71

حلم عقل

حلم العقل: تاريخ الفلسفة من عصر اليونان إلى عصر النهضة

ژانرونه

ويتضح أن الفضائل نفسها هي أحد جوانب الحياة الصالحة التي يرتبط بعضها ببعض بشكل رائع ومدهش. ويرى سقراط أنها تأتي دفعة واحدة أو لا تأتي على الإطلاق، فدائما ما تحاول محاوراته إظهار أن فضيلة معينة لا تعمل بشكل صحيح إلا بوجود فضيلة أخرى؛ فالشجاعة مثلا تتطلب الحكمة. وليس من الجيد أن تكون جريئا إذا كنت أحمق لأن الشجاعة المنشودة في تلك الحالة ستتضاءل إلى محض تهور. وكذلك تتشابك كل الفضائل الأخرى بطرق مماثلة، وتلعب إحداها دورا خاصا وهي فضيلة الحكمة؛ لأنه دون مقدار معين من الحكمة سيسيء الناس تقدير عواقب الأعمال حتى لا يتمكنوا من معرفة الصواب من الخطأ، وهو الشرط الأساسي للحياة الفاضلة. وبدون الحكمة لن يتمكنوا أيضا من أن يكونوا سعداء؛ ذلك أن المنفعة التي قد تؤدي إلى إسعاد الإنسان يمكن أن يساء استخدامها ومن ثم تؤدي إلى العكس. ولذلك يحتاج الإنسان للحكمة لكي يحقق المنفعة من وراء الأعمال الصالحة وأيضا ليتحلى بالفضيلة.

ويرى سقراط أن الرابط بين الفضيلة والحكمة شديد القوة؛ لدرجة أنه قد طابق بينهما بشكل ما. من المؤكد أنهما متداخلتان، كما يرى سقراط أنه إذا تحلى أي شخص بأي من الفضائل الأخرى فمن المؤكد أنه يتحلى بالحكمة لأنه إن لم يفعل فسيكون قد فشل في أن يكون فاضلا، أما إن كان يتحلى بفضيلة الحكمة فسيكون قد تحلى بالفضائل الأخرى كافة؛ ذلك أن هذه الحكمة ستمكنه من إدراك أنه لن يستطيع تحقيق السعادة دون ممارسة الفضائل الأخرى أيضا. وكما رأينا فقد اعتقد سقراط أن السلوك الأخلاقي يعود بالنفع على الروح، وأن الشخص الشرير يؤذي نفسه روحيا. وإن صح هذا فسيدرك من كان حكيما بحق هذه الحقيقة. وكل من يدرك هذه الحقيقة وكل من يقدر قيمة روحه كما يفعل كل رجل حكيم سيتجنب حينئذ الأعمال الطالحة. وهذا يوضح لماذا اعتقد سقراط أن أحدا لا يفعل الشر عن علم؛ لأنه عندما يرتكب الإنسان خطأ فإن التفسير الوحيد المعقول لذلك هو أنه لا يعلم أن أفعاله تلك تؤذي روحه؛ ومن ثم فهو يتصرف عن جهل. وبشكل عام فإن هذه الاعتبارات كانت تدعم فكرة سقراط التي تقول إنه إذا ساعدت محاوراته الناس في الوصول إلى الحكمة فسيكون هو قد ساعدهم في الوصول إلى الفضيلة أيضا.

وفي إحدى محاورات أفلاطون لخص سقراط جزءا كبيرا من نظريته عند إنهائه لمناقشته مع كاليكلس، وهو أحد النبلاء الصغار يوشك على دخول الحياة العامة قائلا:

من الضروري أن يكون الرجل المعتدل صاحب العقل السليم يا كاليكلس صالحا - كما أوضحنا أنه عادل وشجاع وتقي - ويجب على الرجل الصالح أن يتقن أي شيء يفعله، ومن يتقن عمله يعش سعيدا منعما، أما الشرير الذي يفسد عمله يصبح بالضرورة بائسا.

هل نجح سقراط فعلا في أن يثبت كل هذا؟ لقد أجفل مستمعوه كثيرا من القفزات المنطقية التي كان يقوم بها دون عناء؛ ولذلك ظلت أشياء كثيرة محل شك وبخاصة حديثه عن السعادة. وقد كان أرسطو محقا في اعتراضه على تلك النقطة حيث يقول: «إن الذين يقولون إن الضحية التي تتعرض للمعاناة، أو الإنسان الذي يتعرض للمحن يسعد إن كان صالحا سواء قصد ذلك أم لا؛ فكلامه هراء لا صحة فيه ولا طائل من ورائه.» وفي إحدى المرات علق أحد المستمعين لسقراط بنبرات مرتبكة بقوله: «إذا كنت جادا وكان ما تقوله صحيحا فمن المؤكد أن حياتنا نحن البشر الفانين مقلوبة رأسا على عقب.»

وهذا بالضبط هو ما أراد سقراط فعله: ألا وهو إعادة صياغة أفكار الناس عن الأخلاق. ومن الواضح أن هذا لم يكن بالأمر السهل؛ فلكي يتمكن من فعل ذلك بالمجادلة يجب أن تكون المناقشات مختلفة تمام الاختلاف عن المناقشات النظرية؛ لأن «ما يناقش ليس أمرا عاديا بل كيف يجب أن نعيش.» وسيكون من الضروري أحيانا استخدام قدر من المبالغة والتبسيط إذا ما كانت الفكرة الأخلاقية محل النقاش تفرض بالقوة، فعندما قال سقراط مثلا إن الرجل الصالح لا يمسه السوء، لم يقصد من ذلك أنه بمنأى عن العديد من الأشياء المكروهة، بل كان يحاول إقناع مستمعيه بأن تلك المحن أقل وطأة من إفساد الرجل روحه. وبالمثل عندما قال إن الإنسان الشرير بائس لم يكن يعني أنه لا يمر أحيانا بأيام سارة. لقد كان يعظ من يسمعونه حتى يقدروا قيمة الفضيلة بأوسع معانيها، وربما ليشفقوا على من لم يتمكن من الوصول إليها. وعندما قال إن الصلاح يجلب الثراء وكل النعم الأخرى، لم يكن يقصد أنه بتهذيب النفس يصبح الإنسان ثريا بشكل سريع. وفي هذا السياق الذي اهتم فيه بنفي أن الثروة تجلب الصلاح أكثر من اهتمامه بإقناع الناس بالعكس، رسم سقراط صورة لأفضل أنواع الحياة الإنسانية يسعى فيها الإنسان خلف كل ما هو صالح ويستمتع به على نحو كامل؛ بفضل ممارسة الحكمة العملية والفضائل الأخرى.

وليست هذه فعليا مجموعة عادية من المبادئ، بل إنها ليست مبادئ على الإطلاق. إن ما أطلق عليه نظرية سقراط عن الحياة الإنسانية لم يقدمه سقراط مباشرة بهذا الشكل؛ فهذه الأفكار هي الأفكار التي اعتمد عليها عند استجوابه للآخرين أو التي قاومت المحاكمة عن طريق الإشكاليات الجدلية. وكان الهدف النهائي الذي ربما لم يتحقق قط هو إنتاج نوع من المعرفة المتخصصة، كما المعرفة المتخصصة للحرفيين المهرة، رغم أنها لم تختص بصناعة الأحذية ولا بالمعادن ولكن بالحرفة الأم وهي العيش السليم.

ولا يجب النظر إلى ما انتهى إليه سقراط من المناقشات على أنه أكثر من مجرد خطوات متعثرة في سعيه إلى المعرفة الأخلاقية المتخصصة. وأحيانا ما انحرف سقراط عن الطريق كلما تملق سقراط إلى رفاق دربه أو حثهم على السعي بوخزاته الساخرة أو بتقديم حجة تجذبهم بشكل مشوق (أو على الأقل تدفعهم إلى التوقف والتفكير). وكانت النتيجة كما قال نيتشه هي حكمة مفعمة بالمزاح. ولأن ما حاول سقراط الوصول إليه كان نوعا من الحكمة يتميز بطابع أخلاقي؛ فقد اصطبغت محاوراته بالوعظ والمثالية ومخاطبة العاطفة الأخلاقية والمنطق والفطرة السليمة على حد سواء. ولهذا بدا أن تلك المحاورات - من وجهة النظر المجردة وباعتبارها محاولات للوصول إلى منطق خالص - تتضمن فجوات غير معقولة من النوع الذي لاحظه أرسطو.

ولم يقدم سقراط تصورا ملهما عن الحياة المثالية فحسب، بل إن أسلوب حديثه يزاوج بين الوعظ والمنطق، وهو السبب في اعتبار أسلوبه إضافة للفلسفة الجدلية وإثراء لها أكثر من الوعظ الديني؛ فكل ما يقوله يأتي في سياق جدلي حيث تطلب الأسباب وتختبر الاستنتاجات وتنقح التعريفات وتستنبط النتائج وتستبعد الفرضيات. وهذا هو المذهب الوحيد الذي فيه من الجدية ما يكفي للتعامل بإنصاف مع مسألة الحياة السليمة ؛ ولذلك يرى سقراط أن الوعظ المسئول يتعين تضمينه في جدال مدعوم بالبراهين. ولا يمكن للتلخيص المجرد لاستنتاجات سقراط المرحلية كذلك الذي عرضناه هنا أن يبين قوة مزجه بين المثالية والمنطق الواقعي؛ إذ إن هذا التلخيص بالضرورة يجعل أفكاره كسرب من الأسماك التي لفظها البحر على الشاطئ وتعاني للعودة إليه. لقد ترعرعت أفكاره أثناء سبحه في بحر الجدال، ولا يمكن النظر إليها الآن إلا في سياق محاورات أفلاطون الأولى. •••

لم يكن سقراط معلما يسهل اتباعه؛ ومن أهم أسباب ذلك أنه رفض بإصرار أن يكون معلما. ومع ذلك فليس من المدهش أن نجد بعض أصدقائه أرادوا بعد وفاته أن يستكملوا هذا العمل الصالح بشكل ما. وبما أنه كان ولا يزال من الصعب تحديد ما وصل إليه هذا العمل؛ فليس من المدهش أيضا أن نجد خلفاء سقراط المستقبليين وقد انتهى بهم الأمر بتبني قضايا مختلفة. كان أفلاطون أعظم من خلفه. أما البقية فكانوا مجموعة متنوعة، ولكن كان لثلاثة منهم تأثير ملحوظ بشكل أو آخر.

ناپیژندل شوی مخ