حلم عقل
حلم العقل: تاريخ الفلسفة من عصر اليونان إلى عصر النهضة
ژانرونه
لقد علم سقراط ذلك؛ فلم يتوهم القدرة على الإثبات الحاسم لأية معتقدات أخلاقية، بل على العكس فقد كان يصر دائما على التشكيك الذي اكتنف استفساراته، فمثلا قبل الشروع في الدفاع عن أطروحة ما، يعترف: «إنني أحيانا أكون مع الرأي المضاد؛ لأن أفكاري بخصوصه شديدة الاتساع، وهي حالة يسببها الجهل بوضوح.» ويقول لمحاوره إنه لا ريب في أنه أخطأ في تبني هذه الأطروحة الآن، ولكن دعنا نتابع الحجاج حيثما يقودنا فربما تتمكن من إرشادي إلى الصواب. وعندما قال سقراط سلفا في تلك المحاورة: «أنا مليء بالعيوب ودائما ما أخطئ في فهم الأشياء بطريقة أو بأخرى.» فهو يتواضع بعض الشيء ولكنه يدرك تماما أنه لا يملك براهين قاطعة على غرار البراهين الرياضية فيما يخص الفضائل.
هل وصل سقراط إلى شيء إذن؟ هل نجح فعلا في تقديم أية معرفة بالفضائل؟ من ناحية ما نعم؛ فهو يقدم - وإن كان بشكل غير مباشر - العديد من الآراء الصريحة وغير التقليدية بعض الشيء حول الفضيلة والتي تشكل في مجملها نظرية للحياة البشرية. أما بخصوص ما إذا كان قد نجح في إقناع مستمعيه بنظريته فالإجابة عامة بالنفي، ولكنه لا يستهدف إقناعهم على أية حال؛ لأنه ليس متأكدا تماما من صحة نظريته، إضافة إلى أن على الناس أن يجدوا طريقهم الخاص إلى الحقيقة حول هذه المسائل. إن ما يهدف سقراط لفعله هو إخضاع بعض الآراء حول الفضيلة للتجربة، وهذا ينطبق على كل من آرائه وآراء من يحاورهم. ثم تتحول هذه التجربة إلى محاكمة بالإشكال الجدلي، حيث يجب التشكيك في تعريفات العديد من المسائل أو تفسيراتها؛ ومن ثم أيضا حلها، وأيا ما يتجاوز هذا الاستجواب يجري قبوله مؤقتا. إن النتائج التي تحققها هذه الطريقة لا تصل إلى كثير من مظاهر الحكمة الحقيقية، ولكنها مع ذلك تبقى أفضل الطرق المتاحة، فتلك الاستفسارات تقود إلى نوع من المعرفة؛ لذلك فإن إنكار سقراط الصريح لمعرفته أي شيء فيه مفارقة جزئية.
إن معظم الاستقصاءات التي تعود في أصلها إلى سقراط في محاورات أفلاطون تنتهي دون الوصول إلى استنتاج نهائي؛ فهو يسعى بشراهة للبحث مثلا عن ماهية العدالة، ويظل يجادل لبعض الوقت ثم يعود إلى منزله خالي الوفاض، ولكن ليس تماما؛ فالمحاورات عادة ما تنجح على الأقل في كشف شيء مهم في طريقها، فمثلا في إحدى محاورات أفلاطون الأولى يستجوب سقراط رجلا يدعى يوثيفرو حول طبيعة التقوى أو القدسية. ورغم أن سقراط لم ينجح في تعريف التقوى بدقة فقد تمكن من توضيح شيء مثير عما لا تمثله.
يتقابل الرجلان خارج قاعة المحكمة حيث يقاضي يوثيفرو أباه لتسببه غير المتعمد (ولكن ربما بشكل يدينه) في مقتل عبد قتل بدوره عبدا آخر. وعقدت الدهشة لسان سقراط عندما علم أن يوثيفرو يريد أن يستمر في تلك القضية. ويصر يوثيفرو على أنه يعلم ما يفعله، رغم أن عائلته تراه ابنا عاقا لمقاضاته والده بوصفه قاتلا، فعائلته تجهل ما هو مقدس بينما يمتلك هو «معرفة دقيقة بكل ما هو كذلك»؛ ولذلك فليس لديه شك في صواب ما يفعل. ويتعجب سقراط مما لدى يوثيفرو من حكمة واثقة، ويطلب منه أن يشاركه تلك الحكمة ويخبره ما هي القدسية. في البداية يجيب يوثيفرو بأن القدسية هي ما تحبه الآلهة، ولكن سقراط يأخذه إلى فكرة أنه ما دامت الآلهة تختلف عن بعضها اختلافا كثيرا؛ فمن المفترض أنها لا تحب الشيء نفسه أو تبيحه دائما، وهذا يعني أن إباحة الإله لشيء ما أو منعه إياه لا يمكن أن يكون معيارا لما هو مقدس؛ إذ قد يبيحه أحد الآلهة ولا يبيحه الآخر، وفي تلك الحالة لا يمكن أن يكون الفرد حكيما بخصوص قدسية هذا الشيء. ولذلك يعدل سقراط ويوثيفرو التعريف المقترح ليصبح كل ما تتفق الآلهة في إباحته. ولكن يخطر ببال سقراط هذا السؤال: «هل يعد المقدس مقدسا لأن الآلهة أباحته؟ أم أن الآلهة أباحته لأنه مقدس؟» وهذا سؤال ممتاز لدرجة أن يوثيفرو لم يفهمه في البداية، وأصبح السؤال هكذا: «هل يعد ما أباحته الآلهة مقدسا لمجرد أنهم أباحوه؟ أم أنهم ملتزمون بإباحة أشياء معينة فقط وهي الأشياء المقدسة في ذاتها بغض النظر عن إباحة الآلهة لها؟» لسوء الحظ لم يملك أفلاطون من المفردات اللغوية ما يمكنه من توضيح الفارق؛ ولذلك فعندما يحاول سقراط أن يشرحه يتعثر كلامه بأمور نحوية ليست ذات صلة وليست في مجملها ملزمة. ولكن يبدو أن سقراط قد أماط اللثام عن معضلة تتمثل في العلاقة بين الدين والأخلاق. فإذا طرحنا السؤال نفسه حول ما يعد صوابا من الناحية الأخلاقية بدلا مما هو مقدس، فسنواجه خيارا كاشفا يقول إما أن الصواب لا يمكن وصفه ببساطة بأنه ما تريده الآلهة، أو أن الأمر مجرد حشو للقول إن الآلهة صالحة ومحقة، وفي هذه الحالة سيكون الثناء على الآلهة مجرد عبادة للقوة. وكما يقول لايبنتس في بداية القرن الثامن عشر (حينما كانت الآلهة قد تقلصت إلى إله واحد):
إن الذين يؤمنون أن الرب قد خلق الخير والشر اعتباطا لا منطق فيه، إنما يجردون الرب من صفة الخيرية؛ إذ لا سبب يجعل العبد يحمده ويثني عليه على ما يفعله إذا كان يستطيع فعل شيء مختلف تماما بدرجة الإتقان نفسها.
لم يطور سقراط - الذي في محاورات أفلاطون - الجدل إلى هذه المرحلة، ولكن يبدو أنه قد رأى أن القيم الأخلاقية لا يمكن اشتقاقها ببساطة من اعتبارات ما تحبه الآلهة؛ لأن ذلك يجرد الآلهة (أو الرب) من أية سلطة أخلاقية. ويبدو أن يوثيفرو قد اقتنع، رغم أنه تراجع بعدها وهرع إلى قاعة المحكمة دون أن يستسلم لمنطق سقراط. وهكذا نجح سقراط في إحراز تقدم مهم حتى لو لم يحسم المسألة محل النقاش.
ولكن ما زال هناك شيء غير مقنع فيما يهدف إليه سقراط في المحاورات المماثلة، فهل لاستجوابه أو حتى أي نوع من الاجتهاد العقلي أن يحصل الفوائد التي يزعمها؟ فرغم أنه لا يزعم محاولة الوصول إلى الحقيقة الكاملة للفضيلة، ورغم أننا نتفق أنه نجح مع ذلك في إحراز تقدم فكري؛ فمن الصعب معرفة كيف يكون لمناقشاته القوة التي ينسبها إليها. وتكمن المشكلة في اعتقاده أن مناقشة الفضيلة تؤدي بالفرد فعلا إلى أن يصبح إنسانا أفضل. وهذا ليس عرضا جانبيا بل هو الفكرة ذاتها التي يستحضرها سقراط لتبرير إخضاعه الآخرين لمحاوراته التجريبية، وهو يعتقد أن هذا في مصلحتهم، ليس لأن تلك المناقشات مهمة في ذاتها، ولكن لأن إجراءها هو السبيل الوحيد إلى الفضيلة الشخصية. ويبدو هذا غير مقبول على أقل تقدير؛ فمعرفة أن مبدأ ما صواب أمر بينما التصرف وفق هذا المبدأ أمر مختلف تماما. أولا يستطيع أي شخص أن يعرف كل شيء عن الفضيلة من خلال مناقشة سقراط ثم يتركه ويتحول إلى الشر؟ وكما رأينا يبدو أن كريتياس وكارميدس وربما ألسبيادس قد فعلوا هذا تماما.
وقد شن أرسطو هجوما متكررا على سقراط في هذه السطور قائلا: «لا ينبغي أن يقتصر تساؤلنا على معرفة ما هي الفضيلة، بل يجب أن يشمل هذا التساؤل كيفية تحقيقها.» واتهم سقراط بالفشل في التفرقة بين الأسئلة التطبيقية والأسئلة النظرية فيقول:
لقد اعتقد أن الفضائل جميعا نوع من أنواع المعرفة بحيث تأتي معرفة العدالة والتحلي بصفة العدل معا؛ لذلك فهو يتساءل عن ماهية العدالة بدلا من أسبابها ومصادرها. ويصلح هذا المذهب فيما يتعلق بالمعرفة النظرية؛ ذلك أنه ليس ثمة أي شيء آخر في علم الفلك أو الفيزياء أو الهندسة سوى التأمل في طبيعة الأشياء؛ فهذا هو مجال بحث هذه العلوم، ولكن هدف العلوم التطبيقية مختلف؛ لأننا لا نود معرفة ما هي الشجاعة بل كيف تكون شجاعا، ولا ما هي العدالة بل كيف تكون عادلا، تماما كما نود أن نكون أصحاء بدلا من أن نعرف ما هي الصحة.
كان لدى سقراط رد على ذلك، وربما كان رده سيسير على النحو التالي: «لقد ظلمتني؛ فالسبب في فشل كريتياس وكارميدس وغيرهم من التلاميذ المثيرين للمشكلات في أن يتحلوا بالفضيلة ببساطة هو أنهم لم يتعلموا ما يكفي عنها. ولو أننا استكملنا مناقشاتنا لتحلى هؤلاء بالعدل واتصفوا به. وهكذا بينما أتفق أننا لا نريد معرفة كنه الفضيلة فحسب بل نريد أن نكون أنفسنا فاضلين؛ فإن ما أقصده هو أنه إذا عرفنا ما هي الفضيلة فستأتي الفضيلة تبعا لذلك من تلقاء نفسها. وكما أقول دائما فأنا لا أعرف ما هي الفضيلة؛ لذا فإني لا أستطيع أن أتحلى بها في نفسي ناهيك عن الآخرين. وهذا بالضبط ما يوجب علينا الاستمرار في البحث عن الفضيلة.»
ناپیژندل شوی مخ