67

حلم عقل

حلم العقل: تاريخ الفلسفة من عصر اليونان إلى عصر النهضة

ژانرونه

وأضاف أنه إذا كانت هناك حياة بعد الموت فسيكون لديه فرصة لمقابلة «أبطال الأيام الخوالي الذين لقوا حتفهم بمحاكمات غير عادلة ومقارنة حظي بحظهم، وسيكون هذا ممتعا.» •••

ورغم حديث سقراط عن الجهل وإصراره على أنه كان محض قابلة تولد أفكار الآخرين؛ فقد كان لديه معتقدات قوية خاصة به، ولكن لسوء الحظ لم يدونها قط. وكان أحد هذه المعتقدات هو أن الفلسفة هي نشاط أساسي وتعاوني، فهي مادة دسمة في المناقشات بين جماعات صغيرة من الناس يجادل بعضهم بعضا ليصل كل منهم إلى الحقيقة بنفسه. ولا يمكن استرجاع روح اللهو هذه تماما في محاضرة أو في رسالة. وهذا هو سبب اختيار أفلاطون وزينوفون (والعديد من معاصريهم الذين ضاعت أعمالهم) أن يقدموا أفكار سقراط في صورة محاورات؛ فقد كان الحوار حرفته، وهو ما تركه لنا من بعده.

ثمة أربعة شهود رئيسين على أفكار سقراط العميقة: أفلاطون، وزينوفون، وأرسطوفان، وأرسطو. ولم يكن حال أي من هؤلاء كما يتمنى أي مؤرخ. كان أفلاطون أكثر من تحدث عن أفكار سقراط، ولكنه بوصفه مرشدا موضوعيا لسقراط فقد عابه أنه كان يجل سقراط لدرجة العبادة ؛ لذلك فمن المرجح أنه قد بالغ فيما رأى أنه أحسن صفاته. فبخلاف أنه على مدار أربعين عاما تقريبا من التفكير والتدريس تغيرت فيها أفكاره كثيرا؛ فقد اعترف أفلاطون بالفضل لسقراط في استخدامه كناطق بلسانه. لقد كان أفلاطون يرى سقراط حكيما متفوقا؛ لذلك كان يقدم أي شيء يرى فيه الحكمة على لسان سقراط. وقد وصف أفلاطون (أو أحد الرفقاء المقربين الآخرين) محاوراته بأنها «أحد أعمال سقراط التي نقحت وجددت.» وهذه مشكلة مركبة؛ إذ لم يكتف سقراط في محاورات أفلاطون بالحديث عن أفلاطون بدلا من الحديث عن نفسه، ولكنه جعله أيضا يقول أشياء مختلفة وقعت في المراحل المختلفة من حياة أفلاطون الأدبية.

وماذا عن الشهود الثلاثة الآخرين؟ لقد كانت عيوب زينوفون (430-355ق.م.) مختلفة تماما؛ فلم يكن فيلسوفا بشكل واضح - على عكس أفلاطون - ليكون مرشدا إلى سقراط. ليس من العيب أن يكون زينوفون قائدا عسكريا تقاعد وأصبح أحد كبار المزارعين، ولكنه ربما لا يكون خير حافظ للأثر الدال على أحد فلاسفة العالم العظام؛ فقد كان يستخدم شخصية سقراط ليقدم نصائحه الخاصة عن الزراعة والفنون العسكرية، كما أنه يصوره على أنه شخص طيع لين العريكة فيقول: «لقد كانت كل سلوكياته الشخصية قانونية ونافعة؛ فقد التزم الطاعة الصارمة للسلطة العامة في كل ما تفرضه القوانين في كل من الحياة المدنية والخدمة العسكرية، حتى إنه كان نموذجا للانضباط والالتزام يحتذي به الجميع.» وقد أشار أحد الباحثين الرواد في مجال الفلسفة القديمة بشكل مفهوم إلى زينوفون بأنه «منافق متجهم وعجوز.» لكن إحقاقا للحق وإنصافا لزينوفون يجب القول إنه ما من أحد أعجب بشخص غريب الأطوار مثل سقراط كما أعجب به زينوفون، يمكن أن يكون عبوس الوجه متجهما. ولكن زينوفون لم يكن هو سقراط نفسه، وربما لم يستطع إدراك غرابة شخصيته وما كان يرمي إليه. وإذا كان زينوفون قد فعل ما بوسعه ليظهر سقراط بمظهر الرجل المحترم والملتزم فإن الكاتب المسرحي أرسطوفان (حوالي 448-380ق.م.) لم يدخر جهدا ليفعل العكس؛ فسقراط عنده هو مهرج خدعته أسئلة مثل: من أية ناحية تخرج البعوضة ريحها؟ ويتضح عجز أرسطو عن وصف سقراط ببساطة في قوله: «لقد ولد متأخرا خمسة عشر عاما.»

ولكن أرسطو هو من يعرف حقائق مهمة، فرغم أنه لم يسمع آراء سقراط بشكل مباشر فقد درس في أكاديمية أفلاطون لما يقرب من عشرين عاما، وحصل على فرصة كبيرة ليسمع آراء أفلاطون من أفلاطون نفسه؛ لذلك فقد كان في موضع يسمح بالفصل بين آراء الرجلين. وتساعد شهادة أرسطو بشكل كبير على حذف آراء أفلاطون من محاوراته ورؤية ما تبقى لسقراط. كما أن أرسطو كان أقل تبجيلا لسقراط من أفلاطون؛ ولذلك نجح في تبني نهج أكثر حيادية في تعاليمه.

لقد اتضح أن اختلاف المصادر الرئيسة الأربعة لسقراط ميزة وليس عيبا؛ فهو يعني زيادة احتمال صدق ما هو مشترك بين الروايات المختلفة. وكلما عرفنا المزيد عن كل من الأربعة وما كان يسعى إليه كل منهم؛ سهل تجاهل تحاملاته وانحرافاته ورؤية سقراط الحقيقي وراءها. وبتتبع تلك الحقائق استطاع الباحثون المعاصرون تجميع كثير من فلسفة الرجل الذي أدمن الجدال حتى الموت حرفيا.

ومن السهل تدارس آراء سقراط في ضوء علاقتها بآراء أفلاطون؛ فالتأريخ التقريبي لمحاورات أفلاطون إضافة إلى بعض المعلومات عن حياته يجعل من الممكن تتبع خطوات رحلته الفكرية التي بدأها بصحبة سقراط وأنهاها بعيدا عنه. في البداية قيد أفلاطون نفسه بإعادة إنتاج محاورات أستاذه الموقر. وبعد ذلك أضيفت تدريجيا بعض التعليقات الفيثاغورية والصوفية إلى أفكار سقراط. وظل أفلاطون يتأثر بشكل متزايد بالفيثاغوريين الإيطاليين. وأخيرا وصل أفلاطون إلى مرحلة استعان فيها بشخصية سقراط عند شرح جميع الموضوعات.

لقد تمحورت المناقشات الجدية بخصوص سقراط الحقيقي فقط حول الطريقة التي يجب أن يعيش بها الإنسان حياته، واهتمت بالفضائل التي ساد العرف أنها خمس: الشجاعة، والاعتدال، والتقوى، والحكمة، والعدل. وكانت مهمة سقراط حث الناس على تهذيب أرواحهم بمحاولة فهم هذه الصفات واكتسابها، وكانت هذه المهمة كفيلة بإبقاء سقراط مشغولا، ولكن أفلاطون كان أشد طموحا بالنيابة عن أستاذه، فكتب العديد من المحاورات التي لا تهتم بالأخلاق على الإطلاق، ولكنها اتخذت سقراط متحدثا رئيسا فيها؛ فكتاب أفلاطون «الجمهورية» على سبيل المثال يبدأ بمناقشة العدل، ولكن ينتهي بتناول كل ما أثار اهتمام أفلاطون.

وحتى عندما أعلن سقراط الحقيقي أنه لا يعلم شيئا، ظل أفلاطون مندفعا في الغالب وأثنى عليه بآراء واثقة؛ فمثلا اعتقد سقراط أن ما يحدث بعد الموت هو سؤال مفتوح للبحث، ولكن في محاورة «فيدون» التي توهم بنقل كلمات سقراط الأخيرة قبل تناوله سم الشوكران في سجنه، جعله أفلاطون يقدم سلسلة كاملة من الأدلة على فساد الروح.

لقد بدا أن أفلاطون لم يكن لديه كثير من الشكوك بشأن ما يحدث بعد الموت. لقد اعتقد أن الروح منفصلة عن الجسد وأنها موجودة قبل الولادة وأنها ستبقى بالتأكيد لما بعد الموت. ونتيجة تأثره بفيثاغورس والفيثاغوريين اعتقد أفلاطون أنه بينما ترتبط الروح بجسد مادي أثناء الحياة، فهي تعيش حياة دونية مدنسة تحتاج أن «تنقى» منها، وأن «تحرر من قيود الجسد.» ووفقا لما ذكره أفلاطون في هذه المحاورة؛ فإن ما يرجوه الرجل الصالح بعد الموت هو إعادة الاتحاد أو على الأقل المشاركة مع الأسمى من أشكال الوجود المعنوية الأخرى والتي يطلق عليها «الأشكال المقدسة»، وعلى الفيلسوف بخاصة أن يعتبر حياته كلها استعدادا للعتق السعيد عند الموت. وكما رأينا فقد عاش سقراط حياة مثقلة فقيرة غير تقليدية وكانت غير دنيوية بالتأكيد. أما أفلاطون فقد آمن بالحياة الأخرى بشكل إيجابي وهو أمر مختلف تماما (ولقد عاش في الحقيقة حياة مريحة في مجملها حتى تخلص من قيود جسده الممتلئ).

ناپیژندل شوی مخ