المقدمة الثالثة
تاريخ الأسرة الخامسة المصرية التي دونت في عهدها حكم فتاحوتب
كانت منفيس وما والاها من المدن مقر ملك الأسرة الخامسة المصرية التي بدأت دولتها في وادي النيل سنة 2750ق.م؛ أي منذ ستة وأربعين قرنا، وكان ملوك تلك الأسرة إذا ورث أحدهم الملك وتربع في دست سلفه أضاف إلى اسمه لقب «ري». وقد حقق المؤرخون أن الكهنة هم الذين نصحوا لملوك تلك الأسرة بإسناد هذا اللقب إلى أسمائهم؛ لأن فيه رمزا دينيا يجعل دار الملك مرتبطة أبدا بالسلالة المقدسة، ومعنى ذلك تسليم الملوك أمورهم جلها أو كلها لرجال الدين، وإشراكهم في النفوذ والسلطان، ودليل المؤرخين على ذلك أن الكهنة حاولوا إقناع أفراد الأسرة الرابعة - وكلهم من الجبابرة العتاة بناة الأهرام الكبرى ومؤسسي الآثار الخالدة - أن يشفعوا هذا اللقب الديني «ري» بأسمائهم، فلم يرض ملوك تلك الأسرة، ولم يفلح الكهنة في سعيهم.
ومما يؤكد ويؤيد حجة المؤرخين في قولهم بخضوع الأسرة الخامسة لرجال الدين واستسلامهم لهم، أن الكهنة فرضوا على كل ملك من ملوكها أن يبني على مقربة من قصره معبدا فخيما يسميه هيكل الشمس المقدس، وكانت هذه الهياكل تمتاز عن غيرها بأنها مربعة الشكل، وفي كل واحد منها غرف رحيبة، وفي مؤخر المعبد مرتفع من البناء عليه مسلة منقوشة باذخة يرمز بها إلى إله الشمس رافعا رأسه إلى السماء. وكانت غرف المعبد المذكورة آنفا مزدانة بالصور والنقوش التي تمثل منابع النيل وما حولها من البحيرات والجبال، وفي بعضها صور تمثل الصحراء الواسعة الأكناف، والبحر «المحيط» المترامي الأطراف، وبعضها يمثل أهل مصر في مزارعهم ومتاجرهم ومصانعهم.
وكان في كل معبد مكان خاص بالملك يصور فيه حوادث عهده الحربية والسلمية، ويظهر أن الكهنة الذين أشاروا على ملوك الأسرة الخامسة بتشييد تلك المعابد أمروهم بالعناية بها، ووقف ريع الضياع والحقول عليها، وتعهدها من حين إلى حين بالهدايا والتحف. وكانت تلك الهياكل في الواقع كأديرة النصارى وتكايا المسلمين، يقتسم خيراتها من الكهنة من تقدم في السن، أو لحقته الأدواء والعاهات العائقة عن القيام بشعائر الدين.
وقد انضم بعض شبان الكهنة إلى مشايخهم؛ حيث كانوا يعملون على ترقية الأخلاق بنشر الفضائل، وحث الناس عليها. ويذكر المؤرخون أن ذلك العهد كان بدء نهضة علمية أدبية؛ ففي أيام الملك «إيسوسي»، آخر ملوك الأسرة الخامسة، نشأ حكماء فضلاء وكتاب مجيدون أشهرهم واضع هذا السفر الجليل الوزير فتاحوتب «الفتاح العليم»، وهو «وزير مصر، ومحافظ المدينة، وقاضي القضاة، ووارث كهنة فتاح».
وكانت تلك النهضة الأدبية معززة بنهضة سياسية أخرى؛ لأن ملوك تلك الأسرة تنازلوا عما كان عليه أسلافهم من البطش والتفرد بالسلطة المطلقة، وأذنوا لأكابر وزرائهم باقتسام نفوذهم، والاشتراك معهم في تدبير شئون الملك. وقد وصل الأمر بالوزراء إلى أنهم انتحلوا لأنفسهم لقبا ثابتا، هو لقب «فتاحوتب»، فكان فرعون في الإمارة وفتاحوتب في الوزارة، ثم إن الوزير الأكبر كان يترك منصبه لابنه يرثه بعده، كما كان الملوك يورثون الملك بعضهم بعضا؛ فكأن البلاد كانت في الواقع محكومة بأسرتين متضامنتين متكافلتين.
ومنشأ هاتين الأسرتين من الكهنة ورجال الدين الذين تغلبوا على أذناب الأسرة الرابعة، فغلبوهم على أمرهم وانتزعوا الملك من أيديهم، ثم اقتسموه بينهم، فكان الملك نصيب كهنة مدينة الشمس «هليوبوليس»، والوزارة نصيب كهنة فتاح، وهم - لا ريب - أضعف من كهنة مدينة الشمس نفوذا، وأقل شأنا وشأوا.
وهذه الحقيقة التاريخية تعلل تساهل ملوك الأسرة الخامسة مع رجال الدين، واستسلامهم لهم تعليلا حسنا؛ لأنه لولا ذلك اللين وتلك المحاسنة ما استطاع فريق من رجال الدين أن يستقل بالملك، ما دام الكل يطمع فيه، والشعب المصري المسكين يمرح في نعيم الجهل، بعد أن حجب هؤلاء الخونة المستبدون من رجال الدين وغيرهم عنه نور العلم وضياء المعرفة، وخلوه يرسف في قيود الذل، ويعمه في ليل من الغفلة ، ولولا ذكر بعض حسنات الكهنة في كتب بعض المؤرخين، وثقتنا بهم، وسعة اطلاعهم، لارتبنا في وصفهم كهنة الأسرة الخامسة بالصلاح، وقولهم عنهم: إنهم كانوا في معابدهم يعملون على ترقية الأخلاق بنشر الفضائل، وحث الناس عليها.
بيد أن القوة المهولة الساهرة على حياة الشعوب التي لا تأخذها سنة، ولا تغفل عما يفعل الظالمون، انتقمت للضعفاء من الأقوياء، وانتصرت من الباطل للحق؛ فحدث ما كان في الواقع نتيجة منطقية لتلك المقدمات، وهو أن عمال الحكومة كبارهم وصغارهم رأوا كيف انتزع الكهنة الملك من أيدي أصحابه، وتعلموا على أيديهم طرق الاغتيال؛ فسنوا لأنفسهم سنة جديدة، وهي أن يورثوا أولادهم مناصبهم من بعدهم، فكان كل عامل يخلفه ولده؛ ليكون خير خلف لخير سلف، وبعبارة أخرى كانت الحكومة المصرية في ذلك العهد وراثية «بيروقراطية»، وفي هذا النظام من منازعة الحكام والعمال للملوك نفوذهم ما لا يخفى؛ لأن كل حاكم أو عامل في الحكومة يرى لنفسه حقا وراثيا فيها؛ فلا يستطيع الملك أن ينال من السلطة ما لا يود عماله.
ناپیژندل شوی مخ