حلم عقل
حلم العقل: تاريخ الفلسفة من عصر اليونان إلى عصر النهضة
ژانرونه
ولمعرفة كيف يميط الحجاج اللثام عن المثل، نتناول أحد اختبارات سقراط النموذجية التي أجراها للتوصل لمعرفة مثال العدالة، التي تتجاوز في لغة أفلاطون المفاهيم القانونية الحديثة، حيث تعني بالنسبة له «فعل الشيء الصحيح». ويتناول سقراط فكرة مفادها أن رد الأمانة إلى أهلها نموذج للعدالة، وهذا مثال مباشر. ولكن يتساءل سقراط: ماذا إذا استودعك أحدهم سلاحا وتملكه الغضب في وقت لاحق، هل تعيده إليه؟ لا؛ لأنه من المحتمل أن يفقد صوابه ويؤذي الآخرين. ولذلك يكون رد الأمانات إلى أهلها فعلا سليما أحيانا، بينما يكون غير ذلك في أحيان أخرى. وهذا التنوع هو مثال على التقلب الذي تحدث عنه هرقليطس، وهو ما يجعل الإشارة إلى المثل الثابتة ضروريا بالنسبة لأفلاطون. فلا يمكن أن تتغير طبيعة العدالة من لحظة لأخرى بهذا الشكل؛ ولذلك لا يمكن أن يكون «رد الأمانات إلى أهلها» شكلا من أشكال العدالة. لذلك يتعين على سقراط أن يستمر في البحث حتى يصل إلى الشيء الصحيح على الدوام، ولا تقتصر صحته على حالات دون أخرى، وعندما يعثر عليه سيكون هذا هو المثال الثابت للعدالة.
هذا المقتطف من إحدى المجادلات التي جاءت في كتاب «الجمهورية» هو نموذج لمناقشة مطولة بشأن العدالة. فعندما نرى تطبيق نظرية المثل بهذا الشكل فإنها تفقد كثيرا من تأثيراتها الروحية. ولا يتطلب إدراك أحد المثل أكثر من مجرد البحث في مفهوم بعينه. وهذا بالفعل ما يئول الأمر إليه عندما يبحث أفلاطون في هذا المثال بدلا من الحديث عنه.
وسنقدم باختصار بيانا بالمناقشات والاستنتاجات المحورية الواردة في كتاب «الجمهورية». فقد استخدم أفلاطون هذه المحاورة ليؤكد على أفكار سقراط حول ما ينعم به الشخص العادل من سعادة، وما يحل بالظالم من شقاء. وتهدف المحاورة إلى سد بعض الفجوات في الموضوعات التي طرحها سقراط نفسه، وأن ترسم صورة لعلم النفس الإنساني وللمدينة الفاضلة التي تعد أشهر إبداعات أفلاطون (رغم أنه ما من أحد في زمننا هذا يرغب في العيش فيها). وبعد ذلك سنتناول محاورة أفلاطون «طيمايوس» التي تتضمن نظريته عن علم الكونيات. وقد ظلت هذه المحاورة عمليا بمثابة نص مقدس في العلوم الطبيعية لعدة قرون. وتقدم كلتا المحاورتين «الجمهورية» و«طيمايوس» حلول أفلاطون للمشكلة التي عرضها السفسطائيون حول العلاقة بين الإنسان بقوانينه وتقاليده التي تبدو تعسفية ومستبدة من جهة، وبين عالم الطبيعة الثابتة والمجردة من جهة أخرى. ولكن حري بنا في البداية أن نلقي نظرة سريعة على حياة أفلاطون لنستنتج بعض الأشياء عن طبيعته وشخصيته. •••
أفلاطون.
انحدر أفلاطون من عائلة ثرية مترابطة، يصل نسب والده إلى آخر ملوك أثينا، وهو قد بلغ بذلك أقصى درجات النبل (إلا إذا كان ذلك الملك تحديدا غير موجود من الأساس). ونظرا لكونه تلميذا نجيبا ينتمي إلى وسط كهذا؛ فقد كان من الطبيعي أن يعلق آماله على العمل بالسياسة، ولكن سرعان ما خاب أمله، ليس لأنه لم يكن على المستوى المتوقع بل لأن السياسة هي التي كانت كذلك. وعندما كتب عن السياسة لاحقا بعدما اهتز لأفكار سقراط المثالية، يقول أفلاطون إنه «انسحب في اشمئزاز من مفاسد ذلك الزمان.» وبعد عدة أعوام من ذلك الانفصال المبكر بينه وبين السياسة، سنحت له فرصة ليطبق أفكاره السياسية في إمبراطورية سيراقوسا، لكن الفرصة لم تدم طويلا. وقد اعتبر أفلاطون نفسه محظوظا فيما بعد لتمكنه من النجاة من هذه المرحلة المأساوية الهزلية من حياته. وربما وجد عزاءه الوحيد في أن الأكاديمية التي كان قد أنشأها في أثينا قبل أعوام والتي تفرغ لها في ذلك الوقت استمرت حوالي 900 عام.
وكانت فرصة أفلاطون الأولى لدخول مجال العمل السياسي في زمن الطغاة الثلاثين الذين تولوا مقاليد الحكم لفترة قصيرة بعد هزيمة أثينا في الحرب البلوبونيزية حيث كان اثنان من أقاربه أعضاء في تلك الحكومة البغيضة، وعرضا عليه العمل معهما. وقد كان أفلاطون طموحا وكان لا يزال في العشرينيات من عمره ولكنه أدرك بوضوح حقيقة الطغاة ورفض العرض. ورأى أفلاطون أن خطيئتهم الكبرى كانت محاولتهم إشراك سقراط «أعدل أهل زمانه» في أعمالهم. ويبدو أن الأمور تحسنت في أثينا لبعض الوقت بعد عودة الديمقراطية؛ مما جعل أفلاطون يعتقد في البداية أن وقته قد حان، ولكن تملكه الفزع حين تسبب «بعض من كانوا في السلطة» في محاكمة سقراط وإعدامه، فكان هذا درسا قاسيا لما يمكن أن يحدث في ظل الديمقراطية؛ مما أحدث أثرا سلبيا في الآراء السياسية لأفلاطون لم يتحرر منه قط.
لقد تحطمت آماله في الحياة العامة في أثينا وكل من انتظار اللحظة المناسبة لتكوين حكومة أفضل، وعن ذلك يقول:
أدركت أخيرا أن أنظمة الحكم في كل الدول دون استثناء سيئة؛ ولذلك فأنا مجبر على القول إن الجنس البشري لن يعيش أياما أفضل إلى أن يتولى السلطة السياسية من يتبعون الفلسفة حقا وصدقا، أو حين تحيل العناية الإلهية من بيدهم السلطة السياسية إلى فلاسفة حقيقيين.
كان أفلاطون في الثامنة والعشرين من عمره حين أعدم سقراط «الفيلسوف حقا وصدقا» عام 399 قبل الميلاد، وارتحل إلى أماكن عديدة في الأعوام القليلة التالية، وكان معظم هذه الرحلات لزيارة الفلاسفة والرياضيين الآخرين. في البداية رحل إلى ميجارا ليبقى مع إقليدس، وهو أحد أتباع سقراط وشارك أفلاطون اهتمامه ببارمنيدس، بل ربما يكون هو من غرس فيه ذاك الاهتمام. وكان فلاسفة ميجارا كما رأينا في الفصل السابق مهتمين بالغ الاهتمام بالخير وماهيته. وعلى النقيض كان الكثير ممن قابلهم أفلاطون في رحلاته التالية إلى إيطاليا وصقلية مهتمين في الأساس بقضاء وقت ممتع حيث يقول:
وجدت نفسي أختلف بشدة مع نمط الحياة التي توصف «بالسعيدة»؛ فهي مجرد حياة مليئة بالولائم الإيطالية والسيراقوسية، يقوم فيها كل شخص بملء بطنه مرتين كل يوم ولا يرقد في فراشه وحيدا أبدا، وينغمس في كل الممارسات الحسية المرتبطة بأسلوب الحياة هذا. وفي مثل هذه البيئة لا يمكن لأي إنسان تربى على هذا الانغماس في الملذات أن يصير حكيما.
ناپیژندل شوی مخ