حلم عقل
حلم العقل: تاريخ الفلسفة من عصر اليونان إلى عصر النهضة
ژانرونه
ولكن في عام 403ق.م. أعلن عفو سياسي عام؛ ولذلك لم يكن من الممكن توجيه اتهامات سياسية صريحة لسقراط حتى لو أراد الجميع ذلك. هذا بجانب وجود أسباب أكبر تدفع للقلق من تأثير الرجل. وأثناء الحرب الطويلة مع إسبرطة زاد قلق سكان أثينا من الجبهة الداخلية؛ فقد ساد شعور بأن المفكرين يضعفون المجتمع الأثيني بتقويض قيمه ومبادئه التقليدية. وقد كان من الممكن أن يكون مصدر الشكوك التي أثيرت هو رجل أسر الشباب العاطلين وفتنهم بتساؤلاته عن العدل. ولم يساعد تقديم سقراط في صورة معلم متلعثم ومذعن وخاضع في مسرحية لأرسطوفان عرضت في أثينا قبل أربعة وعشرين عاما في تحسين الأوضاع. وأيا كانت حقيقة الشائعات التي تقول إن سقراط قد كفر بالآلهة التقليدية - ويبدو أنه كان ينكر التهمة ولكن بشكل غير مقنع - فلم يكن هناك شك أن سقراط كان له مذهب غير مألوف في اللاهوت. وقد أعطت الطريقة التي تحدث بها عما سماه «دايمنيون» - وهو «الروح الحارسة» أو «علامة إلهية» شخصية - مبررا للقلق بشأن «الدعوة إلى آلهة جديدة» حسب الاتهام الذي وجه إليه. وقد كان هذا بمنزلة خطيئة بشعة في حق الديمقراطية المترنحة. فالدولة وحدها لها الحق في تحديد الشيء المناسب للتقديس، كما كان لها إجراءاتها الخاصة في الاعتراف رسميا بالآلهة وكل من كان يتجاهل ذلك كان بالتبعية يتحدى شرعية الدولة الديمقراطية. لقد كان كل هذا بانتظار سقراط عندما وقف أمام خمسمائة من مواطني أثينا ليحاكموه.
كان أفلاطون حاضرا في المحاكمة، ومن المرجح أن دفاع سقراط (أو «مرافعة الدفاع») التي كتبها أفلاطون بعد بضعة أعوام هي أول أعماله. وثمة غير سبب يدفعنا للاعتقاد بأن أفلاطون بذل في هذا العمل مجهودا أكبر مما بذل في غيره لإظهار حقيقة سقراط، رغم أنه لم يحاول بالضرورة أن يسترجع ألفاظه بدقة؛ لذلك سنعتمد على ما ورد عن أفلاطون (كما فعلنا في معظم المعلومات عن سقراط حتى الآن). ليس هناك بديل، فلا يوجد في تاريخ الفلسفة كله تقريبا غير سقراط الموجود في «الدفاع» لأفلاطون.
من الناحية القانونية كانت مرافعة سقراط رديئة؛ فقد بدأ بقوله إنه لا يجيد الحديث ولا يمتلك مهاراته، وهذه حيلة بلاغية معتادة، ولكن في هذه الحالة علينا أن نوافقه القول إذا كان هدفه من الخطاب أن يبرئ نفسه. كما أن كل ما قاله لدفع الاتهامات الرسمية الموجهة إليه إما غير ذي صلة بها أو غير مقنع؛ فقد انشغل بخصوص الاتهامات الدينية على سبيل المثال بالسخرية من المدعي حيث عمل على استفزازه، حتى ناقض نفسه بقوله إن سقراط ملحد لا يؤمن بأي إله على الإطلاق، ثم يتساءل سقراط عندها كيف يكون في هذه الحالة متهما بالدعوة لآلهة جديدة؟ أما بالنسبة للاتهام بإفساد الشباب فأعطى سقراط جوابا ملتفا غير مقنع بأنه لم يفعل أيا من ذلك عن عمد لأن هذا ضد مصالحه، فإفساده أي شخص كما يقول سيؤذيه وإذا آذيت شخصا فسيحاول أن يرد بالأذى؛ لذا فمن غير الممكن أن يخاطر بذلك. ولكن هذا لم يكن ليقنع أحدا.
كان سقراط يعلم أن القضاة الذين مثل أمامهم كانوا متحاملين عليه بسبب تشهير أرسطوفان به، فشرع في تصحيح هذه الانطباعات الخاطئة؛ فقال إنه لا يشتغل بالتدريس من أجل المال كما يفعل «السفسطائيون» المحترفون الذين لم يميز أرسطوفان بينه وبينهم. ويبدو هذا صحيحا؛ فهو لم يفرض قط أية رسوم، ولكنه كان يغني ليكسب قوت يومه، وكان يقبل استضافته في صفقة ضمنية مقابل محاوراته التثقيفية، ولم يشتغل على ما يبدو بأي عمل آخر؛ ولذلك لم تكن الطريقة التي يكسب بها قوت يومه مختلفة كثيرا عن السفسطائيين، وكلتا الطريقتين لا تعتبران موضع شبهة في يومنا هذا. كما حاول سقراط أيضا دفع الافتراء بأنه كان يعلم الناس كيف يحتالون للفوز في المجادلات عندما يكونون على خطأ. وبعيدا عن ذلك كما قال، لم يكن يعلم ما يكفي ليعلم أي شيء لأي شخص.
لقد كان هذا هو الموضوع الرئيس ل «مرافعة الدفاع» والتي تعد دفاعا عاما عن أسلوب حياته أكثر من كونها تفنيدا للاتهامات الرسمية الموجهة إليه ودحضا لها. ويكمن أهم ما في هذا الدفاع في ادعاء سقراط أنه استفاد من أهل أثينا بإخضاعهم لاستجواباته الفلسفية ولكنهم لم يدركوا ذلك فسخطوا عليه؛ وهذا ما أدى إلى محاكمته في النهاية.
ويقول سقراط إنه كان ينفذ رغبة الآلهة حينما كان يتجول ويجادل الناس. وفي مرة ذهب صديق له إلى عراف دلفي وسأله إذا كان هناك رجل أكثر حكمة من سقراط. وجاء الجواب بالنفي، وهو ما وضع سقراط في حيرة شديدة - أو كذلك قال - لأنه طالما اعتقد أنه ليس بحكيم على الإطلاق، وعن ذلك قال: «بعد أن شعرت بالحيرة تجاه هذا الأمر لبعض الوقت قررت أخيرا وبعد رفض شديد أن أتأكد من صحة هذا الكلام.» وقد فعل ذلك باستجواب كل من عرف الحكمة أو المعرفة المتخصصة، ولكن آماله دائما ما كانت تخيب لأنه - على ما كان يبدو - لم يكن هناك من تستطيع حكمته المزعومة مواجهة استفساراته؛ إذ كان قادرا دائما على تفنيد جهود الآخرين في إثبات نظرياتهم، وذلك عادة بإلقاء الضوء على بعض النتائج غير المرغوبة وغير المتوقعة لآرائهم. كما استجوب سقراط الشعراء ولكنهم فشلوا حتى في شرح قصائدهم بشكل يرضيه. وقد قال في إحدى المواجهات:
لقد فكرت مليا وأنا في طريقي ووجدت أني أكثر حكمة من هذا الرجل. ومن الوارد جدا أن أيا منا لا يملك من المعرفة ما يستعرضه، ولكنه يعتقد أنه يعرف شيئا هو في الحقيقة لا يعرفه، بينما أدرك أنا أني جاهل تماما. عامة يبدو أنني أكثر منه حكمة على الأقل في أنني لا أعتقد أني أعرف ما لا أعرفه في الحقيقة.
وعندها خطر بباله ما قد يكون العرف قد عناه، فيقول:
متى نجحت في إثبات خطأ ادعاء أحدهم الحكمة في موضوع معين ظن المتفرجون أنني أعرف كل شيء عن هذا الموضوع، ولكن حقيقة الأمر بكل تأكيد أيها السادة هي أن الحكمة الحقيقية للرب وحده، وأن هذا العراف هو وسيلته التي يخبرنا من خلالها أن المعرفة البشرية قليلة القيمة، أو إن شئت فقل لا قيمة لها. ويبدو لي أن العراف لا يشير حرفيا إلى سقراط ولكنه ذكر اسمي كمثال، وكأنه يقول لنا إن أكثركم حكمة أيها الناس هو من أدرك أنه لا قيمة له فيما يتعلق بالحكمة كما أدرك سقراط ذلك.
بعبارة أخرى فإن حكمة سقراط الغالبة مكمنها أنه وحده من يدرك ضآلة معرفته، ولكن بالطبع هناك ما هو أكثر من إدراك ذلك وحسب كما اعترف في مواضع أخرى في محاورات أفلاطون. ومع ادعائه «أن المجادلات لا تبدأ من عندي أبدا، بل دائما ما تبدأ من عند من أتحاور معه»، فهو يعترف أن لديه «تفوقا طفيفا بامتلاكه مهارة استخلاص تفسير للموضوع من حكمة شخص آخر ومواجهة حكمته بمعاملة لائقة»، فهو يصف نفسه عن جدارة بأنه مثل قابلة فكرية تخرج تساؤلاتها أفكار الآخرين إلى النور. ولكن مهارة الشرح والمجادلة هذه التي يمتلكها سقراط بوفرة ليست شكلا من أشكال الحكمة الحقيقية بالنسبة لسقراط؛ فالحكمة الحقيقية هي المعرفة الكاملة فيما يخص القضايا الأخلاقية وسبل المعيشة. وعندما يدعي سقراط الجهل فإنه يعني الجهل بأسس الأخلاق، وهو لا يدافع عن أي نوع عام من الشك بشأن الحقائق اليومية، فهمه الوحيد هو التأثير الأخلاقي، وهو لا يستطيع بضمير راض أن يتخلى عن مهمته في دعم هذا التأثير في الآخرين، وفي ذلك يقول:
ناپیژندل شوی مخ