حلم عقل
حلم العقل: تاريخ الفلسفة من عصر اليونان إلى عصر النهضة
ژانرونه
ولا شك أن جموع الفقراء سيحتفلون بانتصار الديمقراطية التي حررتهم من الأقليات المختلفة التي حكمتهم من قبل وسيعدون ذلك انتصارا للحرية. ولكن سقراط يقول إن الأمر لا يعد نصرا للحرية على الإطلاق. فالرغبات التي أطلق لها العنان دون ضابط في مثل هذا المجتمع سوف تؤدي حتما إلى العبودية المطلقة لا الحرية المطلقة. فهكذا تبدأ الأمور: «ستسيطر الحرية بمختلف أشكالها - لا سيما حرية التعبير - على المدينة الديمقراطية» و«سيعمل الجميع على قضاء حياته كيفما شاء.» فالمشهد في هذه المدينة أشبه «بالثوب المطرز بجميع الألوان، حيث ستبدو أجمل المدن في ظل هذا التنوع والاختلاف بين الشخصيات.» ولن يكون هناك - بلا شك - مكان للحكام الفلاسفة في هذا النسيج المختلط:
إن سماحة الديمقراطية وازدراءها لقراراتنا المقدسة التي صدرت عند تأسيس مدينتنا ... تدوس بأقدامها كل هذه المثل، غير عابئة بالممارسات وأساليب العيش التي تتبناها السياسة، ولكن تحفل بالإنسان فقط إن أعرب عن حبه للشعب!
إن الديمقراطية التي يتحدث عنها سقراط هي شكل أكثر ديمقراطية من الأنظمة التي نعرفها؛ فهي الديمقراطية المطلقة. ولا توزع فيها السلطة بالانتخابات - التي تعد اليوم جوهر الديمقراطية - بل بالاقتراع العشوائي. قد يبدو هذا الكلام مبالغا فيه ولكنه يقارب واقع الديمقراطية في زمن أفلاطون. فكثير من شئون الدولة والعديد من المحاكمات كانت في يد ولاة أمور وقضاة يختارون بعشوائية لمدة عام واحد. وكانت القرارات الأهم تتخذ من خلال تصويت يجري بين من يتصادف وجودهم في الاجتماع ذي الصلة. كان هناك بالفعل ضمانات دستورية من المفترض أنها تكفل كفاءة الحكم في أثينا (فالقضاة - على سبيل المثال - عليهم اجتياز اختبار بسيط ويمكن التصويت على عزلهم). ولكن أفلاطون يرى أن الضعف المتأصل في هذا النظام يتضح بشكل أفضل عند تصور ما يمكن أن يؤدي إليه حكم الشعب.
ولفهم الأفكار الديمقراطية يقترح سقراط أن نتأمل شخصية من يعتنقون الديمقراطية النموذجية؛ فهذا سيوضح المحاسن والمساوئ المقترنة بالديمقراطية. وكما أن الديمقراطية المطلقة تقبل أي شيء وأي شخص، فإن الشخصية الديمقراطية عشوائية كذلك:
ستضع ملذاتها جميعا على قدم المساواة وتعمل على إشباعها ... وتسخر روحها لإشباع تلك الرغبات واحدة تلو الأخرى، فلا تترفع عن أي منها بل تتمسك بها جميعا ... ولا تقبل هذه الشخصية أو تسمح بأن تخترقها الحقيقة، حينما يخبرها أحدهم أن بعض الملذات ينبع من رغبات سامية صالحة والبعض الآخر ينبع من أخرى دنيئة، وأن الواجب هو إشباع بعض الرغبات وكبح الأخرى. فمن يؤمنون بالديمقراطية يرفضون هذا الوعظ ويؤكدون على تساوي كل الرغبات.
إن الشخص المؤمن بالديمقراطية - مثل الديمقراطية ذاتها - يؤمن «بالمساواة بلا تمييز بين الأشياء المتكافئة وغير المتكافئة على حد سواء.» فتبدو كل الأشياء في نظره متساوية في القيمة، ويتحول تفتحه العقلي إلى فراغ ذهني. وفي ظل افتتانه بشعارات الحرية والمساواة، يسيطر العشق الأعمى لكل رغبة عابرة على أنصار الديمقراطية:
فينغمس ذلك الشخص المؤمن بالديمقراطية كل يوم في نزوة آنية، فتجده يحتسي النبيذ ويتمايل مع نغمات الناي ثم يعود لشرب الماء والتهام الطعام. وأحيانا تجده نشطا، وأحيانا أخرى يتكاسل ويتجاهل كل شيء. ينشغل في بعض الأحايين بالفلسفة. وكثيرا ما يتدخل في السياسة، ثم يخرج بأي رأي يخطر بباله ويفعل ما تراءى له. فإن أبهره العسكريون اندفع لهم، وإن أغواه أهل المال تحول إليهم، ولا ضبط أو ربط في حياته. ولكنه يزعم أن حياته تلك هي حياة المتعة والحرية والسعادة ويتمسك بها حتى النهاية.
وهكذا يصبح الديمقراطي عبدا لرغباته، لكن النهاية قد تكون أدنى مما يتصور؛ لأن افتتانه بالحرية سيتضخم. فإذا كانت الحرية - في نظره - خيرا كلها، فإن الإجبار شر كله؛ عندئذ يصبح المواطنون «شديدي الحساسية والسخط إزاء أي ملمح من ملامح الاستعباد، وهو ما لن يتحملوه إطلاقا» حيث:
يحاول الأب باستمرار أن يجاري أبناءه مع أبنائه ... ويهاب المعلم التلاميذ ويتملقهم، ولكن التلاميذ - في المقابل - لا يعبئون بالمعلم ... ويحاول الكبار التأقلم مع الصغار ويقلدونهم في المزاح واللطف خوفا من ترسخ اعتقاد لدى الصغار بأن الكبار منفرون أو مستبدون.
ويقول سقراط مازحا إن روح التحرر والاستقلال ستتفشى إلى أن تصيب الحيوانات. فحتى «الخيول والحمير ستمضي في سبيلها بكل حرية وتزيح من طريقها من لم يفسح لها.» وهنا يقول جلوكون إن هذا ما يلحظه بالفعل عندما يذهب إلى الريف.
ناپیژندل شوی مخ