليفزيون والإنترنت.
كان الشعر أيضا هو الوسيلة التي شكا بها الشعراء الغنائيون - كالشاعرة سافو ابنة جزيرة ليسبوس - تباريح العشق، وبه كتب المشرع الأثيني سولون عن العدالة والسياسة، وبه كتب المغرب ثيوجنيس بمرارة عن الحرب الأهلية في دولته ميجارا. وكان الشعراء في أغلب الأحوال ضالعين ضلوعا محوريا في حياة مدنهم، حيث كانوا يعتبرون معلمين وفنانين في آن واحد، وكانوا يحظون بالاحترام بناء على ذلك. قارن ذلك بزمننا هذا الذي يصعب فيه على كثير من الناس ذكر اسم شاعر واحد على قيد الحياة، بل وفي بعض الحالات اسم شاعر راحل. وينبغي ألا نندهش عندما نعلم أن هناك العديد من السرود التاريخية ضيقة النطاق التي كتبت على هيئة شعر؛ فقد ألف الشاعر سيمونيدس الأمورجوسي «التاريخ المبكر للساموسيين» زهاء سنة 650، وتناول على الأرجح تأسيس ساموس، وربما كان طوله نحو 4000 بيت (قرابة ربع طول الإلياذة وثلث الأوديسة). وبعد ذلك بحين من الدهر، ألف زينوفان «تأسيس قولوفون واستعمار إيليا» الذي يبلغ زهاء 2000 بيت طولا. وبعد الحروب الفارسية بفترة وجيزة، نظم سيمونيدس الكيوسي قصائد طويلة بعض الشيء حول هذا الموضوع، ومجد بطولة من سقطوا في بلاتايا بأسلوب هوميري. الأمر الأشد وضوحا أن قريب هيرودوت، بانياسيس الهاليكارناسوسي، كتب فيما يبدو عن تأسيس المستعمرات الإغريقية في أيونيا في قصيدته «أيونيكا» المؤلفة من نحو 7000 بيت. فكان الشعر هو لب التعليم الإغريقي، وكان تعليم الصبيان (وأحيانا الفتيات) الإغريق جديرا بالملاحظة، من حيث ما يشمله وما يتركه على حد سواء؛ إذ كان التلاميذ يدرسون شيئا من الرياضيات، ولكن لا يتعلمون دراسات اجتماعية ولا علوما، وكانت الموسيكيه
mousike - بمعنى الشعر المنظوم على موسيقى القيثارة - جوهر التعليم الإغريقي، واشتق هذا الاسم من الربات اللاتي كن مصدر إلهامها، وأعني ربات الفنون، واشتقت منه بدورها كلمة
music
الإنجليزية؛ أي الموسيقى، ومن كلمة القيثارة اليونانية
lyre ، اشتقت كلمة
ناپیژندل شوی مخ