حلم عقل
حلم العقل: تاريخ الفلسفة من عصر اليونان إلى عصر النهضة
ژانرونه
ويتفق إمبيدوكليس مع بارمنيدس في فكرة عدم خلق الأشياء أو فنائها ولكنه صاغها بطريقة أفضل فقال: «إن جميع الأشياء الهالكة لا تولد ولا تفنى بالموت، بل بخلط الأشياء وتبديلها، والإنسان هو من أطلق على الأشياء المختلطة اسم الميلاد.» ويعتبر هذا حلا وسطا بين بارمنيدس والمنطق السليم، فإمبيدوكليس على استعداد «للالتزام بالعرف» والحديث عن الميلاد والموت، ما دمنا نتحدث في إطار فكرته عن أن الميلاد أو النشوء هو عملية تكوين شيء من خلال خلط المواد الموجودة سابقا، وأن الموت أو الفناء لا يعني إلا تفكيك هذه العناصر وإعادة تجميعها لتكوين شيء آخر، وهذه العناصر في حد ذاتها ليست مخلوقة ولا يصيبها الفناء؛ وبهذا فإن بارمنيدس كان محقا إلى حد ما. ويتفق إمبيدوكليس مع بارمنيدس كذلك على أن ليس في الوجود ما يسمى فراغا، ولكن قلما نسمع شيئا عن استحالة الحركة أو أن ليس هناك إلا شيء واحد. وبشكل عام يبدو أن إمبيدوكليس تجاهل هذه الأجزاء غير المناسبة في مذهب بارمنيدس كما فعل مع مفارقات زينون الداعمة لها.
ويشير حديث إمبيدوكليس عن «الاختلاط والتبادل» إلى دمج العناصر الأربعة، وهو يشبه الطريقة التي تخلط بها الطبيعة العناصر لكي تشكل الأشياء الطبيعية بالطريقة التي يخلط بها الرسام ألوانه فيقول:
إن الناس ... يمتلكون بين أيديهم الكثير من الألوان والأصباغ ويقومون بخلطها في تناغم وانسجام ويصيغون بها أشكالا تحاكي جميع الموجودات، فيصنعون الأشجار والرجال والنساء والوحوش والطيور والأسماك والآلهة الخالدة، ويضفون عليها هالة من الجلال.
ولا تشير العناصر الأربعة لدى إمبيدوكليس من تراب وهواء ونار وماء - التي هي بمنزلة الألوان التي تشكل منها العالم الواقعي - إلى ما نعنيه اليوم بهذه الكلمات؛ فالهواء تشكلت منه جميع الغازات، والماء تشكلت منه جميع السوائل، والمعدن يعد من السوائل لأنه يذوب ويتحد مع عناصر أخرى، بل إنه أعطى كل عنصر اسم أحد الآلهة (وأحيانا اسمين)، ولم يكن هذا من قبيل الضرورة الشعرية وحسب؛ فبما أن العناصر خالدة ولا تفنى؛ فجدير بها أن تصبح مثل الآلهة في علم اللاهوت الذي لم يكن يضع حدودا ولا قيودا في ذلك الوقت. والشيء نفسه يسري على القوتين الأساسيتين لديه وهما الحب والصراع اللذين يعطيهما أسماء آلهة في بعض الأحيان؛ فالحب يجذب العناصر بعضها لبعض ويجمع بينها، في حين أن الصراع ينفرها ويبعدها عن بعضها. وتضع هذه الحرب الدائرة أوزارها في صورة العالم المتغير الذي نراه.
ويرى إمبيدوكليس أنه في وقت من الأوقات ساد الحب كل العالم واجتمعت كل العناصر في شكل إلهي واحد (ربما يكون مشابها للشكل الأشبه بالكرة لدى بارمنيدس)، ولكن شوكة الصراع أخذت تقوى وبدأت تفرق بين العناصر، فرد الحب هذا العدوان الغاشم واستطاع توحيد العالم بما فيه من جبال وبحار ونجوم وغير ذلك. وفي عالمنا المعاصر ما زال الحب والصراع في منافسة شرسة حولنا مثل معركة الأسد مع الحصان وحيد القرن في رواية لويس كارول التي يتقاتلان فيها على التاج، فينجح الحب في تجميع بعض العناصر مكونا بها أحد المخلوقات ثم يأتي الصراع ليفككها ويحولها إلى رماد، وهكذا.
ويوما ما سيكتب الانتصار للصراع (ولكن ليس للأبد) وتعود جميع الأشياء إلى سيرتها الأولى ذرات من عناصر، ولكن الحب سيشن هجوما مضادا رهيبا ويجمع العناصر كلها في شكل آخر ضخم لتبدأ المعركة بينهما من جديد. ويشبه الأمر إلى حد كبير حديثنا عن «الانفجار العظيم» و«الانسحاق الشديد» في علم الكونيات المعاصر. فكما يقول الحكماء اليوم إن المادة والطاقة كلتيهما كانتا مضغوطتين بشكل كلي في مكان واحد ثم انفجرتا وتبعثرتا في «انفجار عظيم». وإذا كان الحال كذلك فسيلي ذلك في المستقبل البعيد حركة انعكاسية تسمى «الانسحاق الشديد» وسيتجمع فيها جميع الأشياء ويلتصق بعضها ببعض في نقطة واحدة بفعل قوة الجاذبية. وهذه الفكرة تعادل فكرة انتصار الحب لدى إمبيدوكليس؛ ولذلك فيمكننا أن نعتبر تفسير إمبيدوكليس للكون خليطا من فيزياء ستيفن هوكنج والروايات الرومانسية لباربرا كارتلاند.
ويبدو جزء من قصة إمبيدوكليس بشكل يثير الشك مشابها لبعض التفاسير القديمة والتوقعات العجيبة للتفاسير الحديثة. وقد رأينا من قبل كيف استفاد الملطيون من «المتضادات» الأربع - الساخن والبارد والرطب والجاف - والتي تشبه كثيرا العناصر الأربعة لدى إمبيدوكليس. أما الصراع لدى إمبيدوكليس فمثله كمثل الحرب لدى هرقليطس، وربما يشبه فكرة «الانفصال» لدى أناكسيماندر. إذن ما مدى أصالة أفكار هذا الذي نصب نفسه إلها؟ هل حقا أن إمبيدوكليس بما قدمه من أفكار أساسية لم يضف إضافة عظيمة للفلسفة والفكر مثل هرقليطس وبارمنيدس؟ قد يكون هذا هو السبب وراء سهولة ضم نظريته عن العناصر الأربعة إلى الحكم التقليدية أكثر من أي من نظرياتهم. أما مكمن عبقريته في هذه النظرية فهو التفاصيل التي أوردها للشروح والملاحظات التي يدونها لا سيما في علم الأحياء كما سنرى، وتهذيبه لأفكار سابقيه عن المواد والقوى. ورغم تأرجحها بين الإحكام والسطحية فقد قدمت هذه النظرية لنا الكثير.
ولنضرب مثالا على ذلك؛ فالشيء الأهم في عناصر إمبيدوكليس يتمثل في أنها جميعا متساوية لا يوجد ما يميز أيا منها عن الآخر، فلم يسبق أحدها باقي العناصر في الوجود ولا يعتبر أيها أصل العالم. وليس ثمة شيء جوهري لدى إمبيدوكليس؛ ولذلك فليس عليه تفسير كيفية تكوين العديد من الأشياء المختلفة الموجودة حولنا. أما ما تناوله بتفسير وتوضيح أكثر من سابقيه فهو أنه يجب تفسير التنوع اللانهائي للحياة والمادة بالإشارة إلى الكميات القليلة من المواد النقية التي تحتويها الأشياء، والتي لا يمكن اختزالها في أي شيء آخر. ومع توصل علماء الكيمياء في القرن السابع عشر إلى أن العناصر الأربعة ليست كافية للقيام بهذه الوظيفة (وقت كتابة هذه السطور تم التعرف على 115 عنصرا) وأن عناصر إمبيدوكليس الأربعة لم تكن نقية بأي حال من الأحوال ظلوا على قرب منه أكثر من أي من الفلاسفة اليونانيين السابقين. أما فيما يتعلق بالحب والصراع، فرغم روعة اسميهما فإنهما يظلان الأقرب من أفكار الفلاسفة الآخرين إلى مفهوم القوى المذكور في الفيزياء القديمة. وكانت العناصر المادية قبل إمبيدوكليس هي المنوط بها تكوين العالم، ولم يكن هناك تفريق واضح بين الأشياء المادية والقوى التي تعمل عليها، أما نظرية الحب والصراع عند إمبيدوكليس فتصور صراعا بين قوتين منفصلتين مثل قوة الجاذبية أو القوة المغناطيسية الكهربية المعروفة لنا اليوم.
لو قال إمبيدوكليس إن الحب هو الذي يؤلف بين العناصر واكتفى بذلك؛ لكنا قد محوناه من سجلات الفلاسفة ونحيناه جانبا باعتباره أحد الرومانسيين الذين حاولوا أن يتنبئوا ببعض العلوم الحديثة، وانتقلنا لشخص آخر أكثر ثقافة وعلما، ولكنه لم يترك الحبل على الغارب ولم يدع الأمر على هذا النحو، فقد جسد إمبيدوكليس دور الحب والصراع في تكوين العالم في صورة عمليات طبيعية معتادة، باذلا في ذلك جهدا مضنيا ليصفه ويخرجه بشكل متسق ومتناسق. وكما كان الحال مع جميع المفكرين اليونانيين، لم تعد هذه التفسيرات أن تكون محض ملاحظات واستقراء يختلط بالخيال، ويخضع هذا الاستقراء للتجربة ليس عن طريق اختباره اختبارا مصطنعا، ولكن بالاستخدام المقنع لأدوات الإقناع من استعارات وتمثيلات عملية.
وعلى هذا يشبه إمبيدوكليس دور الحب في تكوين أول المخلوقات بصناعة الفخار التي يجري فيها تجميع كتل التراب وبلها بالماء ثم تشكل وتترك في الشمس المحرقة لتجف. كما استخدم كذلك تشبيه الماء والدقيق في صنع الخبز؛ ذلك أن جفاف العظام وظهورها باللون الأبيض إثر خبزها في درجة حرارة عالية جدا قد جعل إمبيدوكليس يقول إن العظام تتكون من أربعة أجزاء من النار من مجموع ثمانية أجزاء. (وربما نتساءل لماذا لم يحاول ذات مرة أن يتحقق من هذه الوصفة بصنع العظام. ربما اعتقد أنه أمر مستحيل، بل وينطوي على شيء من الدنس أن يقوم باستدعاء الشمس المحرقة بنفسه). ويقول إنه بصفة عامة نتجت الأشياء الطبيعية بفعل التصليب الذي تسببه الشمس المحرقة على الأرض والماء. ولا تدهشنا كثيرا الأهمية التي يوليها لفعل الشمس المحرقة على عنصر التراب إذا علمنا أنه عاش تحت شمس صقلية الحارقة. كما تساعدنا حقيقة كونه من صقلية على تفسير فكرته الأخرى المحيرة التي تقول إن الأجسام الصلبة ربما تكونت من تسخين المياه والتراب، كما هو الحال مع فكرته التي تقول إن الصخور تكونت من الماء، وهي بلا شك فكرة لا أساس لها من الصحة حيث كانت البلورات الملحية تستخرج في صقلية في ذلك الوقت من البحر عن طريق التبخر لأغراض تجارية، فربما استنبط إمبيدوكليس من ذلك أن الصخور يمكن أن تتكون من الماء. وكذلك كانت الحمم المتدفقة من بركان إتنا تقذف صخورا، وبما أن الحمم سائلة فقد رأى إمبيدوكليس أنها تعتبر ماء. ولو كان إمبيدوكليس من سكان الإسكيمو لا صقلية لتغيرت النتائج التي توصل إليها عن العمليات الطبيعية الأساسية، فربما أولى اهتماما أكبر على سبيل المثال إلى الطريقة التي تذيب بها الشمس الأجسام الصلبة إلى سوائل مثلا إذا رأى تمثالا من الجليد يتحول لبركة ماء.
ناپیژندل شوی مخ