79

حلم عقل

حلم العقل: تاريخ الفلسفة من عصر اليونان إلى عصر النهضة

ژانرونه

ويجب على كل الحرفيين من الشعراء وحتى مصممي الأثاث المنزلي الذين سيرى هؤلاء الصغار منتجاتهم أن يخضعوا لقواعد صارمة. فلا يسمح لهم:

بإظهار الرغبات الشريرة وكل ما يوصف بالفجور والتعصب والرذيلة سواء فيما يخص الكائنات الحية أو المباني أو أي منتج آخر؛ حتى لا ينشأ حراسنا بين رموز الشر كمن يترعرع في مراعي الأعشاب السامة. فليس لهم أن يقربوا تلك الشرور فيتراكم ... في أرواحهم قدر كبير من الرذائل وهم لا يعلمون. ولكن علينا أن نبحث عن الحرفيين الذين مكنتهم هبة الطبيعة من الوصول إلى الجمال والفضيلة الحقيقيين؛ حتى ينشأ شبابنا في بيئة صحية ويستفيدوا من كل ما حولهم، حيث يفوح أثر الجمال وينطبع على العين أو الأذن مثل النسيم النقي الذي يحفظ الصحة، فنرشدهم منذ نعومة أظفارهم إلى التشابه وإلى الصداقة وإلى التناغم مع المنطق السليم.

إن هذا الاهتمام الصارم والراقي بالتفاصيل التربوية هو بلا شك إفراط لا معنى له في أي نظام تعليمي حقيقي، ولكنه يوضح أن أفلاطون لم يرتكب الخطأ الذي وقع فيه سقراط ووجه بسببه أرسطو وآخرون اللوم إليه، ألا وهو تجاهله دور الشخصية في تحديد السلوك الأخلاقي؛ فالحراس المذكورون في «الجمهورية» يتصفون بالفضيلة والعقلانية وكرم الأخلاق عامة لأن كل شيء في حياتهم الأولى صمم ليشكل شخصياتهم بغية تحقيق ذلك الهدف.

ولنتصور مدينة يحكمها هؤلاء القديسون، هل ستسودها الفضيلة والشجاعة والحكمة والوسطية والعدالة كما يجب أن تكون المدينة المثالية؟ يجيب سقراط عن هذا السؤال بالإيجاب؛ فالشجاعة ستسود بفضل هؤلاء الحراس الذين اصطفوا وتدربوا على التفوق العسكري، وستسود فيها الوسطية أو ضبط النفس لأنها ستخضع للتنظيم، فكما يقول سقراط ستحكم «الرغبات السامية والحكمة الناشئة المغروسة في الأقلية الراقية» قبضتها على رغبات «الجموع والرعاع» كي تسيطر عليها، وستسود الحكمة بفضل حكامها الذين يختارون من بين أفضل الحراس ويحصلون على أعلى مستويات التعليم لتعزيز ملكاتهم العقلية. أما بالنسبة للعدالة فيبدو في هذه المرحلة من المناقشة أن سقراط يؤمن أن الأساس يكمن في أن يتفرغ كل مواطن إلى نمط العمل والحياة الذي يناسبه؛ فهذا سيؤدي إلى مجتمع متناغم ومتكافئ وسعيد، مما سيؤدي في النهاية إلى مجتمع عادل.

وهكذا يقول سقراط إن المدينة المفترضة في «الجمهورية» سوف تجسد جميع الفضائل، وقد أوحت فكرة المدينة العادلة التي يعمل كل عنصر فيها بتناغم مع الأجزاء الأخرى - مثل الإنسان المتزن السعيد - لسقراط بإمكانية توسيع المقارنة بين المدينة والروح واستخدام ذلك في دعم صورته عن العدالة. وكما تنقسم المدينة لديه إلى ثلاث طبقات (المنتجين أو الحرفيين أو الحراس والحكام)، ألا يمكن اعتبار أن النفس البشرية تنقسم إلى ثلاثة مكونات؟ يعتقد سقراط أن الروح تتكون من ثلاثة أجزاء هي: النفس الشهوانية والنفس الغاضبة والنفس العاقلة، وهي توازي أنواع الرغبات. فالنفس الشهوانية تحركها الغرائز الدنيا نحو الطعام والجنس والمال. أما النفس الغاضبة فتسعى نحو الشرف (كالشرف العسكري). أما النفس العاقلة فتحركها الرغبة في المعرفة. وليس من الغريب أن تتماشى أنواع الرغبات الثلاثة بدقة مع طبقات المجتمع الثلاث؛ فالحكام يحكمهم العقل والحراس تحكمهم الرغبة في الشرف والمجد، أما البقية من الحمقى والفقراء فتحكمهم شهواتهم الأولية. وكما أن الإنسان المتوازن لا يدع بطنه أو فرجه يتحكم في عقله، فالدولة القوية يديرها أولئك الذين يسيطر عليهم العقل وعندها يصبح كل شيء منضبطا.

وبعد أن عقد سقراط هذه المقارنة وغيرها بين ما ينفع المدينة وما ينفع الفرد، تتحول المناقشة إلى الإجابة عن التساؤل المرتبط بكيفية بناء مدينة كالتي وصفها على أرض الواقع. (ويستكمل الدفاع عن العدالة لاحقا بينما تستمر مناقشة المدينة الفاضلة وحكامها.)

ولقد وقع جلوكون وأديمانتوس على عناصر بعيدة كل البعد عن الواقعية في مدينة سقراط الخيالية، ألا وهي المساواة في التعليم بين الرجل والمرأة، والفرص التي تتاح لكل منهما. وقد نجح سقراط في إقناعهما أنه من الممكن جدا تنفيذ ذلك. كما نجح في إقناعهما بالاتفاق معه في هذه الجزئية على الأقل، حيث قال إن تشريعه المقترح للمدينة «ليس خياليا أو غير قابل للتطبيق لأن القانون المقترح يتماشى مع الطبيعة، بل إن ما دونه مما هو سائد الآن يعد ... تعارضا مع الطبيعة.» ولكن هذا النقاش حول المرأة أفضى إلى اقتراح آخر بخصوص الجنسين سبب الكثير من المشكلات؛ مما يجعل من الصعب معرفة كيف يمكن لمدينة سقراط أن ترى النور. كان من شأن هذا الاقتراح أن يقابل بالإدانة في عصرنا هذا على الأقل بنفس حرارة ترحيبنا بالمساواة بين الرجل والمرأة. كان مشروعه المقترح سيلغي الزواج التقليدي بين الحراس وتربية الأطفال، ليس هذا وحسب بل ستكون هناك محاولات للتحكم في تناسلهم بحيث لا يمارس الأفضل من بينهم الجنس إلا مع الأفضل من أمثاله، وأي ذرية رديئة سيكون مصيرها القتل، والهدف من ذلك كله هو إعداد أفضل الحراس للمستقبل.

ولتمكين هذا التناسل الانتقائي من الاستمرار بسلاسة سيتاح للحكام أن يخفوا ما يحدث عن بقية الحراس للحفاظ على نقائهم، وسيقيم الحكام احتفالات تتضمن «مراسم أشبه بقرعة محكمة النتائج ... تعد لجعل الطبقات الدنيا من الناس في كل قطاع من قطاعات المجتمع يلقون باللائمة على الصدفة وليس على الحكام» فيما يتعلق بما اختاره لهم الحظ من شركاء أو شريكات في التناسل. وعندما تضع كل امرأة حملها، تؤخذ «ذرية الطبقة الراقية» إلى «حضانات خاصة ليعيشوا فرادى في أحد ربوع المدينة، أما ذرية الطبقة الدنيا وأي ممن يولدون بعيوب خلقية يجري التخلص منهم سرا حتى لا يعلم أحد ما حاق بهم.»

ولا يشعر سقراط بالرضا عن هذا اللجوء إلى الكذب، ويدعو لاعتباره نوعا من العلاج، حيث يجب تحمل النتائج السيئة لهذا الخداع من أجل الصالح العام. ويعترف سقراط أنه يعتبر هذه المسألة «أمرا مقززا». وحتى نفهم كيف راق لشخصية سقراط - التي قدمها أفلاطون - هذا المشروع المروع يجب ملاحظة أمرين؛ أولهما: أن الحراس الذين سيعيشون الحياة الفضلى، والأطفال الذين ستختطفهم الدولة بهذه الطريقة هم من سيخولون سلطات ومسئوليات غير تقليدية. كما أنه نظرا للسلطة التي ستكون في حوزة هؤلاء الحراس والتي يجب فرضها على العامة، لن يكون هناك محاكم مستقلة يحتكم إليها الناس في مظالمهم، وقد بدا من الحكمة أن تتخذ كل الخطوات الممكنة لضمان كفاءة هؤلاء الحراس للمهمة الموكلة إليهم؛ فالهدف من خطة التناسل في النهاية هو الهدف المعلن فقط وهو إخراج «أبناء من نسل الآباء النافعين للدولة ليكونوا أكثر نفعا.» والأمر الآخر هو أن الحكام الذين يختارون من بين الحراس والمسموح لهم بالكذب حتى يتمكنوا من تنظيم التناسل الانتقائي البغيض يختلفون تماما عن أي حكام حقيقيين يمكننا تصورهم؛ فهم يشبهون الآلهة تقريبا. ويستبعد أفلاطون فكرة أنهم قد يسيئون استخدام نفوذهم أو ينحرفون عن وظيفتهم. أما بالنسبة لقتل الأطفال المشوهين سرا فهذا لا يبدو أنه قد أثار في عهد أفلاطون أي جدل يذكر.

وعند احتدام المناقشة حول إمكانية تطبيق تلك الخطة ككل يتملص سقراط من ذلك الجدال، حيث يذكر رفاقه أن «هدفنا لم يكن بيان إمكانية تحقيق هذه الأفكار المثالية» بكل تفاصيلها. ويسأل: «هل تعتقد أنه لا يمكن لرسام بارع أبدع صورة لإنسان في غاية الجمال دونما حذف لأي من التفاصيل اللازمة لتصل هذه الصورة إلى حد الكمال أن يثبت أن مثل هذا الرجل قد يوجد في الواقع؟» فسقراط مستعد لإثبات أن أهم التفاصيل في مدينته الفاضلة مرغوبة من الناحية النظرية، ولكن الهدف الحقيقي هو رسم صورة تستثير الفكر يمكن للناس أن يختاروا منها الأجزاء التي يرونها نافعة؛ فهو لا يحاول أن يشعل شرارة ثورة. ولإرضاء فضول مستمعيه فإن سقراط مستعد للإفصاح عما يراه مجرد «تغيير بسيط لتحويل أية دولة إلى نظام الحكم ذاك»، فيقول إنه لكي تصبح المدينة المثالية واقعا فليس إلا أن يصبح الفلاسفة ملوكا أو أن «يسعى من نطلق عليهم الآن ملوكنا وحكامنا إلى تعلم الفلسفة بحق وعلى نحو كاف.» ويبدو هذا «التغيير البسيط» في الأوضاع القائمة تغييرا جذريا، ولكن لو أتيحت لسقراط الفرصة لبناء مدينته الفاضلة في الواقع بتنفيذ أمنية واحدة له لكان هذا التغيير هو الأقرب لتحقيق ذلك.

ناپیژندل شوی مخ