والقاسم المشترك لكل هذه الحكايات الملغزة هو أن القادر يعجز، بينما العاجز يقدر.
وهو كما يلاحظ نتيجة أو حد ثالث لجدلية تعلي من شأن الفقراء وبسطاء الناس، عبر صراعهم الأزلي المتفاقم دوما في مواجهة الطرف أو الحد الثاني للقوى السلطوية المتجبرة القادرة داخل المجتمع.
تنتهي دوما بانتصار البسطاء؛ الشعب.
الفصل الثامن
الأبطال اللصوص والشطار النزقين والمكارين
كنت متأففا قليلا وأنا أجمع هذا النص - اللص والملك - من مصدره الشفاهي بإحدى قرى الفيوم الصغيرة المجدبة، الواقعة قريبا من بحيرة قارون، إلى أن وقع نظري على مصدره المدون حين أورده «هيرودوت» في كتابه الثاني من كتبه التسعة، التي يحوي كل جزء منها إحدى عرائس العلوم والفنون من بنات «زيوس» التسع، التي تحدث فيهم أبو التاريخ عن الشرق القديم، مسميا كل جزء باسمه العام، كالأحاديث الليبية أو الروايات الآشورية، ثم حديثه عن مصر التي زارها حوالي عام 440ق.م، ودون فيها هذه الحكاية الشفاهية التي جمعتها عام 1963 مع ما جمعه ودونه من أحداث ومشاهدات ومواد فولكلورية وأسطورية، كما يشير بهذا في الفصل 99: «إن ما قلته حتى الآن هو نتيجة لمشاهداتي الخاصة وآرائي وأبحاثي الشخصية، وسأبدأ من الآن فصاعدا بقص الروايات المصرية طبقا لما سمعته.»
وهيرودوت مثله مثل كل المؤرخين والرحالة والمفكرين الذين سبقوه في المجيء إلى مصر والشرق القديم - سواء سبقوه في المجيء مثل: «هيكاتية الملطي»، وفيثاغورس، وأبقراط، وطاليس، ووسولون، وديموقريطس الأبدري، وكذلك ديودور الصقلي، واسترابون، وبلينوس، وأسطفانوس البيزنطي، وبلوتارخ، وأفلاطون، والمئات غيرهم - أصبحت كتاباتهم وملاحظاتهم مراجع أساسية لأغلب المعارف الإنسانية، سواء ما يتصل منها بالتاريخ والاجتماع، أو ما يتصل بالفولكلور والدراسات الإثنولوجية والأساطير المقارنة وعلم ما قبل التاريخ.
وبرغم أن أولئك المؤرخين والرحالة كانوا دائمي التشكيك في بعضهم البعض، ففي الوقت الذي شكك فيه هيرودوت فيمن سبقوه - مثل هكاتية الملطي الذي اتهمه بالجهل - اتهم بلوتارخ هيرودوت بأنه كان «صديقا للبرابرة»؛ وذلك لتغلغله داخل الحياة الشعبية في مصر، راصدا ومسجلا ما تقع عليه عيناه النفاذتان وبصيرته الفاحصة.
وفي تقديري أن العهد الذي قطعه هيرودوت على نفسه بعدم الغوص بكامله في قضايا اللاهوت والآلهة والأساطير المصرية، بعكس ما تم مثلا بالنسبة لغيره من المؤرخين والمفكرين الذين زاروا مصر، مثل: هكاتية وديودور الصقلي واسترابون وبشكل أخص بلوتارخ، فقد وجه طاقته إلى رصد مظاهر الحياة والمعتقدات، مثل: القصص والحكايات وطقوس وشعائر الميلاد والزواج والوفاة، وكذلك التقويم المصري القديم والجاليات والأقليات التي كانت تزدحم بها مصر في القرن الخامس قبل الميلاد، من فرس ويونانيين وفينقيين وفريجيين وأحباش وليبيين، وما يتبعهم من عادات وتقاليد ومظاهر معيشية يومية.
لذا راح هيرودوت يتحدث عن مهن «الفرازين» الذين يفرزون البهائم بتحسس ما تحت ذيولها. وعن «التابو» الذي حرم على المصريين عدم أكل رأس الحيوان - إذ إن الرأس مكمن كل خطيئة - والخنازير وطرق إخراج أحشاء الذبيحة بعد ذبحها، وتحريمهم ذبح إناث الأبقار؛ تقديسا لحيوان إيزيس المقدس، وتحريم التضحيات البشرية من الأطفال الذكور والبنات على خلاف عادات الآسيويين والساميين والإيجيين وحتى اليونانيين، وكذلك تحدث عن نجاسة الخنازير والكلاب، وتحريمهم دخول المعابد بعد الجماع دون اغتسال، «وسائر الشعوب - فيما عدا المصريين واليونانيين - يجامعون النساء في المعابد، ويدخلونها دون اغتسال»، ثم سبقهم عن الكيفية التي كان يتقي بها المصريون القدماء البعوض باستعمال «الناموسيات »، وسبقهم في اكتشاف «باسم أي إله يسمى كل شهر وكل يوم، وحظ من يولد في يوم كذا وكذا»، وكذلك اكتشافهم الأول لعلم «المساحة»، وكذلك تحدث عن الطبقات السبع التي كان يتكون منها المجتمع: طبقة الكهنة، وطبقة المحاربين، ورعاة البقر، ورعاة الخنزير، والتجار، والمترجمين، «والملاحين»، لكن كان أقسى صمته وفاء لما قطعه على نفسه بعدم الحديث عن لاهوت مصر، حين تحدث عن تلك «الاستعراضات التي كانت تقدم ليلا في هذه البحيرة المستديرة التي تمثل مصيره المحزن (يقصد أوزيريس) التي يسميها المصريون «أسرارا»، ومع أنني عليم بتفاصيل ما يدور بكل منها إلا أنني ألتزم الصمت بصددها.»
ناپیژندل شوی مخ