حلم عقل
حلم العقل: تاريخ الفلسفة من عصر اليونان إلى عصر النهضة
ژانرونه
الفكرة الرئيسة في هذا الرد مقبولة؛ ولا يمكننا القول بدحض ادعاء سقراط بخصوص ما يمكن أن تنجزه أساليبه وتفنيده؛ إذ لم يوضع هذا الادعاء موضع الاختبار أساسا لأنه لم يكتشف بعد ماهية الفضيلة. ولكن مع ذلك، لماذا يجب أن يصدقه من يسمعه يقول إن المعرفة الكاملة للفضيلة إذا ما نجحنا في الوصول إليها تؤدي إلى سلوك فاضل؟ يبدو هذا افتراضا غير معقول عندما نفكر كيف أن الناس غالبا ما يملكون إرادة ضعيفة وتعيبهم الأنانية وقصر النظر؛ فكثيرا ما يرى الناس خطأ شيء ما من الناحية الأخلاقية، ولكنهم مع ذلك يقدمون عليه، فما يدفعنا للاعتقاد أن الوضع سيختلف إذا ما عرفوا المزيد؟
اعتقد أرسطو أن سقراط كان يملك صورة مبالغا في بساطتها عن النفسية الإنسانية فقال: «إنه يتخلص من الجزء غير العقلاني من الروح ؛ ومن ثم فهو يتخلص أيضا من العاطفة والشخصية.» لقد نظر سقراط إلى الأفعال والعاطفة الإنسانية من منظور منطقي أو عقلاني بشكل كبير متجاهلا الدوافع واللاعقلانية المتعمدة فيقول: «لا أحد يتصرف عكس ما يؤمن أنه الأفضل، وما يتصرف الناس هكذا إلا بدافع من جهل.» وهذا يفسر الاهتمام المبالغ فيه الذي منحه سقراط للتساؤلات حول الفضيلة، فإذا ما كان السبب الوحيد لعجز الناس عن فعل الأفضل أيا كان هو جهلهم، فالعلاج إذن للانحراف الأخلاقي هو المزيد من المعرفة.
يبدو أفلاطون لأول مرة في هذه النقطة أكثر واقعية من سقراط؛ فقد أدرك الجزء غير العقلاني من الروح ورأى أنه في صراع دائم مع الجزء العقلاني. (وفي الأوقات التي بدا فيها أكثر تأثرا بفيثاغورس ومذهبه وصف أفلاطون ذلك الصراع بأنه صراع بين الروح والجسد)؛ ولذلك لم يكن تحقيق الفضيلة بالنسبة لأفلاطون تحصيل المعرفة فحسب ولكن تشجيع سلوك معين. وفي المدينة الفاضلة التي تحدث عنها في كتابه «الجمهورية» تضمن الأمر تدريبا ونظاما دقيقين للشباب، ومتابعة قريبة لبيئتهم الأولى بل لنوع الموسيقى التي كانوا يستمعون إليها ونوع الحكايات التي سمح لهم بالاستماع إليها.
ومن الواضح أن سقراط نفسه لم يكن في حاجة لمثل هذا التدريب؛ فقد كان منضبطا من جميع النواحي بشكل فائق، وكان أستاذا للتحكم في النفس بطريقة عقلانية. وربما كانت هذه هي المشكلة؛ فقد يفسر ذلك لم علق آمالا عريضة على الآخرين بشكل يستحيل معه تحقيقها، ولم افترض أنهم لو علموا فقط ماهية العدالة لتحلوا بالعدل فورا. وقد قيل عن سقراط إن «قوة شخصيته هي موطن ضعف فلسفته.» وهذه صياغة أنيقة، ولكن أفكار سقراط كان فيها من الترابط والوضوح أكثر مما يبدو. بيد أنه يجب القول إن تفسيره العقلاني بشكل غير مقبول للنفس البشرية لم يكن المشكلة الوحيدة على أية حال، فحتى لو كان ثمة حكيم يناهزه انضباطا والتزاما، وولد بشكل ما دون الجزء غير العقلاني من روحه؛ فمن الصعب تصور كيف سيجعله هذا شخصا صالحا من الناحية الأخلاقية. أفلا يمكن أن يكون هناك شخص على القدر نفسه من عقلانية سقراط ويتصف بالحكمة التي كان يسعى إليها، ومع ذلك فهو خبيث مثل شيطان ميلتون الذي تبنى الشر على علم بقوله: «فلتكن أيها الشر خيري؟» وعلى عكس ما يقول سقراط الذي قال (وفقا لرواية أرسطو): «لا أحد يختار الشر وهو يعلم.» ولم يتجاهل سقراط التهور والاندفاع واللاعقلانية بشكل جيد فحسب بل أعلن أن الانحراف الأخلاقي المتعمد مستحيل ببساطة. ويبدو أنه لم يقابل قط إنسانا شريرا فضلا عن ملاك شرير.
هل كان سقراط ساذجا إذن؟ لقد كتب نيتشه عن «السذاجة واليقين الإلهيين في أسلوب حياة سقراط»، ولكن يبدو أن ما كان يقصده هو التركز الحاد في رؤية سقراط وليس مجرد براءة حمقاء. لقد ظل نيتشه يفكر مليا في عادة سقراط في التعبير عن نفسه بعبارات تبدو ساذجة، واستنتج أن ذلك كان في الحقيقة «حكمة مليئة بالمزاح». وقد أدرك نيتشه أنه من المهم وضع الظروف التي أجرى فيها سقراط مناقشاته في الاعتبار. وتعتمد معظم الآراء المتناقضة التي قد تنسب إلى سقراط على أشياء قالها لشخص ما أو أشياء اتفق معها لغرض مميز وفي سياق مميز؛ فقد سعى للتدريس عن طريق الإغاظة والتملق والاستفزاز، وأنكر أنه درس من الأساس. وقد حاول إماطة اللثام عن حقيقة الأشياء بتجريب أفكار عدة على مستمعيه ببراعة، ولم تكن الحيل العقلية جزءا ولو صغيرا من هذه الأفكار. وقد كتب جالن - وهو طبيب وفيلسوف عاش في القرن الثاني الميلادي - يقول: «إن هذا كان بمنزلة ربة الشعر لدى سقراط التي تمكنه من المزج بين الجد وقليل من الهزل.»
ولا يمكن تبرير الجوانب غير المعقولة في آرائه بالقول إنه لم يكن يعنيها؛ فهذا قد يحسن من صورة المنطق السليم الدنيوي لدى سقراط، ولكن على حساب استبعاد كل ما قاله تقريبا. ومع ذلك يمكن تفسير ما يقوله سقراط بشكل أفضل عند وضع مشروعاته التعليمية غير التقليدية في الاعتبار. وسنقوم الآن بتجميع أجزاء نظرية الحياة الإنسانية التي جاءت في تصريحات سقراط الساذجة وغير المعقولة. والنتيجة هي مجموعة من الأفكار التي ثبت أنها مثمرة جدا على أقل تقدير، ليس في تهذيب بعض مستمعيه المباشرين فحسب، بل في تحفيز قدر كبير من فلسفة الأخلاق فيما بعد. •••
تبدأ نظرية سقراط بالروح وتنتهي عندها، وهو يقول في «الدفاع» إن أهم شيء في الحياة هو النظر إلى رفاهيتها، ويقول في مواضع أخرى إن الروح هي ما «تشوهها الأعمال الطالحة وتفيدها الأعمال الصالحة.» وهو لا يعني أعمال الآخرين بل أعمال المرء نفسه، فالأعمال الصالحة تعود بالنفع على الروح، والأعمال الطالحة تعود بالضرر عليها والأذى لها. وبما أن الروح تحظى بأكبر قدر من الأهمية فإن أنواع الضرر الأخرى ليست على القدر نفسه من الأهمية. فلا يمكن لشيء يفعله الناس ضدك أن يضيع المنفعة التي حققتها لنفسك بأعمالك الصالحة. ويستتبع ذلك أن الفاسدين لا يضرون إلا أنفسهم في النهاية فيقول: «لا شيء يضر الرجل الصالح في حياته أو بعد مماته.»
ولذلك لم يتملك سقراط الخوف من المحكمة التي مثل أمامها، فهو لم يكن لينحني لسلوك مخز كي يحصل على البراءة لأن «الصعوبة لا تكمن في الفرار من الموت، بل في الفرار من الأعمال الخاطئة وهو ما يتجاوز فرار الأقدام بكثير.» وترجع صعوبة الامتناع عن الشر في أحد أسبابها إلى أنه إذا حاول شخص أن يؤذيك فمن المغري في الغالب أن تحاول الانتقام منه، ولكن بما أنه من الخطأ أن تفعل شرا أو تقترف إثما - وهو ما قد يضر روحك مهما كان عذرك - يقول سقراط إنه يجب ألا ترد الإساءة بالإساءة.
ويتعارض هذا مع الأعراف الأخلاقية الإغريقية التي تعتبر إيذاء الأعداء مقبولا، رغم أن ذلك لا يشمل الأصدقاء وبخاصة العائلة. ولكن القيم الأخلاقية الصارمة لسقراط تزيل تلك الفروق بين الناس وتقدم منظومة أخلاقية كونية بديلة. ومما يلفت النظر فيها هو أنها تفعل ذلك بمراعاة المصلحة الشخصية لا مشاعر الإيثار التي تعد عادة الدافع الرئيس وراء السلوك الأخلاقي؛ فالعمل الصالح يشبه الاهتمام بالجزء الأهم من النفس وهو الروح. ولا يشبه هذا الأمر الأنانية المعتادة لأن السبيل الوحيد لتحقيق تلك المنفعة للنفس هو التحلي بالعدل وممارسة الفضائل الأخرى أيضا، ولا يمكن تحقيقها بتقديم المصالح الشخصية على مصالح الآخرين، بل بجعل تطوير النفس أخلاقيا فوق كل الدوافع الأخرى. وكذلك لا تعتمد هذه الأخلاق غير التقليدية على انتظار مكافأة سماوية أو الخوف من عقاب؛ فثمار الفضيلة تجنى في الحال تقريبا لأن «العيش الصالح يكافئ العيش بشرف» و«(الرجل) الصالح يسعد والطالح يشقى.» ويرى سقراط أن السعادة والفضيلة مترابطتان؛ ولذا فإن مصلحة أهلها أن يتحلوا بالأخلاق الحسنة.
من الصعب فهم هذا الجزء بالتحديد؛ حيث إنه من الحقائق غير المنصفة في الحياة أن الأشرار ينعمون أحيانا، وهو ما يحد من بريق فكرة سقراط، ولكن سقراط يرى أن العناية الناجحة بالروح تجلب جميع أنواع الخير التي قد لا تبدو واضحة في البداية. ويرى سقراط كذلك أن ثمة روابط غير متوقعة بين بعض الأعمال الصالحة في الحياة، وأن السعادة مسألة أعقد مما يظنها المرء في البداية؛ فقد يبدو أن الأشرار يتمتعون بكل أنواع الملذات ولكن في الحقيقة هناك ما لا يمكنهم التمتع به، وهذا له من الأهمية ما يكفي للشك في فكرة أن هؤلاء الناس يمكنهم أن يكونوا سعداء على الإطلاق. ويزعم أن المتع العقلية تندرج ضمن هذه الفئة، كما أن ثمة أنواعا أخرى من الرضا والارتياح التي لا يمكن الحصول عليها دون ممارسة الفضائل. ولنضرب مثالا بسيطا على ذلك: إذا لم يمارس المرء فضيلة الوسطية لما تمتع بالصحة، وربما يحرم نفسه من ملذات عديدة في المستقبل من أجل القليل الآن. لذا فبدون ممارسة الفضيلة لن يستطيع الإنسان أن يسعد على الإطلاق.
ناپیژندل شوی مخ