في حالة من الذعر ويخططون للتقهقر، فإذا منعتهم من الانسلال من قبضة يدك، واتتك الفرصة لتحقيق نصر مؤزر. إنهم في نزاع، وفي وضع لا يسمح لهم بالمقاومة. على العكس تماما، ستجد سفنهم يقاتل بعضها بعضا، حيث يهاجم الموالون للفرس الآخرين.
راق لخشايارشا ما سمع، فطوق الأسطول الإغريقي تحت جنح الظلام، واستعد الإغريق للمعركة، مذعنين لقدرهم المحتوم. قدم مقاتلون مختلفون روايات متغايرة لسير المعركة اعتمادا على كل من الكبرياء الوطني وحدود الرؤية، لكن بدا واضحا لهيرودوت أن السفن القادمة من أثينا وجزيرة أيكينا القريبة ألحقت أضرارا بالغة بالأسطول الفارسي، الذي كان قد تبعثر أثناء سير المعركة. منح الإغريق أثينا الجائزة الثانية في البسالة؛ حيث كانت الأولى من نصيب أهل أيكينا. وإجمالا، تكبد الإغريق خسائر بشرية قليلة؛ لأنهم في حالة انفصالهم عن سفنهم كان بمقدورهم السباحة إلى سلاميس، أما الفرس الذين سقطوا من سفنهم فلم تكن لديهم تلك الميزة فغرقوا. كانت نتيجة المعركة البحرية هذه المرة واضحة لا لبس فيها؛ إذ مني الفرس في نهاية اليوم بهزيمة حاسمة. خشي ماردونيوس - وهو أمر مفهوم - أن ينكل به لإلحاحه على خشايارشا محاربة الإغريق، فأكد للملك المتجهم أن خسارة «بعض ألواح الخشب» لن يقف في طريق تحقيق نصر في النهاية، بل إن محصلة الصراع سوف تعتمد في نهاية المطاف على الرجال والخيل (هو لا يذكر الرجال الذين غرقوا مع «ألواح الخشب»). ويقول للملك: لا تيأس، فعاجلا أم آجلا سيدفع الإغريق ثمن ما فعلوه بك. إذا شئت عد إلى الديار، وسوف أبقى أنا هنا مع جزء من الجيش وأجعلك سيد اليونان.
راقت لخشايارشا بشدة فكرة العودة إلى الديار في واقع الأمر، فيمم وجهه شطر آسيا على الفور. في غضون ذلك، عرض ماردونيوس أن يعفو عن خطايا الأثينيين السابقة لو بدلوا ولاءهم؛ فأرسل الإسبرطيون على الفور وهم في حالة من الذعر رسلا لإثناء الأثينيين عن التخلي عن القضية الإغريقية، وقد أجل الأثينيون - في خطوة استراتيجية - موافاة رسول ماردونيوس بردهم ريثما يكون الإسبرطيون هناك لسماعها. ويفسح هيرودوت المجال للرفض المؤثر الذي قدموه، الذي قصد به أن يحظى بتقدير الصديق والعدو على حد سواء:
ما من ذهب أو أراض خصبة على وجه الأرض يمكن أن تجعلنا نتعاون مع العدو المشترك ونوقع اليونان في أسر العبودية. ربما تكون هناك عقبات هائلة عديدة تقف في طريقنا، وعلى رأسها حرق معابدنا وتماثيل آلهتنا. إننا نرى أن من واجبنا أن نثأر لهذا التدنيس بكل ما أوتينا من قوة، وألا ندخل في معاهدة مع من اقترفه. ثم إن هناك أيضا حقيقة أننا كلنا إغريق، عرق واحد ينطق بلسان واحد، تجمعنا معابد وقرابين مشتركة، ونهج حياة واحد؛ إذن فلتعلموا إن لم تكونوا تعلموا من قبل أننا لن نتوصل أبدا إلى تفاهم مع خشايارشا ما دام هناك أثيني واحد باق على قيد الحياة.
وهكذا بقي ماردونيوس في اليونان وواجه القوات الإغريقية مجتمعة تحت قيادة الإسبرطي باوسانياس، الوصي على ابن ليونيداس القاصر بلايستارخوس، فالتقى الجيشان في بلاتايا بالقرب من طيبة في الربيع التالي. وكما كان معتادا قبل خوض المعارك في العالم القديم، حصل كلا القائدين على قراءة لطالعيهما قبل خوض المعركة، وكلاهما كان سيئا، لكن باوسانياس تمكن في اللحظة الأخيرة من الحصول على علامة مبشرة أثناء المعركة، وكان النصر في الحقيقة حليف الإغريق. وقد دان الإغريق بنصرهم في جزء كبير منه لهيكل الجيش الفارسي - حيث انهارت المقاومة الفارسية عندما قتل ماردونيوس - وكذلك إلى افتقار الفرس إلى الدروع؛ لأنهم من دونها لم يستطيعوا الصمود أمام قوات المشاة الثقيلة الإغريقية. ويحرص هيرودوت على تأكيد عدم افتقار الفرس إلى الشجاعة بأية حال، ولا ينزل إلى مستوى التقليل من شأن جنود خشايارشا المغاوير.
شكل 3-4: تظهر هذه السلطانية الصغيرة جندي قوات مشاة ثقيلة إغريقيا يحمل درعا عليها صورة البيجاسوس (الحصان المجنح)، وهو يعلو فارسيا يرتدي ملابس كان الإغريق يعدونها غريبة. وهذا من عمل فنان يسمى رسام تربتولموس، قرابة عام 460 ق.م ولم يصور هيرودوت الفرس باستهزاء إلى هذه الدرجة.
4
قيل إن ذلك حدث في ذات اليوم الذي تغلب فيه الأسطول الإغريقي على الفرس في موقعة ميكالي في أيونيا، حيث كتب هيرودوت: «الترتيب الإلهي للأمور تثبته براهين كثيرة»، من أهمها خبر النصر في بلاتايا الذي بلغ بعون الآلهة ميكالي قبيل خوض المعركة مباشرة، وهو تطور أعطى دفعة قوية لروح الإغريق المعنوية. وبهزيمة الفرس في ميكالي، انتهت محاولتهم إخضاع الإغريق نهاية غير مشرفة. لقد حدث ما لم يكن يخطر ببال، فانتصرت عصبة من دويلات إغريقية صغيرة فقيرة، تضافرت جهودها دفاعا عن وطنها، على الملك الفارسي الثري وحشوده التي تعد بالملايين بالمعنى الحقيقي للكلمة.
هذا هو حقيقة النشيد العسكري الاحتفالي الذي قدمه هيرودوت ليدخل السرور على قلوبنا بما فيه من مواضيع متكررة (العظات الحماسية قبل المعركة، استعراض الأعمال الجسورة، التجاهل القاتل للمستشار الحكيم أو العلامات الإلهية، تفوق أساليب التفكير الإغريقية على الأساليب الفارسية)، ويبلغ ذروة في الموقف الإسبرطي في ثيرموبيلاي، وذروة ثانية في النصر في سلاميس. لكن إذا نظرنا إليه كمقطوعة بيانو لا كسمفونية، علينا أن نسأل عما تفعله اليد اليسرى فيما تنتج اليد اليمنى كوردات كبيرة لا تنسى ولا تزال تصدح حاليا إلى يومنا هذا. أما الإجابة فهي طباق متقن من دونه تكون هناك مجازفة بأن يبدو اللحن الانتصاري المبهج عاطفيا، بل وعديم المعنى.
ذلك أنه حتى مجرد القراءة العابرة لسرد هيرودوت تبين إدراكه أن الإغريق لم يكونوا بأي حال متحدين في الدفاع عن وطنهم؛ فالإغريق الذين قاتلوا في صف خشايارشا أكثر ممن قاتلوا ضده، وكان التضارب واللامبالاة سائدين بين الدويلات الحلفاء، وواجه ملتيادس صعوبة شديدة في إقناع القادة الأثينيين بالاشتباك مع الفرس في ماراثون، ولم يرسل الإسبرطيون إلا قوة صغيرة إلى ثيرموبيلاي، وكان حلفاؤهم متقلبين بشدة، لدرجة أن ليونيداس كان بادي التوتر لوجودهم حوله. وعشية موقعة سلاميس، هدد تيميستوكليس بحمل الأثينيين كافة على ظهور سفنهم والإبحار إلى إيطاليا إذا لم يوافق القائد الإسبرطي يوروبيادس على القتال في المضيق بدلا من التراجع إلى البرزخ. وحتى بعد إقناع يوروبيادس، اعتبر الموقف مشكوكا فيه إلى درجة أنه كان مستعدا لاستفزاز حصار فارسي لفرض معركة. وفي الربيع التالي، أعاد الإسبرطيون التفكير في تلبية طلب الأثينيين المساعدة في بلاتايا، والحقيقة أنهم نظروا بجدية في تسوير البرزخ الذي يفصل أرضهم عن أرض الأثينيين وتركهم لمصيرهم. وأما تأكيدات الأثينيين الاستعراضية لولائهم الأبدي لليونان، فقد أذهبت أثرها فيما بعد، وبشكل يكاد يكون فوريا، كلمات بالغة القتامة، وذلك عندما ألمحوا إلى الإسبرطيين بأنهم لو لم يتحركوا، فإنهم ربما يعيدون النظر في قبول شروط الفرس. كفانا من الحديث عن التضامن الإغريقي.
ناپیژندل شوی مخ