حلم عقل
حلم العقل: تاريخ الفلسفة من عصر اليونان إلى عصر النهضة
ژانرونه
كان ظهور بارمنيدس أشبه بثعبان يلج جنة الفلسفة اليونانية، ولكنه لم يأت ليهب المعرفة، بل جاء مهددا بانتزاعها، فحجج بارمنيدس قوضت بنيان التفسيرات السابقة التي ناقشت مسألة الطبيعة. لقد حاول معظم العلماء الأوائل الوصول إلى تفسير لكيفية تطور الكون، أما بارمنيدس فقد حاول أن يبرهن أن الكون لم يتطور بالمرة. وكذلك حاول المفكرون الأوائل أن يبحثوا عن تفسير للأحداث في عالم متغير يكتظ بالظواهر المتنوعة فجاء بارمنيدس ليبرهن أنه ليس في الكون ما يعرف بالتغير أو التنوع؛ إذ إن الواقع عنده يتكون من شيء واحد يتصف بالكمال والثبات والخلود. وبعد رحيل بارمنيدس وتلاميذه كان لزاما أن يعاد بناء صرح المعرفة الذي هدموه وقوضوا أساسه بما خلفوه من أدلة وبراهين محيرة.
رغم هذا لم ير بارمنيدس أنه جاء ليهدم، بل اعتقد أنه جاء ليخرج الناس من ظلمات الجهل والضلال إلى أنوار الحق والمعرفة ويصل بهم إلى ما سماه «طريق الحقيقة». ومن أجل التأكيد على هذه الغاية صاغ بارمنيدس تفسيره في شكل وحي ادعى أنه نزل عليه من إحدى الإلهات خلال رحلة سماوية فقال:
وقد حيتني الإلهة برفق وأخذت يدي اليمنى في يمناها وخاطبتني قائلة: «تحياتي أيها الشاب الصغير، يا من حضرت إلى منزلي في صحبة الخالدين من السائقين تجرك الجياد. لم يخبئ لك القدر شرا عندما كتب عليك أن تسلك هذا الطريق الذي ينأى كثيرا عن طرق البشر، بل إنه كتب لك الحق والعدالة، وإنه لحق لك أن تنهل العلم كل العلم هنا.»
لا نعرف عن كاتب هذه الأسطر إلا قليلا. وإن كنا نعرف الكثير عن حياة هرقليطس فلا نعرف عن بارمنيدس إلا قليلا، فليس لدينا إلا ما تبقى من رفات أفكاره؛ إذ لم نقف على أي من أخبار حياته الخاصة. ويوضح وصف أفلاطون للقاء سقراط وبارمنيدس أنه ولد حوالي عام 515ق.م. وكان حينها بالتأكيد أصغر سنا من هرقليطس وأكبر من سقراط. وبالإضافة لذلك يمكننا القول إنه قد عاش هو وتلميذه زينون في مدينة إيليا وهي إحدى المستعمرات الأيونية على الساحل الغربي لإيطاليا، وقد كان على قدر لا بأس به من الثراء والنبوغ شأنه في هذا شأن الكثير من فلاسفة عصره.
ويبدو أنه لم يستق أفكاره من أي مصدر وكأنها نزلت عليه من السماء؛ فقد زعم البعض أنه أحد الفيثاغوريين المنشقين عن إيطاليا معتمدين في زعمهم هذا على قدومه منها، ولكن في الحقيقة لا يوجد دافع حقيقي للقول بصحة هذا الأمر اللهم إلا استخدامه الأدلة الاستنباطية التي افترض الناس أن الفيثاغوريين استخدموها في الرياضيات في الوقت ذاته تقريبا. ويقال كذلك إنه كان أحد تلامذة الشاعر ورجل اللاهوت زينوفانيس، ولكن هذا القول قد يكون مضللا بعض الشيء - وإن صح - لأن فكر بارمنيدس يتميز بالأصالة ولا يبدو أنه استقاه من أي شخص كائنا من كان.
وكما سنرى لاحقا، فإن بارمنيدس قد تلاعب كثيرا بمفهوم «اللاشيء» بطريقة تذكرنا بالنكات الساخرة التي حيكت حول مصطلح «لا أحد» الذي لم يستطع لويس كارول أن يقاومه فقال:
استأنف الملك حديثه مع الرسول باسطا إليه يده ليناوله مزيدا من القش وسأله: «من قابلت في الطريق؟»
فأجاب الرسول: «لا أحد.»
فرد الملك: «صحيح، هذه الفتاة رأته أيضا؛ لذا بالتأكيد لا أحد يمشي أبطأ منك.»
قال الرسول بنبرة عابسة: «لقد بذلت ما في وسعي، وأنا على يقين أن لا أحد يمشي أسرع مني.»
ناپیژندل شوی مخ