ولقد كان ماركيوز في حديثه عن المجتمع الرأسمالي على التخصيص، يفترض دائما وجود الرخاء فيه، حتى بالنسبة إلى الطبقات العاملة. إنه حين يدعو إلى محاربة النزوع المفرط إلى الاستهلاك، يفترض أن الوفرة - التي تخدر حواس الإنسان - جزء لا يتجزأ من تركيب هذا المجتمع، وأن أدنى الطبقات في السلم الاجتماعي متمتعة بنصيب من هذه الوفرة، ومن ثم فإنها تفقد ثوريتها وتصبح جزءا من دعائم بقاء النظام القائم. هذا يعني، بصورة ضمنية ولكنها واضحة كل الوضوح أن الفقر والشقاء منعدمان في ذلك المجتمع، حتى بين الطبقات الدنيا. وتلك في الواقع فكرة تسدي إلى المجتمع الرأسمالي خدمة لا تقدر، وإن تكن خدمة مستترة وراء ستار من النقد الشديد اللهجة. وأحسب أن إنسان العالم الثالث، الذي تقف بلاده حائرة بين اختيار هذا النظام الاجتماعي أو ذاك، حين يستمع إلى رأي ماركيوز القائل إن النظام الرأسمالي يقضي على ثورية الطبقات التي هي بطبيعتها قادرة على الثورة، ويسلبها القدرة على معارضة النظام المستبد القائم؛ لأنه يمنحها الوفرة ويغرقها في نعم الحياة الاستهلاكية السعيدة، سيقول لنفسه، دون تردد: وما حاجتي إلى الثورية إن كنت سأعيش منعما؟ وما خوفي من أن أكون «ذا بعد واحد» ما دمت في حياتي الراهنة بلا أبعاد على الإطلاق؟ وفيم يعنيني أن يكون النظام مستبدا إن كان يوفر لي ضروراتي وكمالياتي؟
إن ماركيوز يسدي إلى النظام الرأسمالي، في هذا الصدد، خدمة كبرى؛ إذ يتجاهل ما يعترف به الرأسماليون أنفسهم من حقيقة وجود الفقر في بلادهم (بنسب ليست كبيرة جدا، ولكن لا يمكن تجاهلها). وهو في الوقت ذاته يتجاهل أن الفقر شيء نسبي، ويتناسى أن الإنسان يمكن أن يكون فقيرا، حتى لو كان يتقاضى مرتبا مرتفعا نسبيا؛ فمثلا، حين تكون أبسط الخدمات الصحية باهظة التكاليف، وحين يكون التعليم العالي خياليا في أسعاره، يمكن أن يكون العامل فقيرا على الرغم من أنه يتقاضى مرتبا يبدو - بمقاييس البلاد الأخرى - مرتفعا، ويتيح له أن يشتري قدرا غير قليل من السلع الاستهلاكية. وأخطر ما في الأمر أن ماركيوز يفترض انعدام الفقر بين الطبقات العاملة بطريقة ضمنية دون أن يجد في ذلك ما يستحق حتى مجرد المناقشة، وكأنه بديهية لا سبيل إلى الشك فيها. فهو يعرض الفكرة في سياق نقده للمجتمع الرأسمالي؛ إذ إن هذا المجتمع أخطأ لأنه ربط العمال بعجلة الوفرة الاستهلاكية وانتزع منهم بذلك مخالبهم الثورية. وليس هناك ما هو أخطر - من الوجهة النفسية - من هذا الأسلوب الذي يلقي بالفكرة في ذهن القارئ عرضا، بوصفها مقدمة لا تناقش. وبوصفها عنصرا من عناصر نقد نظام تؤدي هذه الفكرة ذاتها، في واقع الأمر، إلى الدفاع عنه، وذلك على الأقل في نظر الفقراء والمحرومين. (3)
كان جهد ماركيوز الأكبر، في مجال النظرية الاجتماعية، متجها إلى تفنيد الفكرة الرئيسية في النظرية الماركسية، وهي فكرة التناقض بين الطبقتين البورجوازية والعمالية. فالمجتمع الصناعي المتقدم أصبح في نظره، ذا بعد واحد، وأصبحت الطبقات القادرة على المعارضة جزءا من النظام القائم. ففي مثل هذا المجتمع إذن يسود نوع من «التجانس»، مضاد تماما «للتناقض» الذي قال به ماركس، وهذا هو الواقع الجديد الذي طرأ على المجتمع الرأسمالي، والذي يحمي نفسه به من كل ثورة . إن كتاب «الإنسان ذو البعد الواحد» هو، في واقع الأمر، تفنيد مفصل لنظرية التناقض الطبقي بالنسبة إلى ظروف المجتمع الصناعي الحديث. وعلى حين أن هذا التناقض، عند ماركس، لا يزول إلا إذا أقيمت علاقات اجتماعية جديدة على أسس إنسانية، فإن ماركيوز يقول بنوع آخر من اختفاء المتناقضات، يتم في إطار النظام الرأسمالي، ويحتفظ فيه بكل عناصر الكبت والقمع.
ولا يملك المرء، إذا نظر إلى هذه الفكرة في ضوء قدرة النظام الرأسمالي على المحافظة على وجوده (وهي قدرة أثبت تاريخ القرن العشرين كله أنها أعظم بكثير مما كان يتوقع خصومه)، إلا أن يعترف بأن فيها قدرا غير قليل من الصواب. ولكن ما نهدف إليه الآن ليس بيان وجه الصحة أو الخطأ، بقدر ما هو التساؤل عما إذا كانت آراء ماركيوز قد أسدت خدمات إلى النظام الرأسمالي. وفي هذه الحالة لن يتردد المرء في الإجابة عن هذا التساؤل بالإيجاب؛ ذلك لأنه عمل على تفنيد أشد النظريات تهديدا لهذا النظام، وأثبت في الوقت ذاته - ضمنيا - أن الثورة على هذا المجتمع مستحيلة، وأن الموقف فيه ميئوس منه، وأنه نجح أخيرا في اصطناع الأسلوب أو «الميكانيزم» الذي يحمي به نفسه من كل خطر يهدده. أما كلام ماركيوز عن ثورية المضطهدين والهامشيين وجماعات الأقليات والملونين ... إلخ، فهو في واقع الأمر يزيد من تأكيد يأسه من التغيير؛ إذ إنه يعلم جيدا - وكذلك يعلم قراؤه جميعا - أن هذه الجماعات لا تستطيع أن تقوم إلا بحركات انتحارية مؤقتة، وأنها لا تملك شيئا حيال الجهاز الجبار للنظام الحاكم، وليس هناك ما هو أحب إلى النظام الرأسمالي من تأكيد قدرته على مقاومة أية تغييرات يمكن أن تؤدي إلى هدمه، وعلى امتصاص كل القوى القادرة على تغييره. إن هذا - باختصار - حكم عليه بأنه سيظل باقيا إلى الأبد. (4)
وفي مقابل ذلك فإن نقد ماركيوز للنظام السوفيتي كان بدوره - من الوجهة الموضوعية - هجوما على التجربة الكبرى التي تحدت العالم الرأسمالي وما زالت تتحداه إلى اليوم. وينبغي أن نلاحظ في هذا الصدد أن نقد مفكرين من أمثال ماركيوز للنظام السوفيتي يمكن أن يكون له أعظم التأثير في العالم الغربي على وجه التخصيص؛ ذلك لأن النقد الذي يأتي من أنصار الرأسمالية الصرحاء لا يحدث صدى كبيرا، فهم على أية حال خصوم للنظام السوفيتي وللاشتراكية بوجه عام، ومن ثم لا يتوقع منهم سوى هذ الموقف النقدي، الذي يمكن الشك دائما في أنه صادر بدافع مصلحة خاصة. أما نقد ماركيوز فالمفروض أنه يصدر عن «خصم» للرأسمالية، وعن مفكر «ثوري» و«تقدمي» يصف نفسه بأنه ماركسي. وكلما ازداد ماركيوز إمعانا في اتخاذ موقف التطرف والثورية، كانت الخدمة التي يؤديها للنظام القائم أعظم حين ينقد النظام المعادي له؛ ذلك لأن من ينقد في هذه الحالة ليس عاطفا على الرأسمالية، بل هو عدوها اللدود، وهو المفكر الذي استقطب الشباب الأوروبي والأمريكي واكتسب وسطه شعبية هائلة بدعوته إلى الثورة. ومن هنا كان من السهل أن يحدث ارتباط بين عبادة الشباب لثورية ماركيوز وبين نقده للنظام السوفيتي ووضعه إياه على قدم المساواة مع النظام الأمريكي في كبته للإنسان المعاصر. بل إنه ليبدو أن إصرار ماركيوز على أن يعتبر نفسه ماركسيا، على حين كانت آراؤه في نظر الكثيرين مزيجا غير متآلف من أفكار هيجل وفرويد ونيتشه وهيدجر، بالإضافة إلى ماركس الشاب؛ هذا الإصرار يخدم غرضا هاما، هو أن يجعل نقده للماركسية السوفيتية أشد فعالية وأقوى تأثيرا.
ولعل هذه النقطة الأخيرة هي التي تتيح لنا أن نرد على تساؤل لا بد أنه جال بذهن القارئ مرات كثيرة خلال قراءته لهذا البحث، وأعني به: «كيف استطاع النظام الأمريكي أن يحتمل وجود مفكر نقده بهذه القسوة، ودعا إلى الثورة عليه بهذه الصراحة؟ أهو من قبيل «التسامح الخالص» الذي أشار إليه مركيوز في مقاله المعروف، والذي يسوي بين من ينقد المجتمع ومن يسايره ويرضخ له، وبذلك يجعل من الأول جزءا من النظام القائم؟» قد يكون الأمر كذلك بالفعل، بل قد يكون وجود المعارضين شيئا مرغوبا فيه؛ لأن نقدهم الحاد يؤدي إلى رد فعل يخدم النظام آليا؛ إذ يشعر الناس بأن النظام يكفل الحرية للجميع، وبأن لديه الشجاعة على النقد الذاتي، وهو شعور يؤدي في نهاية الأمر إلى دعم هذا النظام. وقد يكون في هذا النقد الحاد ما يمتص غضب الغاضبين وسخط الساخطين، ويحول اتجاه الثورة إلى مسارات «ثقافية» مأمونة، ويشكل صمام أمن يقلل من الضغط ويمنع بذلك الانفجار. ولكن ربما كان الأهم من هذا وذاك أن هجوم أمثال هؤلاء النقاد على النظام المضاد لا بد أن يكون هو الهجوم الأشد إقناعا، والأقوى تأثيرا في النفوس.
وربما كانت هذه العوامل جميعا هي التي تفسر انتشار كتابات مفكرين معارضين للنظامين معا، مثل ماركيوز ورايت ميلز وإريك فروم وكثيرين غيرهم، وهو الانتشار الذي وصل إلى حد أن أصبحت هذه الكتابات تحتل مكان الصدارة بين جميع الكتب الرائجة في الولايات المتحدة مثلا. ومع ذلك فإن هؤلاء الكتاب لا يمكن أن يوصفوا بأنهم يشتركون في تدبير واع لدعم النظام القائم بطريقة ذكية. ولعل الدليل القاطع على ذلك هو أن كتاباتهم تسهم، برغم كل شيء، في زيادة الوعي بعيوب هذا النظام، وتساعد بالتالي على هدمه، وإن لم تكن تساعد على تصور بديل له. ولو كان لنا أن نحكم - في جملة واحدة - على التأثير الذي تركه ماركيوز على وجه التخصيص، لقلنا إنه ساعد على دعم النظام الرأسمالي وعلى هدمه في آن واحد، وليس هذا التأثير المتناقض بمستغرب في عالمنا المعاصر المعقد. «لقد حاول ماركيوز أن يشعل نار ثورة من نوع جديد، ولكنه أخفق لأنه ظل على الدوام فيلسوفا حالما، لا ثوريا واقعيا، ولم تكن المتناقضات التي ينطوي عليها مجتمعه الجديد أقل حدة من متناقضات المجتمع الراهن التي كرس حياته لتبصير العقول بها في الشرق والغرب.»
ناپیژندل شوی مخ