حلم عقل
حلم العقل: تاريخ الفلسفة من عصر اليونان إلى عصر النهضة
ژانرونه
إن الحرفيين لا يقومون بانتقاء المواد الأولية ثم استخدامها عبثا، وإنما يستغلونها بالطريقة التي تكسب منتجاتهم صورة معينة. فلو نظرت مثلا ... إلى المصور والبناء وصانع السفن وغيرهم من الحرفيين ... لرأيت كيف يوظف كل منهم كل عنصر في نسق معين ويوفقه ليتناغم مع غيره؛ حتى يجمع المكونات في منتج منظم ومحكم.
ولكي يصبح الشيء منظما ومحكما - بما يجسد المنطق في العمل - يجب أن تنظم مكوناته وفقا لنسق أو نموذج واضح. إن جوهر المنطق الأفلاطوني - سواء وجد في الإنسان أو السفن أو المدن أو الكون ككل - يكمن في استغلال الوسائل بحرفية لتحقيق النتائج. فالأشياء الجامدة يمكن القول إنها منتظمة بوصفها وسائل أحسن استغلالها، وهذا هو جوهر ما يقصده أفلاطون حينما يتحدث عن الهدف المنطقي في العالم الطبيعي. فالهدف المنطقي يتسم بتناغم أجزائه معا كما يتجلى في نوعه. وهذا هو المنطق والهدف من منظور الحرفي.
ولكن ما هي وظيفة الرب في مثل هذه الصورة ؟ يظهر الرب في الإنجيل بوصفه صاحب المثل الأولى - أو النماذج التي تتبع - الذي يشرع في بناء العالم. ولكن هذه الوظيفة ليست موجودة في عالم أفلاطون. فالمثل أو النماذج الأولى للعالم الطبيعي موجودة بالفعل. وقد رأينا سابقا في المناقشة التي عرضها بين سقراط ويوثيفرو أن القيم الأخلاقية - وليس ما يختاره الرب - هي أهم المثل التي ينبغي أن يقوم عليها العالم. وبطرحه السؤال المحوري: «هل ما يعد مقدسا هو مقدس لأن الآلهة أحلته أم أنها أحلته لأنه مقدس بالأساس؟» يبين أفلاطون أن الرب بالنسبة له ذو صلاحيات محدودة، فكل شيء يجب الفصل فيه بعيدا عنه. وينطبق نفس الأمر على كل الصور، من صورة «الدودة» إلى صورة «الخير». فلكل شيء وضع مثالي - بشكل مستقل تماما حتى قبل وجود الرب - يمكنه من أداء وظيفته الطبيعية. ووظيفة الرب عند أفلاطون شكلية حيث يجمع المادة والمثل وفقا للتعليمات الواردة في النماذج الأولية الموجودة سابقا. ومع ذلك فتلك وظيفة حيوية إن افترضت أن العالم بدونها قد لا يتطور أبدا وفقا لتلك المثل، لكن المعضلة أن آلهة أخرى قد يعرضون عن الأمر إن لم يتدخلوا لفرض صورهم وأفكارهم الخاصة عند التطبيق.
لقد اتفق جميع الفلاسفة الإغريق القدامى - أيا كانت آراؤهم الفلسفية - على تصور مشترك بشأن اللاهوت يتصل بمفهوم أفلاطون عن الرب وبخاصة مدى الحرفية والأصولية التي يمكن في ظلها فهم تفسير أفعاله الواردة في محاورة «طيمايوس» بوصفها قصة إنجيلية. لقد تقبل الإغريق فكرة اللاهوت - بوصفها مجموعة من الصفات الموجودة في الطبيعة - أكثر من فكرة الرب بوصفه كائنا مستقلا تماما عن الطبيعة. ولقد عرفنا أن الأشياء كانت توصف بالمقدسة بناء على دوامها وقوتها وسموها عما هو بشري بالأساس. وكانت كلمة «مقدس» بين الإغريق تستخدم بشكل أساسي للحديث عن مثل هذه الأشياء، أما فكرة وجود كائن مقدس منفصل فتنبع من هذا الاستخدام، وليس العكس. وهنا يوضح أحد المعقبين على أفلاطون قائلا:
حينما يقول مسيحي إن الرب محبة أو إنه الخير فهو يؤكد - أو يسلم - أولا بوجود كائن غامض وهو الرب ، ثم يطلق حكما نوعيا بشأنه؛ فهو يخبرنا شيئا عن الرب. أما الإغريق فالأمر عندهم معكوس. فهم يقولون إن المحبة إله أو إن الجمال إله ولا يفترضون وجود أي كيان غامض، بل يذكرون شيئا عن المحبة والجمال اللذين لا ينكر حقيقة وجودهما أحد. فالشيء الذي يتحدث عنه ويصدر حكما بشأنه موجود بالفعل في العالم الذي نعرفه.
يرى أفلاطون أن الملحد - من ينكر وجود الإله - هو إنسان قد أخطأ في اعتقاده بعدم وجود نظام أو هدف في الكون أعظم من الإنسان نفسه. فالصانع الأكبر أو الرب الأقدم عند أفلاطون قد يكون هو نفسه في جماله وكفاءته الوظيفية تجسيد لهذا النظام أو ذلك الهدف، ولكن أيا ما يكون فهو شيء موجود في الكون وليس خالقا خارج إطاره. فكما يرث هذا الرب المادة التي يستخدمها، عليه أن يخضع للمثل الأفلاطونية؛ أي لقيم النظام والجمال والخير. وهذه هي الأسرار المقدسة للديانة الأفلاطونية. وبإثبات هذه النقطة يمكننا أن ننتقل إلى الأساطير المؤثرة التي وردت في «طيمايوس» لنرى أن الأمر لا يختلف كثيرا عن أصول فلسفة أفلاطون، سواء أعتقد حرفيا في وجود هذا الصانع الأكبر أم لا.
لقد كتبت محاورة «طيمايوس» لتكون في مستهل ملحق يضم ثلاثة أجزاء تكمل الأفكار الواردة سلفا في «الجمهورية». كان من المفترض أن تتمم تلك الثلاثية مناقشة المدينة الفاضلة في «الجمهورية» بعرض قصة حول كيفية تحقيق هذه المدينة، وكيف أنها ستنجح في معاملاتها مع المدن الأخرى. وتتناول القصة تحديدا معركة للعمالقة في الماضي السحيق مع إمبراطورية تدعى أطلانتيس هزمت في الحرب وغرقت في البحر. وقد كان ابتكار أفلاطون لمدينة أطلانتيس ذا صدى قوي لدرجة أن الباحثين والمهاويس أخذوا يبحثون عنها منذ ذلك الحين. وقد حولها العديد منهم بشكل غريب إلى مدينة فاضلة بينما يصفها أفلاطون بأنها إمبراطورية شريرة من المستبدين الطغاة. ولكن الثلاثية التي كانت قيد التخطيط لم تخرج إلى النور. ومعظم ما نجده في محاورة «طيمايوس» هو وصف مفصل لأقدم العصور في التاريخ. وهذا الوصف مقدم في صورة سلسلة من المناجات الفردية الطويلة لشخصية تدعى طيمايوس من لوكري (في إيطاليا)، شبهها كثيرون بصاحب المذهب الفيثاغوري أرخيتاس التارانتومي.
يؤكد طيمايوس في مقدمة محاضراته أنه لا توجد معرفة مؤكدة بالمسائل التي سيناقشها فيقول: «من الكافي أن نبرهن على كل الاحتمالات كغيرها لأننا مجرد بشر فانين، وعلينا أن نتقبل الرواية المحتملة دون طرح مزيد من التساؤلات.» وينشغل طيمايوس بتقديم رصد محدد ودقيق للكون. فالرب - أو الصانع الأكبر - قد صنع العالم المحكم لأنه كان ماهرا فأراد أن يكون كل شيء جيدا قدر الإمكان أيضا. ويفهم ضمنا أنه كان هناك عالم بدائي قبل ذلك ولكنه كان نموذجا رديئا. وحيث إن طبيعة هذا الرب كانت من منظور فيثاغوري بحت؛ فقد كان الأساس الذي اعتمد عليه الصانع الأكبر في خلق العالم كتابا في الهندسة يبدو أن حواشيه كانت تعج بملاحظات لإمبيدوكليس وديموقريطس.
كان الهدف الرئيس هو ضمان الانتظام؛ لأن الانتظام أمر جيد ومنطقي. لقد علم أفلاطون أن هناك خمسة أجسام منتظمة في علم الهندسة؛ أي خمسة أشكال متناظرة يمكن بناؤها من أشكال مسطحة متماثلة، وهي: رباعي الأسطح المنتظم (هرم مكون من أربعة مثلثات متساوية الأضلاع) والمكعب (مكون من ستة مربعات) والمجسم الثماني المنتظم (ثمانية مثلثات متساوية الأضلاع) والمجسم العشروني (عشرون مثلثا متساوي الأضلاع) والمجسم الاثنا عشري الأوجه الذي يشبه كرة القدم (اثنا عشر مضلعا خماسيا). هذه النماذج المثالية المنتظمة كانت جيدة إلى درجة لا يمكن معها إغفالها؛ لذا استخدم الرب هذه المجسمات الهندسية قوالب لجميع أشكال المادة. فاستعملت الأربعة الأولى منها لصنع عناصر إمبيدوكليس الأولية: النار والتراب والهواء والماء على الترتيب. فالتراب مثلا كان مكعبا لأن المكعب أكثر المجسمات المنتظمة استقرارا، حيث احتاج الرب إلى قاعدة ثابتة يعتمد عليها. أما الجسم الخامس فقد ربط بالكون كله لأن المجسم الاثنا عشري الأوجه كان أقرب الخمسة إلى الكرة (وهي الجسم الأقرب إلى التمام والانتظام).
كان كوكب الأرض عالما غير متحرك في مركز الكون يدور حوله الشمس والقمر والكواكب الأخرى بسرعات وميول مختلفة، وتدخل حركتهم في كرة أكبر تدور أيضا وتشكل الحد الخارجي للكون حيث تبدو النجوم كجواهر في قبة. ويبدو أن أفلاطون قد أدرك - ربما عن طريق يوديكسوس زميله في الأكاديمية - أن الشذوذ الملحوظ في حركة الكواكب يمكن من حيث المبدأ تفسيره في إطار الآثار المركبة للعديد من الحركات المنتظمة. ويعتبر الدوران المنتظم الحركة الأفضل والأتم؛ لذا اختير ليكون أساسا للمخطط الفلكي. ويقول طيمايوس إن رؤية هذه الحركات المنتظمة العظيمة تعطي الناس فكرتهم عن الزمن (صورة متحركة للأبدية) وعن الرياضيات، وقد يكون هذا هو السبب في صنع الرب لها.
ناپیژندل شوی مخ