ومن العظماء رجال يخلقون الأحوال، ويهيئون الوسط الذي ينشئون فيه، ويوجدون الفرص المناسبة فينتهزونها، وهذا فريق عظماء الحرب والسياسة؛ كالإسكندر وقيصر وبيسمارك، فإن الإسكندر عندما تولى عرش أبيه فيلبس وقام يفتح الأرض من أدناها إلى أقصاها، لم تكن الأرض في حاجة لفتوحاته، إنما بدل سلطة بسلطة وقضى نحبه في مقتبل العمر عقيب ما عاناه من شقة الجولان ومتاعب الحروب في أنحاء المعمور. كذلك قيصر أنفق مليونا في ملاذه قبل وصوله إلى غايته في رومة، ثم دوخ الغال والإسبان وعاد إلى رومة يتوعد كبار القواد، ثم رضي أن تقسم السلطة بينه وبينهم إلى أن حان له أن ينفرد بالقوة، فلم يتردد هنيهة، فصير مجالس رومة ومناصب قناصلها أسماء لا مسميات لها، ومهد بذلك سبيل تيبريوس الذي رفع حصانه إلى مقام أعضاء مجلس الأعيان والشيوخ. وما زال في طغيانه إلى أن قتله أصدقاؤه الذين كانوا يحبونه، ولكنهم يحبون الحرية والحق أكثر من حبهم إياه.
كذلك حال عظماء السياسة؛ فهم يخلقون الفرص ويهيئون النتائج بمقدمات يعدونها. إن بيسمارك هو الذي أثار حرب السبعين التي أورثته مجده؛ لأنها أنتجت تكوين إمبراطورية ألمانيا. كذلك لويد جورج هو الذي أحدث الانقلاب الاجتماعي الاقتصادي الآخذ اليوم بتلابيب أمة الإنكليز، ومنشأ هذا رغبته في المساواة بين الأغنياء والفقراء؛ لأنه ولد معدما.
يفطن القارئ مما تقدم إلى أن بونابرت هو من هذا الفريق الأخير من العظماء، أي إنه خلق الظروف التي أحاطت به وهيأ النتائج بالمقدمات التي أعدها. والناظر في تاريخ بونابرت يرى صحة هذا النظر يوما بيوم، فهو الذي أطلق المدافع على العامة في شوارع طولون، فبدد شملهم فاشتهر، وهو الذي رسم لذاته خطة السيادة في العالم ومعاكسة الإنكليز في أقطار الأرض، فصح عزمه على محاربتهم في مصر، ومقاومتهم في إسبانيا والبورتغال، ورمى إلى إضعاف سلطة معضديهم في أنحاء أوروبا، فجرد حملاته الكبرى التي حملت إليه أكاليل النصر في ميادين واجرام ومارنجو وأوسترليتز وتلسيت وغيرها، ثم هو الذي خاطر بجيشه وشخصه فضرب في مناكب أوروبا إلى بلاد روسيا فرد خاسرا، بعد أن ترك ثمانية أعشار جيشه في سهولها المكسوة بالجليد، وبعد أن رأى بعينيه المتقدتين غربان الخراب تنعق على أطلال موسكو التي التهمتها النيران المهلكة، وسمع صوت شعب أبي يصرخ من أعماق تلك المدينة العظيمة التي أسلمها سكانها لألسنة اللهب: «بيدي لا بيدك يا بونابرت!» •••
ولست الآن في مجال ذكر تاريخ نابوليون إجمالا أو تفصيلا، بل أنا لا أريد أن أصدر عليه حكما تاريخيا؛ لأنني أقدم للقراء أفكاره وآراءه في كل ما يخطر على قلب إنسان، ولكنني لا أملك نفسي أن ألقي هذا السؤال: «هل عادت حياة نابوليون بونابرت على العالم بالنفع أو بالضرر؟»
إن الجواب على هذا السؤال يقتضي تقدير أعمال بونابرت ووزنها بميزان العدل بدون تحيز، فإن رجحت حسناته فلا ريب أن حياته كانت نافعة وإلا صح عكس ذلك.
أول ما يلفت نظر القارئ في حياة بونابرت هو مجموع تاريخه، فإن ترجمته جملتها إن لم تكن أجمل صحيفة في تاريخ العالم (ما عدا تراجم الأنبياء المطهرين) منذ الخليقة إلى الآن فهي بلا ريب من أجمل صحف التاريخ. أقول ذلك غير ناس كل جليل وضئيل في حياته، بل إن بونابرت نفسه لم يكتم عن العالم عيوبه؛ إذ دونها وانتقد بعضها وحاول تبرير البعض، كذلك صنع مؤرخوه نقدا وتبريرا بحوادث حياته.
أقول ولا أخفي عن القارئ صعوبة العمل الذي أحاوله بكتابة هذه الصحف؛ لأنه في ذاته شاق وصعب في بابه ومن جهة أخرى؛ لأنه غير مألوف فيما نكتبه نحن الشرقيين في عرض الكلام على العظماء، فإن بدرت هفوات وأغلاط في شكل البحث أو موضوعه، فلا يرجع الخطأ إلى لباب البحث من حيث هو نقد تاريخي، إنما يرجع إلى كاتب هذه السطور، وإنما نعد عملنا هذا تجربة فإن لم نظفر ببعض أو كل الغاية المنشودة، فلا أقل من أن نغتبط بفتح باب جديد في البحث التاريخي.
يقتضي العدل أن ينظر إلى بونابرت من كل جهة من جهاته الخاصة، ثم تلقى عليه وعلى أعماله وآثاره في وطنه وفي العالم نظرة عامة وبيان ذلك أن نفحص شخصيته وأحواله النفسية والمؤثرات الأدبية والاجتماعية والسياسية التي أثرت فيه في كل أطوار حياته، ثم نبحث في أعماله بحثا إجماليا، ثم نصدر الحكم عليه فيكون حكما قريبا من الحق على قدر المستطاع.
وغير خفي على أولي الفطنة أن الحكم على ظواهر حياة بونابرت كمراتب المجد ومناصب القوة والسلطة التي تقلب فيها غير كاف، إذا ضربنا صفحا عن أصله ومنشئه؛ لأن للوراثة والنشوء الطبيعي في أخلاق الرجال وطبائعهم، بل في أخلاق الجماعات والأمم آثارا قوية لا يمكن إهمالها أو نسيانها.
نابوليون بونابرت من أهل كورسيكا، وهي جزيرة في أواسط البحر، منقطعة عن الممالك المجاورة، فلا هي إيطالية ولا هي فرنسوية، ولا هي بالبيئة البرية ولا بالوسط البحري المحض. جزيرة اشتهر أهلها بقوة المزاج وشدة الشكيمة وسرعة الغضب وحب الانتقام (فنديتتا)، وقد يكظم أحدهم غيظه ويصبر على الضيم سنين؛ لأنه يعد لعدوه ثأرا شيطانيا، يدبر له مكيدة جهنمية تخنقه خنقا شاذا وتمطر عليه نارا وكبريتا، وتبعث إليه من قرار سقر بأفاع ذات سم زعاف يرسلن به إلى عالم الهلاك والعدم، كما يقول شكسبير في بعض رواياته.
ناپیژندل شوی مخ