والواقع أن صورة الحياة الجديدة التي يدعو إليها ماركيوز قد تكون، في حقيقتها، أسوأ بكثير مما تبدو عليه لأول وهلة. فهو أولا يتصور أن انقياد الإنسان لرغباته يؤدي إلى تحقيق سعادته في كل الأحوال. وهذا تصور ساذج؛ لأنه على الأقل لا يتضمن تحليلا متعمقا للرغبة، وكشفا للتناقض الكامن فيها، على النحو الذي قام به عدد كبير من الفلاسفة منذ أفلاطون حتى عصرنا الحاضر. وأبسط ما يمكن أن يقال هو إن الرغبة تنطوي، في جانب من جوانبها، على اتجاه إلى استبعاد الآخر بحيث يغدو مجرد وسيلة لتحقيق رغبات الذات. ومثل هذا الاتجاه لا يساعد مطلقا على قيام مجتمع متحرر إذا استسلم له أفراد هذا المجتمع. ومن هنا لا مفر من فرض نوع من الكبت - في حدود معينة - على الرغبات، حتى في أشد المجتمعات انطلاقا.
وفضلا عن ذلك فإن مبدأ سيادة الحب في المجتمع الجديد هو مبدأ خداع إلى حد بعيد؛ ذلك لأن المجتمع الذي لا يعود فيه أي عائق يقف في وجه نزعات الإيروس ورغباته لا يمكن أن يوصف بأنه مجتمع سعيد. وحتى لو فرضنا أن التعليم والقيم الاجتماعية أصبحت كلها تشجع على الاستمتاع التام بالقوى الحيوية للإنسان متمثلة أساسا في الجنس، فلا يمكن أن يترتب على ذلك تحقيق سعادة مؤكدة لأفراد مثل هذا المجتمع. ذلك لأن طغيان الجنس يمكن أن يؤدي إلى التعاسة والقبح مثلما يؤدي إلى الرضا والجمال. ولا بد لضمان تحقيق نتيجة إيجابية في انطلاقة الحب هذه، من أن يفرض نوع من الضوابط أو من التنظيم في علاقات الحب بين الأفراد؛ أي مما يسميه ماركيوز بالكبت، وهو ما يريد ماركيوز استئصاله من المجتمع الجديد (متجاوزا في ذلك فرويد بكثير).
ومن ناحية أخرى، فهل يمكن أن يكون الحب والجنس حقا غاية عليا في المجتمع الإنساني المتحرر؟ أخشى أن أقول إن هذا الاهتمام المفرط بالجنس يحمل في طياته آثار القيود التي يعانيها الإنسان في المجتمع الحالي، وأن الاعتقاد بأن جنة الإنسان في المستقبل هي جنة يستمتع فيها الإنسان بمشاعره الجنسية استمتاعا حرا، لا يطرأ إلا على ذهن ينتمي صاحبه إلى حضارة تحرم الجنس وتضع دونه شتى العقبات. ولو تخيلنا مجتمعا أزيلت فيه القيود والتحريمات على الجنس، لكان الإنسان في هذا المجتمع - على الأرجح - غير مكترث بالجنس إلى الحد الذي يتصوره فيلسوفنا الذي يستمد آفاق تفكيره من مجتمع متمسك بالتحريمات. ولكي نكون واقعيين ينبغي أن نتذكر أن مجالات الاستمتاع بالجنس محدودة، مهما بدت لنا في منظورنا الحالي واسعة. ولقد تساءل أحد الكتاب - وكان على حق تماما في تساؤله: ما الذي يستطيع إنسان المستقبل أن يفعله في مجال الجنس، مما لا يستطيع الإنسان الحالي أن يفعله؟ أهناك حقا، في هذا المجال، عالم جديد كل الجدة، لم نجربه في عالمنا بعد؟ أم أن إزالة القيود لن يترتب عليها أي تغيير «كيفي» في طريقه استمتاع الناس بالجنس؟ أغلب الظن أن التحرر من الكبت سيترتب عليه، في المدى الطويل، تضاؤل أهمية الجنس في حياة الإنسان، لا زيادتها. أما أولئك الشبان الذين نراهم اليوم، في مستعمرات الهيبيز وغيرها، مغرقين في مظاهر الحب بمختلف أنواعها، فإنهم، مهما كانوا متحررين، يخضعون في تصرفاتهم لمبدأ رد الفعل، ويتعمدون مخالفة قواعد المجتمع الموجود. ولو كانوا يعيشون في مجتمع يسير على نفس مبادئهم، لكان دور الجنس في حياتهم المتحررة أضيق نطاقا بكثير. ويكفي في هذا الصدد، أن يتذكر المرء أن الاستمتاع بشتى مظاهر الحب لا يمكن أن يكون عملا يتفرغ له الإنسان، أو يشغل الجانب الأكبر من وقته، وذلك بحكم الضرورة البيولوجية والنفسية ذاتها بغض النظر عن أية تحريمات أو تعقيدات اجتماعية.
وأخيرا، فقد رسم لنا ماركيوز معالم هذه الحياة الجديدة دون أن يحدد لنا بوضوح، الوسائل العملية الكفيلة بتحقيقها. وهناك على الأقل، عقبة واحدة رئيسية تجعل قدرة الإنسان على تحقيق هذه الحياة أمرا مشكوكا فيه هي أن الأساس المادي للمجتمع الجديد سيكون هو ذاته التقدم التكنولوجي وسيادة الآلية الذاتية في العالم؛ أي أن نفس الأسلوب السائد في المجتمعات الصناعية المتقدمة حاليا، هو الذي سيسود المجتمع الجديد (مع اختلاف في الغايات بطبيعة الحال) ولكن كيف نستطيع أن نتخلص، بهذا الأسلوب نفسه، من التنظيم القهري الذي يفرضه المجتمع الراهن؟ ألا يحتمل أن يؤدي استمرار التكنولوجيا الحالية إلى استمرار نفس وسائل القهر الراهن؟ إن الآلية الشاملة التي ستحقق للمجتمع الجديد الوفرة وتعفي الإنسان من العمل المغترب، تقتضي بطبيعتها نوعا من التنظيم الدقيق الذي يجلب معه، حتما، ألوانا من القهر والضبط والتحكم في سلوك الأفراد، والتضحية بالفرد في سبيل المجموع. ومن المستحيل أن تستمر آلات هذا العصر المرتقب في الدوران بدون نوع من الترشيد؛ أي من سيادة العقل، في التنظيم الاجتماعي. أي أننا سنضطر حتما إلى الاعتراف بأهمية العقل إلى جانب الغريزة، وربما قبلها، وسنعيد للوجوس مكانته التي أراد ماركيوز أن ينحيه منها جانبا لكى يحل محله الإيروس. (ب) ماركيوز والشباب
تصلح النقطة الأخيرة التي أشرنا إليها في ختام القسم السابق، وأعني بها عجز ماركيوز على أن يحدد بوضوح الوسائل العلمية التي تعين على تحقيق المجتمع الجديد، لكي تكون نقطة انطلاق لتحليل نقدي لموقفه من الشباب؛ ذلك لأنه، كما رأينا، لا يقدم نظرية ثورية يمكن أن تتخذ أساسا لممارسة عملية، بل يقدم إلينا تحررا رمزيا، على مستوى الفكر وحده، في المجال الحسي والجمالي فحسب. وربما بدا للمرء أن اختياره لهذا المجال بالذات دليل على يأسه من تغيير المجتمع القائم في علاقاته العينية؛ لأن العالم الجمالي، على أية حال، مجرد حلم، ولأن هناك هوة لا تعبر بين المجال الإستطيقي والمجال السياسي.
ولكن ماركيوز يعتقد أنه قد اهتدى إلى قوى معينة، في قلب المجتمع الحاضر، تستطيع أن تكون أداة عملية لإحداث عملية التغيير التي يدعو إليها. وعلى الرغم من أنه لم يقدم أي برنامج عملي مفصل للطريقة التي تستطيع بها هذه القوى أن تقلب المجتمع الراهن (وهو في ذلك يختلف عن الثوريين الأصليين، ويظل - كما قلنا - مجرد أستاذ ألماني للفلسفة)، فإنه قد أورد إشارات غير واضحة، ساعدت الأحداث على ترسيخها في الأذهان، عن الدور الذي تستطيع قوى الشباب، ممثلة في الطلبة بوجه خاص، أن تقوم به من أجل تغيير المجتمع. ولقد كان هذا الاهتمام بالطلبة، الذين ظهروا على المسرح بوصفهم قوة ثورية جديدة، هو الذي جلب لماركيوز القدر الأكبر من شهرته في السنوات الأخيرة من عمره. وكان الطلبة أنفسهم من أهم عوامل إذاعة هذه الشهرة؛ إذ إنهم أبدوا ترحيبا كبيرا بذلك المفكر الذي استطاع أن يجعل لهم دورا بارزا في تحريك أحداث العالم، في الوقت الذي كان فيه غيره من المفكرين يستبعدونهم أو يجعلون لهم دورا هامشيا فحسب. ومن جهة أخرى فإن ماركيوز ذاته وجد في ثورات الشباب تأييدا قويا لأفكاره التي نادى بها من قبل، والتي أعلن فيها أن القوى الثورية التقليدية، وهي البروليتاريا، قد فقدت ثوريتها باندماجها في المجتمع الصناعي المتقدم إلى حد أصبحت فيه تحرص على بقاء هذا المجتمع وتحافظ على طابعه الاستغلالي.
ولقد أشار ماركيوز في ختام كتاب «الإنسان ذو البعد الواحد» - بوجه خاص - إلى أن خلاص المجتمع لن يتم على يد أية جماعة من الجماعات المندمجة فيه، بل سيتم على أيدي «الهامشيين» والمرفوضين والمضطهدين والخارجين عن نطاق عملية الإنتاج. وعلى الرغم من أن هذه الإشارة كانت، في نظر كثير من الكتاب، تعبيرا عن اليأس والشعور بالعجز عن إحداث تغيير حقيقي في المجتمع القائم، فإن الشباب أنفسهم قد رحبوا بها ووجدوا فيها دليلا على أنهم أصبحوا الورثة الحقيقيين لروح الثورة في العالم. ولقد كان من الطبيعي أن تجد هذه الفكرة رواجا بين شباب العالم، ولا سيما في البلاد الصناعية المتقدمة بأمريكا وأوروبا؛ إذ إن الشباب في هذه البلاد مهيأ نفسيا للفكرة القائلة إنه مرفوض ومنبوذ، وأن الكبار لا ينصتون إليه ولا يتركون له دورا في تحديد مجرى الأحداث. وتكاد المشكلة الرئيسية للمراهقين في هذه البلاد أن تكون عدم إصغاء الكبار إليهم، وعدم تجاوبهم معهم؛ لأن هؤلاء الكبار منصرفون بكل قواهم إلى أعمالهم الإنتاجية، التي لا تترك لهم وقتا للتفاهم مع أبنائهم. ومن هنا فإنه حين يأتي مفكر مثل ماركيوز لكي يؤكد أن هؤلاء المرفوضين هم مخلصو البشرية الجدد فلن يكون من المستغرب أن يتعلق به الشباب ويروا فيه المفكر الناطق بلسانهم.
ومن ناحية أخرى فقد كان من الطبيعي أن يرحب الشباب بفيلسوف ينادي بانتهاء عهد الكبت والقهر، وبسيادة الإيروس على اللوجوس، أو الغريزة الحيوية على العقل، ويدعو إلى إحياء قدرات الإنسان الخيالية في مقابل قدراته المنطقية، ويجعل من الاستمتاع بالحب والجمال هدفا أسمى لحياة الإنسان في المجتمع الجديد. كل هذه تشكل في واقع الأمر أحلاما تراود الشباب في كل عصر، ويزداد إلحاحها عليهم في عصرنا الذي تسوده الروح التجارية، وفي المجتمعات التي تسير في كل أمورها وراء دافع الربح. ومن المؤكد أن دعوة ماركيوز إلى تقييد النزوع الاستهلاكي، وتأكيده لأضرار هذا النزوع على الشخصية الإنسانية، تتجاوب مع مثالية الشباب ونزوعه إلى الزهد في المطالب المادية، وهو ذلك الزهد الذي لا يتعارض على الإطلاق مع انطلاق الشباب وراء قيم الحب والجمال.
ولكننا نلاحظ، من جهة أخرى، أن ماركيوز حين يؤكد الحاجة إلى الأمان والحياة الراضية المسالمة، وإلى استمتاع الفرد «بمجال خصوصي» ينفرد به يبتعد دون أن يشعر عن جو الشباب، ويعبر بالتالي عن نفسه تعبيرا أصدق؛ ذلك لأن هذه القيم أشبه ما تكون بقيم العجائز الذين لا يريدون من الدنيا إلا «الستر». ومن المحال أن يستجيب الشباب، في توثبهم وانطلاقهم وسعيهم إلى المغامرة وارتياد آفاق جديدة مجهولة، لهذه الدعوة إلى المسالمة والأمان والهدوء والتهدئة. إن ماركيوز يريد أن يحيل الناس - بعد أن يصبح الإنتاج آليا يسيرا لا يقتضي منهم إلا أقل جهد - إلى «التقاعد»، ويجعلهم أشبه بمن ينشدون الهدوء والسلام و«الخصوصية» في مأوى منعزل بعد بلوغهم مرحلة الشيخوخة. وهذا، في رأيي، هو الذي يعبر عن موقف ماركيوز الحقيقي؛ إذ إنه مما يتمشى تماما مع تفكير شيخ مسن أن يدافع عن قيم العجائز. أما الدفاع الحار عن «الإيروس» - وهو دفاع يتناقض مع هذا الموقف تناقضا واضحا - فيبدو لي أقرب إلى الرغبة في تملق الشباب منه أي شيء آخر. إنه في حقيقة الأمر تدليل، بل تضليل للشباب؛ لأن المجتمعات لا تبنى على أساس من قيم الحب العاشق وحده. وهو يكاد يصل إلى مرتبة النفاق الصريح إذ يجعل من المبدأ الذي يدور حوله اهتمام الشباب أساسا لحياة كاملة من نوع جديد. وليس الدليل على ذلك هو تناقضه مع قيم الهدوء والمسالمة والانعزال فحسب، بل ربما كان الدليل الأقوى عليه هو تطرف ماركيوز - وهو شيخ عجوز ناهز السبعين - في تأكيد أهمية الجنس والحب إلى حد جعله مهمة رئيسية يتفرغ لها الإنسان في المجتمع الجديد.
على أن عيوب ماركيوز هذه كانت فضائل في نظر الشباب. وكذلك كان الحال في تأكيده فكرة الرفض السلبي، دون أية إشارة إلى الطريقة الإيجابية لبناء المجتمع الجديد؛ ذلك لأن مرحلة الشباب بأسرها تتميز من الوجهتين النفسية والعقلية بالاتجاه إلى رفض القديم والتقليدي والشائع، دون قدرة على الاستبصار لما يحل محله. والمفروض أن هذا الاستبصار سيأتي في مرحلة النضج، وإن كان من المحتمل ألا يأتي على الإطلاق. ولقد توقف ماركيوز عند حدود التعبير السلبي؛ فهو «يكره» هذا المجتمع، ولا «يريده»، ولكنه لا يتغلغل في تياراته واتجاهاته بطريقة علمية حتى يستطيع أن يغيرها على أساس سليم. ومن المؤكد أن هذا الطابع العاطفي، الانطباعي السريع، هو الذي جعله مقربا إلى كل من يمر بمرحلة العمر التي يصدر فيها المرء أحكامه على أسس عاطفية، ويكون فيها قبوله لأي شيء أو رفضه له مبنيا على حبه أو كراهيته له، لا على تحليل موضوعي هادئ للأمور.
ناپیژندل شوی مخ