26

حلم عقل

حلم العقل: تاريخ الفلسفة من عصر اليونان إلى عصر النهضة

ژانرونه

وأيا كانت الأسباب التي دفعت الفيثاغوريين القدامى لعرض وجهات نظرهم الفلكية، لا يوجد إلا القليل من الأدلة على ما دونوه من ملاحظات تفصيلية حول الأجرام السماوية أو حتى على تطبيق الرياضيات المحببة إليهم على علم الفلك، وهو ما يثير الدهشة. ولكن أول من قام بمحاولة جادة لتطبيق الرياضيات من أجل اكتشاف قوانين الحركة السماوية وهو يوهانز كبلر (1571-1630م) كان فيثاغوريا خالصا (وإن جاء بعد انقضاء عصرهم)، وقد قاده يقينه بأن السموات لا بد أن تكون مرتبة في نمط متناسق يتجلى واضحا في علاقات رياضية بسيطة إلى صياغة العديد من التعميمات حول الكواكب، والتي كان بعضها أضغاثا مضللة طواها النسيان اليوم، وخاصة ممن يرغبون في إقصاء رجال العلم الحديث عن خزي الارتباط بالفلاسفة القدامى المخبولين، وبعضها الآخر أصبح الآن من معالم علم الفيزياء. وكثيرا ما يستشهد بقوانين كبلر الثلاثة لحركة الكواكب بوصفها البوابة التي انتقل منها علم كونيات العصور الوسطى إلى علم الفلك الحديث. لكن كبلر كان فيثاغوريا في كثير من أفكاره حتى إن بحثه الذي يحمل عنوان «تناغم العالم» (1619م) والذي أعلن فيه عن العديد من اكتشافاته الشهيرة لم يحلل حركة الكواكب بلغة السلالم الموسيقية الكبيرة والصغيرة فحسب، بل حدد النغمات المختلفة الخافتة التي تصدرها مدارات كل من زحل والمشتري والمريخ والزهرة وعطارد بالإضافة إلى القمر والأرض.

ورغم أن الفيثاغوريين الأصليين كانوا مصدر إلهام للأجيال اللاحقة؛ فمن الصعوبة بمكان تحديد ما يجب أن ينسب إليهم من فضل في تقدم علم الفلك الوليد في عصرهم. أما الرياضيات البحتة فقد كانت أمرا مختلفا، فحتى أرسطو المتشكك اضطر إلى الاعتراف بأنهم «أول من ساهم في تقدم ذلك العلم.» ويبدو أن أهم نتائج ما أحرز من تقدم في علم الرياضيات - والذي يرجع الفضل فيه للفيثاغوريين بما فيه النظرية الشهيرة ذاتها - تعود إلى منتصف القرن الخامس قبل الميلاد أو ما بعده؛ أي بعد وفاة فيثاغورس بفترة طويلة، ولكن بعض الأجزاء الأخرى من المعتقد الرياضي قد يرجع تاريخها إليه. ربما كان تصنيف الأرقام إلى «مربعات»، كالرقمين 4 و9 على سبيل المثال، موجودا منذ القدم (فقد كان الفيثاغوريون يمثلون تلك الأرقام بمربعات من النقاط، وهو سبب تسمية هذا المصطلح)، وربما ينطبق الأمر نفسه على العديد من النظريات حول الأرقام والتي تناسب ذلك التمثيل الهندسي. وقد يكون تقسيم الأرقام إلى أرقام زوجية وأخرى فردية أحد اختراعات الفيثاغوريين القديمة، أما فكرة أن فيثاغورس نفسه كان أول من قدم إثباتات أو نظريات رياضية دقيقة - وليس محض ملاحظات متعددة حول الأرقام والمثلثات وغيرها - فهي شيء يتمنى أنصاره أن لو كان صحيحا.

ومن بين هؤلاء الأنصار كان راسل الأكثر جرأة في العصر الحديث، ويعتمد ادعاؤه أن فيثاغورس كان الأكثر تأثيرا بين المفكرين على فكرة أن تأثير الرياضيات على المجالات الأخرى من الفكر لا يرجع الفضل فيه إلا لفيثاغورس. ويبدو أن راسل كان يقصد بكلامه نوعين من التأثير رغم أنه لم يحددهما بوضوح، أحدهما يتعلق بطريقة الإثبات الرياضي الذي نجده في كتاب «العناصر» لإقليدس الذي كتب عام 300 قبل الميلاد تقريبا، والذي ظل المرجع الرئيس في علم الهندسة حتى أضيف إليه العديد من أسفار العهد الجديد في القرن التاسع عشر. وتنطلق براهين إقليدس ببعض الاستنتاجات من مسلمات بسيطة يفترض أنها بدهية وصولا إلى استنتاجات جوهرية ومعقدة. وكان لهذا الأسلوب الشاق في البناء المنطقي عميق الأثر خارج مجال الرياضيات وداخله، ليس بوصفه نموذجا لطريقة تنظيم النتائج العلمية فحسب (فقد كتب نيوتن على سبيل المثال كتاب «الأصول» بالطريقة نفسها) بل في القانون وعلم اللاهوت. وقد قال راسل: «لولا فيثاغورس ما كان علماء اللاهوت ليسعوا إلى إيجاد براهين منطقية لوجود الله ولفكرة الخلود.» وإذا كان بوسعنا القول إن مفهوم الأدلة الرياضية تطور على يد الإغريق وكذلك قبل عصر إقليدس (الذي عاش في القرن الرابع قبل الميلاد) فليس ثمة ما يدعو للاعتقاد أن فيثاغورس أو أتباعه هم من ينسب إليهم كامل الفضل في اختراع هذا المفهوم أو حتى جزء من هذا الفضل. ويظهر هذ الاستنتاج الدقيق جليا في أعمال بارمنيدس الذي سنتناوله في فصل لاحق. إن ما ينسب الفضل إليهم فيه حقا هو أمر ذو صلة ولكنه أكثر دقة؛ إذ يبدو أن الفيثاغوريين كانوا أول من أكد أن الرياضيات يمكن الاهتمام بها من أجل الإشباع العقلي، وليس لأنها تصلح لإجراء الحسابات فحسب. وربما كان جوناثان سويفت يرسم صورة هزلية للفيثاغوريين في ذهنه عندما وصف علماء الرياضيات شاردي الذهن في جزيرة لابوتا في روايته «رحلات جليفر»:

لقد بنيت منازلهم بطريقة سيئة ... فلا زوايا قائمة في أية وحدة سكنية ولو حتى واحدة، ويرجع ذلك الخلل إلى الاحتقار الذي يكنونه للهندسة العملية ... ولم أر قط من هم أكثر حمقا ورعونة من هؤلاء، ولا من هم أشد منهم بطئا وارتباكا في المفاهيم المتعلقة بكل الموضوعات ما عدا الرياضيات والموسيقى.

كان اتخاذ موقف نظري ثابت تجاه الرياضيات كما فعل الفيثاغوريون الحقيقيون سيساعد دون شك على الأقل في تمهيد الطريق لفكرة البراهين الرياضية التي لم يكن الإغريق - وهم أكثر البشر اتباعا للطرق العملية في التفكير في ذلك العصر - ليستخدموها بكثرة. ونظرا لاهتمامه بالتأمل ورغبته في كشف النقاب عن الأساس الرياضي للأشياء، يهتم الفيثاغوري بالأشياء الرياضية كالمثلثات والأرقام في حد ذاتها وليس بوصفها محض نماذج لقطع الأرض أو المبالغ المالية، كما يحاول الفيثاغوري التفكير في تلك الأمور بشكل مجرد ليتوصل إلى كيفية ارتباط الحقائق والمفاهيم الرياضية ببعضها؛ مما ينتهي به إلى أسس براهين إقليدس سواء أدرك هذه الأسس أم لم يدركها.

أما النوع الآخر من تأثير الرياضيات الذي ينسب راسل الفضل فيه إلى فيثاغورس فهو أكثر غموضا من النوع الأول، وهو ناتج عن الفكرة القائلة إن الرياضيات تتيح المعرفة المتعلقة بعالم من الأشياء المثالية (كالدوائر المثالية أو الخطوط المستقيمة استقامة تامة)، وهو أعلى منزلة مما ندركه عن العالم المادي الوعر غير المثالي من خلال الحواس. ويفترض بالمعرفة الرياضية ألا تكون أكثر دقة فحسب، بل أن تكون أكثر سموا وإيضاحا كذلك؛ ذلك أنها أكثر تجريدا مما يجعلها نموذجا يحتذى به لكل أنواع المعرفة الأخرى. وعندما كتب راسل لاحقا عن «تراجعه عن تأييد فيثاغورس» بشكل نهائي، أكد أن ما تراجع عنه هو «الشعور بأن العقل أرقى من الحواس أي الإدراك الحسي كالإبصار.» ومن السهل اعتبار هذا الشعور تطورا طبيعيا للديانة الأورفية؛ فالجسد وكل ما ينقله لنا من معرفة إنما هي أشياء ملوثة فاسدة، أما العقل أو الروح وما ينقلانه لنا فهي أفضل وأحسن. وكان أهم مؤيدي ذلك الاتجاه هو أفلاطون؛ ولذلك كان راسل محقا عندما اعتبر أن الفيثاغوريين - وإن لم يكن فيثاغورس نفسه - جزءا من إلهام أفلاطون في هذا الأمر. ولكن الجزء الذي يبالغ فيه راسل هو الافتراض بأن وصول الفيثاغوريين أولا لذلك الأمر يعني أنهم أصحاب الفضل في كل محاولات السير في هذا الدرب، ولكنه يبدو دائما طريقا طويلا يغري الكثيرين للسير فيه. وبعد كل ذلك، إذا كان الروحانيون من علماء الرياضيات يرغبون في نموذج يتخذونه قدوة فإن فيثاغورس هو غايتهم المنشودة. وقد لا يكون فيثاغورس في حقيقة الأمر قد قام بالمعجزات التي تنسب إليه ولكن هذا ينطبق على كل القديسين أو معظمهم.

الفصل الثالث

الرجل الذي بحث عن نفسه:

هرقليطس

ترجع الصورة الرائجة بين الناس للفيلسوف على أنه معلم شارد الذهن إلى عهد طاليس كما رأينا. وقد جاء هرقليطس (حوالي 540-480ق.م.) ليعرض جانبا آخر من الصورة التقليدية الساخرة عن الفيلسوف ألا وهو جانب الغموض؛ فقد استحق لقب «صانع الحجج» عن جدارة. وعندما سأل يوريبيديس سقراط عن رأيه في كتابات هرقليطس فمن المفترض أن سقراط أجاب بقوله: «ما أروع الجزء الذي أفهمه! وما أروع الجزء الذي لم أفهمه أيضا، ولكنه يحتاج إلى غواص ماهر كي ينفذ إلى أعماق معانيه.» ليست هذه محض مزحة بسيطة من سقراط؛ فثمة مثالان آخران على أقوال هرقليطس المستعصية على الفهم نعرضهما فيما يلي: «الموت هو كل ما يتراءى لنا في يقظتنا، بينما ما نراه خلال نومنا فهو النوم.» «إن الحياة تشبه طفلا يلعب، ويحرك دماه أثناء لعبه. والملكية تنتمي إلى الطفل.»

ناپیژندل شوی مخ