أفتح التلفاز لمتابعة الأخبار؛ لأرى المذيعة الحسناء مع ضيفها الملول يتحدثان عن أيام الفن الجميل، قناة أخرى تستعرض بعض الفواصل الغنائية لمطرب متعرق متحمس. لا أخبار عن الخرطوم في العالم الموازي الآخر، حيث كانت الشوارع تضج بالهتافات، وأزيز الرصاص وقنابل الغاز.
أفتح الصحيفة فأرى ذلك الوزير، يتحدث عن «عملاء الغرب أصحاب الأجندات الخاصة الذين يحاولون تخريب صفونا وسلامنا»، مع الكثير من الشتائم للشباب الرقيع الذي جرؤ على الخروج على حاكمه، وبعض فواصل المديح للحكومة الرشيدة. صحيفة أخرى تتهمهم بأنهم مجموعة من الشواذ والعاهرات، صفحة أخرى بنفس الصحيفة تتحدث عن المخربين المدعومين خارجيا من قوى الماسونية والظلام.
وتذكرت «عمار».
كان جالسا على الكرسي مقابلي في إحدى الجلسات الأولى، ويقول لي في انفعال بأسلوبه الخطابي المميز كحاله دائما، كلما كان الحديث سياسيا: «أساس أزمتنا، يا سيدي، ليس في رموز الحكومة فقط، هؤلاء ما كانوا ليستمروا في حياتنا لولا تلك الكائنات الطفيلية، المنتفعون الذين لا يملكون ضميرا ولا دينا ولا ذمة، كلهم متملقون مداهنون، كلهم يملكون عشرات المنازل الفخمة والسيارات الحديثة، ويتزوجون ثلاثا ورباعا من فتيات في عمر بناتهم، كلهم يلبسون البذلات الاشتراكية والجلباب، ولهم ذات علامة الصلاة في الجباه الخاشعة، يحملون المسابح يتظاهرون بذكر الله، وفي عيونهم المسبلة المتراخية ترى نظرة من شبع بعد جوع.
لا عمل لهم سوى إراحة مؤخراتهم المترهلة على كراسي المكاتب، وإذا اضطروا للنهوض فإنهم يتراصون خلف الزعيم المفدى يهتفون له في حماس، ويبررون له سوء إدارته وفشله في كل شيء.
عملهم تقديم الولاء ولا شيء سواه. ترى في عيونهم قبح الفساد والتدين المزيف. ترى المرضى الذين يموتون من أجل جرعة دواء أو أكسجين في المستشفيات الحكومية معدومة الإمكانيات. ترى الأمهات اللواتي يتسولن في محطات الوقود وإشارات المرور من أجل توفير لقمة لكل تلك الأفواه التي تعوي في المنزل. ترى المدارس الخربة، والإعلام المنافق، والجنيه المعدوم القيمة، وندرة كل شيء.
سترى فيهم فقرك، وعذابك، ومعاناتك، وقلة حيلتك، وهوانك بين الشعوب، وخيارك الأزلي بين أن تجوع في وسط زوجتك وأطفالك، أو تتشرد عنهم في بلاد العالم متغربا ولاجئا.
تريد حلولا؟ سيرفعون لك أصبع السبابة إياه، ويقولون لك إن «هي لله». «هي لله»، لكنها المؤامرة فاصبروا. «هي لله»، لكنه الاستهداف الخارجي فتحملوا. «هي لله»، وبسم الله تحمل قهرك وارض بفقرك واربط حجرا على بطن أولادك. لا ذنب لنا فيما تمرون به، هذا ابتلاء إلهي؛ لأنكم ابتعدتم عن دينكم يا حمقى.
يعدونك بالسماء، بينما يعيثون هم في الأرض فسادا.
هؤلاء يا سيدي هم مربط الأزمة وأساس البلاء، هم الورم السرطاني الذي نشأ وتضخم في جسد أمتنا في غفلة منها، سرطان لم تجد معه كل جرعات الكيماوي والمسكنات وانتظار فرج الله، إن هو إلا الاستئصال ولا شيء سواه، وللأسف فكلنا نطمح أن نكون مثلهم ونتفاخر بأنهم أقاربنا، إن الفقر يدمر الأخلاق كما تعلم.»
ناپیژندل شوی مخ