حلم عقل
حلم العقل: تاريخ الفلسفة من عصر اليونان إلى عصر النهضة
ژانرونه
من حسن حظنا وأفلاطون أن الكثير من خواطره وأفكاره عن العدالة والسعادة يتجاوز هذه التشكك. ومع ذلك تظل شوارع مدينته في «الجمهورية» مهجورة ومظلمة؛ لأن صيغة «الخير» التي يتحدث عنها قد تلاشت للأبد من منظورنا. •••
إن أحد الأشياء التي حاول أفلاطون أن يعرض لها في «الجمهورية» هو أن صراع السفسطائيين بين الفضيلة والمصلحة الشخصية هو وهم في حقيقته. فهو مبني على صورة بدائية وغير مكتملة عن المصلحة الشخصية؛ فقد بات واضحا أن روح الإنسان قد طبعت على قضاء أسعد أوقاتها حين يحكمها العقل والفضائل الأخرى. فالنظر إلى الحياة الفاضلة من منظور سليم يثبت أنها تحقق صالح الإنسان. لذا يمكن القول إن الطبيعة ذاتها تؤيد الفضيلة والعقل لأنها تعاقب الإنسان الفاسد واللاعقلاني بالتعاسة والشقاء. وقد ورد في محاورة «طيمايوس» - التي أنتقل إليها الآن - قصة ذات صلة ولكن على مستوى أكبر. فهي تصور عالم الجماد الطبيعي سعيدا في ظل حكم العقل لأنه صنع من قبل كائن عاقل («الصانع الأكبر» أو الرب)، حيث تظهر عليه علامات تصميمه المنطقي. وقد حاول أفلاطون أن يضع بين أيدينا بيانا كاملا بكل هذه العلامات، من حركة النجوم إلى حركة الأمعاء.
طوال القرون الاثني عشر الأولى في العهد المسيحي كانت محاورة «طيمايوس» هي الأساس الذي قام عليه جل ما كتب في علم الكونيات في الغرب. ففي القرن الخامس الميلادي وما بعده كانت الترجمات اللاتينية لتلك المحاورة هي المصدر المنهجي الوحيد المتاح لشرح الطبيعة حتى ترجمت أعمال أرسطو العلمية - إضافة إلى أعمال أخرى - في القرن الثاني عشر. وتعود الشهرة التي تتمتع بها المحاورة إلى أن رب «طيمايوس» يمكن تفسيره على أنه الرب في سفر التكوين. وبقراءة أعمال أفلاطون بمعزل عن الإشارات الإنجيلية نرى أنها تحتاج إلى قدر كبير من التفسير التخيلي، وهذا ما أتى به المسيحيون. ويختلف الرب عند أفلاطون عن الرب في الإنجيل فيما يلي: لا يعتبر الرب عند أفلاطون أهم شيء في الكون (بل المثل التي يستمد الرب تعاليمه منها)، وهو ليس الرب الوحيد ولكن لديه مساعدون عدة، كما أنه ليس مطلق القدرة بل عليه التعاون مع القوى المختلفة في الطبيعة. ولم يخلق الصانع الأكبر الكون من العدم ولكنه استخدم مواد كانت موجودة بالفعل، وهو لا يهتم بالإنسان على نحو خاص ولكنه كلف مساعديه بمهمة صنعه كي يبقيه على مسافة لا يتخطاها.
وبالنظر إلى هذا، لا يسع المرء إلا أن يتساءل عن السبب في تنصير المسيحيين في القرون الوسطى لأفلاطون بعد وفاته. ولكن من الواضح أن السطو على الوصف العلمي الوحيد المفصل للعالم إغراء لا يقاوم، هذا بالإضافة إلى أشياء أخرى في «طيمايوس» تروق معتنقي الدين المسيحي. وفي إشارة إلى «الصانع الأكبر» يقول أفلاطون: «إن العالم هو أفضل ما خلقه ذلك الصانع الأكبر.» وتؤكد محاورة «طيمايوس» على أن تنظيم الكون والتخطيط المحكم الذي يبدو عليه يدل على هدف ما أسمى وأكثر حكمة. وكل التفسيرات الواردة في المحاورة تشير إلى مفهوم الهدف الأسمى؛ لذا فقد توافقت أفكار طيمايوس مع الأفكار اللاهوتية بشكل أفضل من العالم الآلي الذي تحدث عنه ديموقريطس وأبيقور ولوكريتيوس. وتحاكي النظرية النموذجية التالية في علم اللاهوت من القرن الثامن عشر محاورة «طيمايوس» في النتائج التي تستنبطها من حركة الكواكب ومسارات المذنبات، وقد وضعها إسحاق نيوتن كما يلي:
لا يمكن تصور أن الأسباب الآلية وحدها قد تؤدي إلى هذا الكم الكبير من الحركات المنتظمة ... فهذا النظام البديع الذي يحتوي الشمس والكواكب والمذنبات لا يمكن أن ينشأ إلا بواسطة توجيه وسيادة كائن بارع قوي.
في الواقع لقد أغفل نيوتن - بسبب إيمانه - قوانين الحركة التي اكتشفها. وهذه القوانين تفسر بدقة كيف «تتسبب العوامل الآلية وحدها في هذا الكم الكبير من الحركات المنتظمة.» وقد استوعب إيمانويل كانط (1724-1804م) - الذي يعد فيلسوفا ولكنه من أكثر من كانوا على دراية بالفيزياء الرياضية والفلك في عصره - هذه الحقيقة أكثر من نيوتن نفسه. وقد رصد كانط ثلاثة عيوب في تلك المحاولات لاستخراج معجزة مسيحية من القوانين الفلكية؛ أولا: يرجع كثير من التناغم الظاهر في الطبيعة بالضرورة إلى قوانين المادة؛ لذا فإن أي كائن يضطلع بدور «الإرشاد والسيادة» سيكون معرضا دائما لأن يتحول دوره إلى دور اعتباطي في الوقت الذي يجري فيه فهم مزيد من القوانين. ثانيا: قد يعرقل النظر إلى الطبيعة في ضوء أهداف الكائن البارع من عملية البحث العلمي لأن الباحث سيميل إلى التوقف عن طرح الأسئلة عندما يظن أنه اكتشف الحكمة السماوية وراء شيء ما. وأخيرا قد تشير تلك المناقشات التي على غرار ما تناوله نيوتن أو أفلاطون إلى خيار واحد لا غير؛ فهي قد تدل على وجود صانع رئيس نظم الأمور قبل الوجود، ولكنها لا تصل إلى الخالق الأول الذي ورد في سفر التكوين. وقد وجه الفيلسوف الشكوكي ديفيد هيوم (1711-1776م) انتقادات مماثلة «للاهوت الفيزيائي» - كما يسميه كانط - في نفس الحقبة تقريبا.
لم تكن هذه الانتقادات لتمثل أية مشكلات لأفلاطون الذي لم يكن هدفه الأساسي في محاورة «طيمايوس» دينيا بالمعنى الحديث. فقد كان هدفه تحسين التفسيرات البدائية لأصحاب المذهب الطبيعي الأوائل، وليس تمهيد الطريق للمسيحيين من بعده. لقد كان يشعر أن أسلافه من طاليس وحتى ديموقريطس قد ارتكبوا أخطاء بتركيزهم المفرط على مسألة ماهية المادة التي خلقت منها الأشياء. فبينما ركز هؤلاء على العناصر والذرات في بحثهم عن الأسباب، فقد أغفلوا سببا مختلفا أكثر أهمية. لقد كان لدى أتباع مذهب فيثاغورس علم محدود بهذا السبب الخفي خلال حديثهم عن القوانين الرياضية في الطبيعة، وقد ألقى أناكساجوراس نظرة سريعة عليه في حديثه العابر عن العقل أو الفهم أو المنطق؛ «نيوس» باليونانية. كان أفلاطون قد حدد ملامح خطته العلمية الجديدة في حديث له على لسان سقراط عن أناكساجوراس. وكان محور الحديث هو استخدام خطة منطقية أو نموذج عقلي تتضح في ضوئه وظائف الأشياء. ويوضح هذه الفكرة مثال الإنسان؛ فبينما تؤدي الفسيولوجيا والميكانيكا نصف المهمة - في أحسن الأحوال - عند محاولة تفسير أفعال الإنسان؛ فإن التفسير الجيد ينبغي أن يضع في الحسبان أهداف المرء من أفعاله؛ أي الغرض الذي كان يحاول تحقيقه. وينطبق الأمر ذاته على الجماد، وهو ما عجز أصحاب المذهب الطبيعي عن إدراكه.
لقد رأينا أن فكر أناكساجوراس - الذي قلما وظف مفهومه عن العقل في السياقات العلمية - تميز بمعاداة الخرافات. فحينما عرض عليه رأس حيوان مشوه رفض الاعتراف بأي سبب خارق وراء ذلك، بل اكتفى بتفسير الأمر بأنه مجرد تأثير فسيولوجي. والسؤال الذي قد يثار هنا: ألم يرجع أفلاطون إذن إلى خرافات اللاهوت ومؤلفي الأساطير في بحثه عن الهدف والحكمة الإلهية خلف الحوادث الطبيعية؟ لا، ليس صحيحا، فقد كانت الأهداف التي أراد أفلاطون عرضها على النقيض تماما مما تحدث عنه مؤلفو الأساطير. كانت مشكلة التفسيرات الزائفة في اللاهوت هي أن الآلهة التي تحدثت عنها كانت متقلبة المزاج. كان بوسيدون يسبب الزلازل لأنه شعر برغبة في ذلك، فكان من المستحيل التنبؤ بتلك الحوادث أو وضعها في إطار عام. لذا فقد كان العلم مستحيلا. ولكن الأهداف التي وجدها أفلاطون في الطبيعة أكثر منطقية من نزوات بوسيدون، وقد كان الهدف من البحث عنها هو وضع نموذج عام بغية الوصول إلى علم حقيقي، حيث لم يتناول أفلاطون فن التفسير المنطقي من خلال استحضار الآلهة لتفسير الأحداث اليومية.
لقد حاول أفلاطون تفسير نظريته الجديدة مستخدما لغة الأساطير، ولكن ليس واضحا ما يمكننا قبوله منها حرفيا. لقد وصف الراوي الرئيس في محاورة «طيمايوس» كبير الصانعين بأنه يستخدم إناء لتحضير ما يشبه روح العالم، ثم سرت هذه الروح في كل مكان. ولكن باستخدامه فكرة الروح والإناء، يتضح أن أفلاطون لم يقصد التسليم ببعض هذه التفاصيل الأسطورية. لقد أثير كثير من الجدل حول ما إذا كان رب أفلاطون أو الصانع الأكبر مقصودا بمعناه الحرفي، أم أنه بمثابة قياس بين عمل الإنسان وعمل الطبيعة. أحيانا يبدو الرب الأفلاطوني مجردا من الهوية - تماما كنموذج «الخير» - وليس كائنا له ذاته المميزة. وحتى تلاميذ أفلاطون لم يتمكنوا من الفصل في هذا الجدل؛ لذلك ليس هناك أمل في حسمه بطريقة مباشرة الآن. ولكن يمكننا تسوية المسألة - إلى حد ما - بأن نذكر أن هناك اختلافا بين أفكار الإغريق عن العقلانية والعقل والهدف واللاهوت من ناحية وأفكارنا عن تلك الأشياء من ناحية أخرى.
كانت الرسالة المقصودة في محاورة «طيمايوس» هي أن المنطق هو سيد عالم أفلاطون. ولكن ما الذي كان يقصده أفلاطون بالمنطق ؟ من المفيد الرجوع إلى ما قاله عن المنطق البشري في «الجمهورية» وغيرها. لم تعن العقلانية بالنسبة لأفلاطون السكون والحرص والذكاء فقط. فالمنطق الإغريقي نشط وليس خاملا. وقد وضع له تعريف ملائم تماما هو «ذلك الشيء الذي يمكن الإنسان من العيش لهدف ما.» فهو ما يمكنه من تحديد الأهداف المناسبة وتكريس حياته لتحقيقها، كما أنه لا يكمن في غياب الرغبات أو كبتها، بل هو الملكة التي تروض تلك الرغبات بحيث تعمل معا بأفضل صورة ممكنة وتضع أمامها حافز «الخير». لذا ورد في «الجمهورية» أن الإنسان الأسعد هو من يحكمه العقل، بمعنى أنه ينظم حياته في سبيل الهدف الذي ينفعه في النهاية ولا يسمح لأي شهوات متهورة منحرفة بأن تخرجه عن هذا المسار. وكذلك يسود العقل المجتمع حينما يدار من قبل الأفراد الأفضل تنظيما. ولكن كيف لمفهوم المنطق الموجه النشط هذا أن يظهر في الجماد؟ في عصر المعلومات عبر بعض الفيزيائيين المعاصرين عن الكون كما لو كان حاسبا عملاقا يقوم بمعالجة البيانات (أي الأحداث) تبعا للأوامر الواردة في نظام تشغيله (أي قوانين الطبيعة). وفي عصر الآلات - بدءا من القرن الثامن عشر - كانت حوادث الطبيعة توصف في سياق آلي كالتالي: إن إبداع الطبيعة يكمن في التكرار الدقيق لحركاتها وفي حسن التناغم بين أجزائها. ولم يكن الإغريقيون صانعي آلات ولم يتداولوا المعلومات بل كانوا حرفيين. وقد كان الإبداع بالنسبة لهم يبدو جليا عند صنع شيء ما من المواد الأولية:
ناپیژندل شوی مخ