حلم عقل
حلم العقل: تاريخ الفلسفة من عصر اليونان إلى عصر النهضة
ژانرونه
قدم إمبيدوكليس تفسيرات أكثر تقدما بخصوص الكائنات الحية، فمثلا لاحظ أن الصفات المتباينة بشكل واضح للكائنات الحية يمكن أن تكون لها الوظيفة نفسها وأن تؤدي أعمالا متشابهة، وهو أحد المبادئ الأساسية في علم الأحياء؛ ومن ثم فهو يصف الزيتون على شجرة الزيتون بأنه بيض الشجرة، وأن الشعر والريش والقشور هي الشيء نفسه. أما أكثر تفسيراته البيولوجية تفصيلا عن البقاء هو تفسيره لعمليات التنفس عند الإنسان والحيوان؛ إذ يرى أن انتظام حركة التنفس يترتب على حركة الدم في ثقوب صغيرة موجودة في الأنابيب حاملة الدم في مؤخرة فتحات الأنف، وهذه الحركة تمتص الهواء لداخل الأنف، كما أن الثقوب كبيرة بالشكل الذي يسمح بدخول الهواء ولا يسمح بهروب الدم (ولذلك يفترض أن الهواء أفضل من الدم). ثم يستفيض في شرح هذا المبدأ الميكانيكي استفاضة تنم عن مهارة وذكاء بتشبيهه جهازا بسيطا وشائعا في ذلك الوقت لحمل المياه يعتمد على فكرة الفراغ. وهذه النظرية وإن كانت بعيدة عن الهدف إلا أنها ليست غريبة على شخص كان يعتبر نفسه ذات يوم شجيرة.
اقترب إمبيدوكليس من لب القضية الجوهرية في علم الأحياء؛ حيث قال إن جميع المخلوقات تدين بالفضل فيما تحمله من صفات مفيدة ونافعة إلى حقيقة أنه كان ثمة العديد من أنواع المخلوقات، وأن الكائنات الغريبة والمشوهة فشلت في البقاء لأنها لم تكن لائقة لذلك، وأنه لم يتبق سوى المخلوقات التي كانت لائقة بالبقاء لكي تتكاثر وتملأ العالم. وينطوي هذا التفسير على تفصيلات خيالية تليق بعالم الأساطير التقليدي (فيقول: لقد كان في هذه المرحلة العديد من الأوجه بلا رقاب، وكانت الأذرع تهيم بلا أكتاف تلتحم بها، وكانت العيون تضرب في الأرض وحيدة بحثا عن جباه). ولكن يبدو أنه تفهم شيئا من عمل الانتخاب الطبيعي قبل أن يقدم داروين ووالاس أدلة ملموسة على النظرية بما يقرب من 2300 عام. وتقول نظرية أرسطو في هذا الشأن: «إن معظم أعضاء الحيوانات تكونت بمحض الصدفة» بعد أن زج بها بشكل عشوائي في المعركة الدائرة بين الحب والصراع، وعندما أثبتت هذه الأعضاء جدواها فإن المخلوقات التي أسعفها الحظ بأن تكون لها مثل هذه الأعضاء «تمكنت من البقاء على قيد الحياة ونظمت بشكل تلقائي في شكل لائق، في حين أن المخلوقات الأخرى التي نمت على نحو مشوه قد اندثرت أو آخذة في الاندثار.» وكما يقول داروين معلقا على هذه الفقرة: «يمكن أن نتعقب نظرية الانتخاب الطبيعي من هنا فصاعدا.»
وقد ذكر أرسطو هذه القصة الغيبية عن إمبيدوكليس لكي يفندها، فلم يكن ليقبل تفسيرا للطبيعة يقوم على الصدفة وينكر وجود أية غاية منها أو هدف لها، فأرسطو يعتقد - وكذلك اعتقد أفلاطون من قبله - أن الطبيعة مصممة بشكل من ورائه مقصد ولا يمكن تفسيرها بطريقة ميكانيكية بحتة. وقد انتصر أرسطو وأفلاطون في هذه المعركة، في حين ظل تفسير إمبيدوكليس للتكيف البيولوجي غير معترف به حتى ظهور داروين. ورغم أن أرسطو رحب بفكرة إمبيدوكليس عن العناصر الأربعة فإنه وجه سهام نقده إلى كل ما كتبه إمبيدوكليس غير ذلك، حتى قال ذات مرة إن إمبيدوكليس «لم يكن لديه ما يكتبه.»
ومن أهم الأدوات التي استخدمها إمبيدوكليس في تفسيراته الميكانيكية نظريته حول المسام والدفقات. فقد رأى أن جميع المواد تتخللها مسام وفتحات متفاوتة الأحجام وأن هذه الفتحات تقوم بقذف جزئيات متناهية الصغر، وتقوم المواد بتبادل هذه الدفقات بصورة مستمرة وانتقائية، كما أن بعض المسام تتسع لنوع معين من الجزيئات بينما تتسع مسام أخرى لأنواع أخرى وهكذا. وقد استخدم إمبيدوكليس هذه الآلية لتفسير كيفية اتحاد العناصر واندماجها، ولماذا تندمج بعض العناصر ولا تندمج عناصر أخرى، مثل اختلاط الماء بالخمر وعدم اختلاطه بالزيت. وقد استخدم إمبيدوكليس هذه الآلية لتفسير جميع الظواهر بما في ذلك الظواهر المغناطيسية وظاهرة التحلل (قائلا إن الأشياء تفنى عندما تقذف أكثر مما تمتص). وتجلت حنكته عندما استخدم هذه الآلية لتفسير ظاهرة الإدراك حيث قال إن كل حاسة لها مسامها الخاصة وتسمح بدخول ما يناسبها من جزيئات؛ فعلى سبيل المثال «تعتبر الألوان نوعا من التدفق الصادر عن الأشكال، وهو تدفق مساو للبصر ويمكن إدراكه من خلاله»، كما هو الحال مع أفلاطون الذي قال إن الشم والتذوق والسمع يمكن تفسيرها بطرق مشابهة.
وثمة فكرتان مميزتان في رؤية إمبيدوكليس عن الإدراك، إحداهما تدخل في إطار نظرية عامة عن طبيعة الإدراك؛ فهناك مثلا الأطروحة الميكانيكية غير الناضجة التي تقول إن الإدراك يحدث من خلال الاتصال المادي بين الحواس والأشياء الخارجية من خلال الدفقات المقذوفة بينها، والأخرى عبارة عن مبدأ عام يكتنفه مزيد من الغموض يقول: «يعرف الشيء بمثله.» وهذه المقولة جزء من حكمة يونانية قديمة تتحدث عن الفكرة الغامضة التي تقول إن الأشياء تجذب أمثالها. فعلى سبيل المثال، يقال إننا نرى الأشياء اللامعة لأن المادة التي صنعت منها أعيننا لامعة. وقد كانت هذه الفكرة مقبولة لدى القدماء، لكنها ليست كذلك بالنسبة للعقل الحديث.
وإذا كان التفسير القائم على المسام والدفقات يعتبر محاولة لوصف طريقة عمل العين والأذن والأنف من الناحية الفسيولوجية؛ فإن فكرة أن الشيء يعرف بمثله إنما هي محاولة متعثرة للوصول إلى شيء بخصوص الطبيعة العامة للوعي، فإمبيدوكليس يرى أن الإدراك والتفكير شكلان من أشكال الانجذاب بين الإنسان والطبيعة؛ إذ يمكننا أن نرى الأشياء وندركها لأننا خلقنا منها، وبالمثل توجد قوى الحب والصراع داخل الإنسان؛ ولذلك فهو يستطيع إدراك تجلياتها في الطبيعة، ولكن للأسف طغى الصراع على حياة الإنسان - أو كذلك اعتقد إمبيدوكليس - وما يحياه الإنسان من حياة تعج بالمشكلات يعكس هذه الحقيقة. وتمهد هذه العاطفة لدخول الأفكار الأورفية والفيثاغورية إلى ما ينظمه من شعر ديني أطلق عليه «سبل النقاء». •••
وربما فهم المستمعون قصيدة إمبيدوكليس «سبل النقاء» على أنها إشارة إلى شعائر التطهير، بمعناها الحرفي والمجازي، التي كانت ضرورية لهؤلاء الذين أساءوا للآلهة أو خالفوا بعض الأوامر المقدسة. ويتحدث هذا الجزء من كتاباته عن الأشكال الأخلاقية للحب والصراع، ويصف كيف تمكن الصراع من فصل الإنسان عن طبيعته السماوية بإغرائه بارتكاب الخطيئة، وترتب على ذلك أن طرد الإنسان من النعمة السماوية فقال:
ظل الإنسان ثلاثين ألف عام يتيه بعيدا عن المكان المبارك حيث تشكل خلال هذا الوقت على شاكلة جميع الأشياء الفانية متقلبا في ألوان الشقاء، وظلت قوى الريح تطارده في أواسط البحار ثم تقذف به أمواج البحار إلى تراب اليابسة، ثم تلقيه الأرض تحت أشعة الشمس الحارقة ثم تعيده الشمس إلى دوامات الريح القوية ، فظل في هذا الشقاء تتقاذفه الأشياء الفانية ولا تقبله. وهذا هو حالي الذي أعيش فيه الآن؛ فأنا منفي عن رحاب الآلهة وهائم على وجهي لأنني وثقت يوما في الصراع الجامح.
ويرى هسيود أنه يمكن طرد أحد آلهة جبل أولمبوس لمدة معينة إذا أساء التصرف، فقال: «ويطرد من زمرة الآلهة الخالدة لمدة تسعة أعوام ولن يعود إلى مجالسهم أو يحتفل بأعيادهم، ولكنه في العام العاشر يعود إلى الآلهة الخالدة ليعيش في بيت أولمبوس.» وقد اعتنق إمبيدوكليس تلك الفكرة التي وجدها في علم الأساطير التقليدي بالإضافة إلى بعض العناصر الأخرى من الديانة الأورفية وبعض الطوائف الدينية الأخرى التي يكتنفها الغموض؛ ولذلك فإن عقاب الإثم لا يقتصر على النفي ولكن يتضمن العديد من عمليات التناسخ، وكذلك لا يقتصر هذا العقاب على آلهة جبل أولمبوس الآثمين فحسب، بل يشمل كل إنسان مشى على ظهر الأرض؛ فكل إنسان كان له قبس من النور الإلهي، ولذلك «فهو يستحق النفي وأن يهيم في الأرض على وجهه دون هدف.» ويبدو أن الخطيئة التي جلبت على الإنسان هذا القدر المشئوم بأن يولد حقيرا صاغرا هي التضحية بالحيوانات والأكل من لحومها، فقال في ذلك: «وا حسرتاه! ليتني قضي علي في هذا اليوم قبل أن ارتكب هذا الفعل الشنيع وآكل من اللحم.» ووفقا للمعتقد الفيثاغوري، فإن التكفير عن هذا الذنب يقتضي أن يتحول الإنسان إلى إنسان نباتي لا يأكل اللحم.
ويكمن المغزى الرئيس من قصته في ضرورة أن تقوم حياة الإنسان على مبدأ الحب لا الصراع. وهو يتحدث عن عصر ذهبي كانت الأرواح فيه تعيش في هناء «قبل أن يكسوها اللحم الغريب» عقابا لها، فقال في ذلك: «لم يكن بين أظهرهم إله حرب ليعبد، بل كان الحب هو الملكة المتوجة فوق رءوسهم.» وقال أيضا: «لقد كانت جل المخلوقات وديعة طوع بنان الإنسان، فكانت الوحوش والطيور في علاقة صداقة رائعة معه.» ولكن قتل الحيوانات أو التضحية بها من أجل الطعام كان أمرا خاطئا على ما يبدو؛ لأن الإنسان يجب أن يعيش معها ومع كل ما حوله في سلام.
ناپیژندل شوی مخ