ولكن الذي حدث بالفعل، في تاريخنا المعاصر، هو أن الإنتاج الوفير لم يستغل للقضاء على القمع، بل لزيادته، ولا لإشباع حاجات الإنسان الحقيقية، بل لإشباع نهم المنتجين إلى الربح وإلى المزيد من الإنتاج. ويترتب على ذلك فائض من العمل المغترب غير الضروري، كما يترتب عليه كبت زائد
sur-représsion
للغرائز. والواقع أن هذا القهر يزداد كلما ازدادت بشائر التحرر ظهورا، ولكنه في الوقت ذاته يكشف بوضوح عن التناقض الصارخ الذي يمزق حضارتنا الحديثة؛ ففي هذه الحضارة توجد، كما قلنا، جميع الإمكانات التي تتيح قيام مجتمع لا يلجأ إلى الكبت والقهر، ولكن الواقع الفعلي الذي نلمسه فيها هو ازدياد القمع وإحكامه وتحوله إلى الصبغة العقلانية التي تزيد من فعاليته. هذا التناقض بين الإمكانات والواقع هو مظهر ديالكتيكي للصراع بين السيطرة والتحرر، وهو يدل بوضوح على أن الظروف أصبحت مهيأة لإدخال تغيير جذري على حضارة الإنسان.
ولعل العامل الحاسم الذي يساعد على إحداث هذا التغيير، هو أن القمع قد أصبح في عصرنا الحاضر، قمعا إراديا من صنع الإنسان. فعلى حين أن الضرورة الطبيعية، التي تتمثل في ندرة الموارد وعدم كفايتها لتلبية الحاجات، كانت فيما مضى تحتم القمع وتجعله أمرا لا مفر منه لتنظيم المجتمع؛ فإن الوفرة التي حققها المجتمع الحديث جعلته غير مدفوع إلى ممارسة القمع بحكم الضرورة الطبيعية، بل إن أصل القمع الحالي إنساني بحت، وبعبارة أخرى فإن العوامل الاجتماعية والسياسية - لا العوامل الطبيعية - هي التي تؤدي إلى القمع السائد الآن، وهي تدفع المجتمع إلى تطبيق أساليب معينة في توزيع ثروته، تحتم سيطرة البعض على البعض الآخر.
وإذا كنا نعلم، من تجاربنا الراهنة، أن القمع الذي يمارسه الإنسان شر من القمع الذي تحتمه الضرورة الطبيعية، فينبغي أن ندرك، مع ذلك، أن هذا التغيير يعطينا على الأقل أملا في المستقبل. ذلك لأن ما يمارسه الإنسان بإرادته، يستطيع الإنسان أيضا أن يتخلص منه بإرادته. فنحن اليوم في مرحلة تاريخية لم تعد توجد فيها أية عقبات طبيعية في وجه القضاء على الكبت، وكل ما نعانيه عقبات من صنع الإنسان، ومن ثم يستطيع الإنسان أن يتجاوزها، وأن ينتقل إلى المرحلة العليا للتطور الاجتماعي، أعني المجتمع القائم على تحقيق الرغبات الحقيقية للإنسان، وإشباع حاجته إلى الحب والسلام، وإحلال «الإيروس» محل حضارة العمل الشاق والصناعة والإنتاجية العمياء. (ب) حضارة الإيروس
على الرغم من أن ماركيوز يبدو كما لو كان يتجاوز ماركس، الذي ظل تفكيره محصورا في نطاق مبدأ العمل والعدالة، ليستمد مقومات حضارة المستقبل من فرويد، الذي استطاع أن يجعل لمبدأ اللذة والسعادة مكانة رئيسية في تفكيره، فإنه في واقع الأمر يتخطاهما معا؛ لأنه يضيف إليهما عناصر تنتمي إلى صميم عصرنا الذي يتميز بتطورات لم يستطع كل من المفكرين الكبيرين أن يتنبأ بها تنبؤا دقيقا.
لقد أصبح في استطاعة الإنسان، لأول مرة، أن يحيا حياة خلت من الكبت، ويقف عن غرائز الحياة موقف الإيجاب المطلق. وعلى حين أن الإيروس والحضارة كانا منفصلين، بل متضادين عند فرويد، فإن ظروف المجتمع الحالي تتيح، في رأي ماركيوز، الجمع بينهما من أجل إقامة حياة إنسانية مكتملة العناصر، يتحقق فيها التوافق التام بين مختلف جوانب الطبيعة البشرية.
في حضارة «الإيروس» هذه تصبح للخيال الغلبة على العقل؛ ذلك لأن العقل كان الأداة الرئيسية في يد حضارة الكبت والقهر، وهو الذي أتاح للمجتمع الصناعي أن يحقق أعظم انتصاراته في ميدان الإنتاج، وأن يتسلط على كل جوانب الإنسان ويوجهها في خدمة أغراض الربح والتوسع الاقتصادي. لذلك كان من الضروري استعادة التوازن بين «الإيروس» و«اللوجوس» لحساب الأول، ولكن دون إنكار تام للثاني. وعلى هذا النحو وحده يصبح الإنسان «كلي الجوانب
Omnilatéral » بعد أن كان من قبل «أحادي الجانب
unilatéral ».
ناپیژندل شوی مخ