هيجل: لنډه مقدمه
هيجل: مقدمة قصيرة جدا
ژانرونه
المقدمة
1 - عصر هيجل وحياته
2 - تاريخ له غاية
3 - الحرية والمجتمع
4 - ملحمة العقل
5 - المنطق والمنهج الجدلي
6 - تأثير هيجل
قراءات إضافية
مصادر الصور
المقدمة
ناپیژندل شوی مخ
1 - عصر هيجل وحياته
2 - تاريخ له غاية
3 - الحرية والمجتمع
4 - ملحمة العقل
5 - المنطق والمنهج الجدلي
6 - تأثير هيجل
قراءات إضافية
مصادر الصور
هيجل
هيجل
ناپیژندل شوی مخ
مقدمة قصيرة جدا
تأليف
بيتر سينجر
ترجمة
محمد إبراهيم السيد
مراجعة
مصطفى محمد فؤاد
إلى ذكرى أبي؛ إرنست سينجر.
المقدمة
لم يحدث أي من فلاسفة القرنين التاسع عشر والعشرين تأثيرا عظيما في العالم كالذي أحدثه هيجل، والاستثناء الوحيد المحتمل لهذا التعميم هو كارل ماركس، الذي تأثر هو نفسه تأثرا كبيرا بهيجل. ولولا هيجل، لم تكن أي من التطورات الفكرية أو السياسية التي حدثت على مدار المائة والخمسين عاما الأخيرة لتسلك المسار الذي اتخذته.
ناپیژندل شوی مخ
إن تأثير هيجل وحده يجعل من المهم فهم فلسفته؛ لكن فلسفته في جميع الأحوال تستحق الدراسة لذاتها؛ فقد أوصلته أفكاره العميقة إلى بعض الاستنتاجات التي تصدم القارئ المعاصر باعتبارها غريبة، بل عبثية. لكن مهما اختلفت الآراء حول تلك الاستنتاجات، تظل هناك أطروحات ورؤى في أعماله تحتفظ بأهميتها حتى يومنا هذا. وتلك الأطروحات والرؤى هي التي ستعوض القارئ عن الجهد الذي يبذله في محاولة فهم فلسفة هيجل، بالإضافة إلى حالة الرضا التي ستتولد لديه نتيجة نجاحه في التغلب على التحدي الذي يمثله هيجل لقدرتنا على الاستيعاب.
لا شك في أن فلسفة هيجل تمثل تحديا في فهمها؛ فالتعليقات على أعمال هيجل مليئة بإشارات إلى «الصعوبة البالغة» لكتاباته، و«مصطلحاته المنفرة»، و«الغموض الشديد» لأفكاره. ولتوضيح طبيعة المشكلة، قمت للتو بالتقاط نسختي من الكتاب الذي يعتبره الكثيرون أعظم أعمال هيجل؛ وهو «فينومينولوجيا العقل»، وقمت بفتحه على صفحة عشوائية، وكانت أول جملة كاملة في تلك الصفحة (ص596) تقول: «فهو ليس إلا التقالب الدائب لهذه اللحظات التي تكون الواحدة منها الكون الآيب إلى ذاته، لكن ككون لذاته وحسب؛ أي كلحظة مجردة، تنحو جانبا حيال اللحظات الأخرى.» ومع أنني أقر باقتطاع الجملة من سياقها، فهي مع ذلك توضح بعض الصعاب التي يواجهها المرء في فهم لغة هيجل. ويمكن العثور على جمل على الدرجة نفسها من صعوبة الفهم في كل صفحة من صفحات هذا الكتاب الواقع في 750 صفحة.
إن شرح أعمال فيلسوف مثل هيجل في كتاب قصير يخاطب جمهورا لا يملك معرفة مسبقة بأعماله ليس بمهمة سهلة. ولكي أجعل هذه المهمة أيسر قليلا، قمت بأمرين؛ الأمر الأول هو أنني قيدت نطاق موضوع الكتاب؛ إذ لم أحاول تقديم عرض شامل لجميع أفكار هيجل؛ لذا لن يجد القارئ في هذا الكتاب أي عرض لما قاله هيجل في كتاب «محاضرات في علم الجمال»، أو كتاب «محاضرات في تاريخ الفلسفة»، أو كتاب «محاضرات في فلسفة الدين»، أو أي شيء عن كتابه «موسوعة العلوم الفلسفية»، إلا عندما تتداخل هذه الأعمال مع الأعمال الأخرى التي سأناقشها (بالنسبة للكتاب الأخير، سيكون التداخل كبيرا؛ فبه الجزء المهم الذي يتناول فلسفة الطبيعة، والذي لم يتناوله في أي من أعماله الأخرى). إن هذه الكتب مهمة بالتأكيد، لكنني أعزي نفسي عندما أعتقد أن هيجل نفسه لم يكن ليعتبر تلك الكتب محورية على الإطلاق في نسقه الفلسفي. لكن الأكثر أهمية، هو عدم تقديم عرض تفصيلي لكتاب هيجل «علم المنطق» الذي أعتبره بالطبع أحد أعماله الرئيسية. لقد حاولت تقديم نبذة عن هدف الكتاب ومنهجه وبعض الأفكار التي جاءت فيه، لكن الكتاب طويل جدا، ولغته مجردة جدا، حتى إن أي عرض مناسب له - من وجهة نظري - يتجاوز نطاق أي مقدمة قصيرة عن هيجل.
أما الجزء الثاني من الاستراتيجية التي اتبعتها لأجعل أفكار هيجل الشديدة التعقيد في متناول القارئ غير المتخصص، فهو اختيار أيسر أسلوب ممكن في العرض؛ لذلك بدأت بأكثر أفكار هيجل مادية وأقلها تجريدا؛ ألا وهي فلسفته حول التاريخ. ومن هناك - مع التزام هذا المستوى الاجتماعي والسياسي - انتقلت إلى آرائه حول الحرية والتنظيم العقلاني للمجتمع. وحينئذ فقط شرعت في رحلة شاقة عبر الأفكار الأكثر تعقيدا التي يتضمنها كتاب «فينومينولوجيا العقل»، ومن بعده عرجت بقليل من الجهد الإضافي لتقديم نظرة سريعة على كتابه «علم المنطق».
قد يعترض الباحثون المتخصصون في فلسفة هيجل على مجموعة الأعمال التي اخترت مناقشتها في هذا الكتاب، أو على الترتيب الذي اتبعته عند تناولها. وقد أشرت بالفعل إلى أن الترتيب ليس المقصود منه الإيحاء بأي شيء يتعلق بالطريقة التي كان هيجل سيختارها لعرض أفكاره. وفيما يتعلق بمجموعة الأعمال التي اخترت عرضها، لا أزعم أن هيجل كان يرى أن كتاب «محاضرات في فلسفة التاريخ» أكثر أهمية - مثلا - من الجزء الذي يناقش فلسفة الطبيعة في «موسوعة العلوم الفلسفية»؛ فكل ما أعلمه هو أنني لا أملك مساحة لمناقشة الكتابين معا، وأنا على يقين من أن فلسفة هيجل حول التاريخ كانت أكثر أهمية لتطور الفكر الحديث، وتظل إلى يومنا هذا أكثر إمتاعا للقارئ غير المتخصص من فلسفته حول الطبيعة (لا تنخدع بالعنوان؛ إذ إن فلسفة هيجل حول الطبيعة لا تتضمن تأملاته حول أهمية الغابات والجبال وجمالها، بل هي محاولة من هيجل ليبرهن على أن اكتشافات العلوم الطبيعية - مثل الفيزياء والكيمياء والأحياء، وغيرها - تطابق تصنيفاته المنطقية. وقد ثبت أن كثيرا من تلك الأفكار في هذا المجال قد عفى عليها الزمن؛ فعلى سبيل المثال، دحضت معرفتنا بنظرية التطور وجهة نظره القائلة بأن الطبيعة لا يمكن أن تتطور). لذلك قد تأثرت اختياراتي بثلاثة عوامل منفصلة؛ وهي: ما يعد رئيسيا بالنسبة لفكر هيجل، وما يمكن للقارئ غير المتخصص أن يفهمه في حدود مساحة هذا الكتاب، وما لا يزال مشوقا ومهما للناس في العصر الحاضر.
أنا مدين لعدد كبير من الأشخاص برؤيتي حول فلسفة هيجل التي سأعرضها في الصفحات التالية؛ ففي جامعة أكسفورد، حالفني الحظ عندما تمكنت من حضور مجموعتين من المحاضرات المميزة التي قام بتقديمها جيه إل إتش توماس، الذي أجبر طلابه على التدقيق في كل جملة من بعض فقرات كتاب «فينومينولوجيا العقل» حتى يصلوا إلى معناها. وقد توجت محاضرات باتريك جاردينر الأكثر شمولا حول «المثالية الألمانية» العمل التفصيلي الذي قمنا به في تلك المحاضرات. كما أدين بالفضل لمؤلفي الكتب التي اقتبست منها أفضل أفكارهم - وهذا ما أتمناه - بحرية. ومن أبرز تلك الكتب كتاب ريتشارد نورمان «فينومينولوجيا هيجل»، وكتاب إيفان سول «مقدمة حول ميتافيزيقا هيجل»، بالإضافة إلى كتابين بعنوان «هيجل» كتب أحدهما تشارلز تايلور والآخر والتر كوفمان. وقد قام بوب سولومون بقراءة النسخة الأصلية للكتاب، المكتوبة على الآلة الكاتبة واقترح بعض التعديلات، وهكذا فعل هنري هاردي، وكيث توماس، ومصحح مطبعي لا أعرفه تابع لمطبعة جامعة أكسفورد.
ولا يتبقى سوى التوجه بالشكر إلى جان آرشر لكتابتها المتقنة لمحتوى الكتاب على جهاز الكمبيوتر، وروث وماريون وإستر لسماحهم لي بالعمل بعض الوقت خلال عطلاتهم الصيفية.
بيتر سينجر
الفصل الأول
عصر هيجل وحياته
ناپیژندل شوی مخ
عصر هيجل
ولد جورج فيلهلم فريدريش هيجل في مدينة شتوتجارت عام 1770، وكان والده موظفا صغيرا في بلاط دوقية فوتمبرج. وكان لديه أقارب يعملون مدرسين أو قساوسة في الكنيسة اللوثرية. في حقيقة الأمر، لا يوجد أي شيء استثنائي بوجه خاص فيما يتعلق بحياته، إلا أن العصر الذي عاش فيه كان شديد الأهمية على المستوى السياسي والثقافي والفلسفي.
في عام 1789، تواترت عبر أوروبا أخبار سقوط سجن الباستيل، وهذه هي اللحظة التي كتب فيها الشاعر وردزوورث:
أن تكون على قيد الحياة في فجر تلك الأحداث، فتلك نعمة،
أما أن تكون شابا فقد أدركت الفردوس بعينه!
كان هيجل حينها قد أوشك على إتمام عامه التاسع عشر، وقد أطلق هو أيضا على الثورة الفرنسية فيما بعد اسم «الفجر المجيد»، مضيفا أن: «كل الناس شاركوا في الاحتفال بهذا العهد.» وقد شارك فيها بنفسه في صباح يوم أحد في فصل الربيع حين ذهب مع مجموعة من زملائه الطلاب لغرس شجرة حرية كرمز لبذور الآمال التي نثرتها الثورة.
شكل : منزل شتوتجارت الذي كانت تعيش فيه عائلة هيجل وقت ميلاده.
وبحلول عيد ميلاد هيجل الحادي والعشرين، كانت «حروب الثورة الفرنسية» قد اندلعت، وسرعان ما تعرضت ألمانيا للغزو على أيدي جيوش الثورة الفرنسية. وكانت المنطقة التي نعرفها الآن بألمانيا تتكون حينئذ مما يزيد على 300 دولة ودوقية ومدينة حرة، والتي تترابط ترابطا واهنا معا فيما يسمى بالإمبراطورية الرومانية المقدسة تحت قيادة فرانسيس الأول ؛ ملك النمسا. وقد كتب نابليون نهاية هذه الإمبراطورية التي استمرت ألف عام عندما ألحق الهزيمة بالنمساويين في معركتي أولم وأوسترليتز، ثم سحق جيوش ثاني أقوى دولة ألمانية - بروسيا - في معركة ينا عام 1806. وكان هيجل مقيما في ينا في ذلك الوقت. وقد يتوقع البعض أنه كان متعاطفا مع الدولة الألمانية التي منيت بالهزيمة، لكن يتضح من خطاب كتبه في اليوم التالي لاحتلال الفرنسيين لمدينة ينا أنه لم يكن لنابليون سوى الإعجاب: «الإمبراطور - روح هذا العالم - رأيته يجول بفرسه أنحاء المدينة ليتفقد قواته. إنه لشعور رائع حقا أن ترى مثل هذا الفرد الذي يوجد هنا في مكان محدد، ممتطيا صهوة جواده، يحكم قبضته على العالم ويهيمن عليه.»
وقد استمر هذا الإعجاب طوال فترة حكم نابليون لأوروبا. وعند هزيمة نابليون في 1814، أشار هيجل إلى الهزيمة بوصفها حادثا مأساويا، ومشهدا يتم فيه تدمير عبقرية فائقة بواسطة أشخاص عاديين.
كانت فترة الحكم الفرنسي، بين عامي 1806 و1814، فترة إصلاح في ألمانيا؛ ففي بروسيا، تم تعيين الليبرالي فون شتاين في وظيفة كبير مستشاري الملك، وعلى الفور قام بإلغاء العبودية وأعاد تنظيم نظام الحكومة. ثم تبعه فون هاردينبرج الذي وعد بوضع دستور يمثل شعب بروسيا، إلا أن هزيمة نابليون حطمت هذه الآمال. وفقد ملك بروسيا، فريدريش فيلهلم الثالث، رغبته في الإصلاح، ثم في عام 1823 - بعد سنوات من التأخير - قام بتأسيس «مجالس» إقليمية فقط لا تقوم إلا بإبداء المشورة. وفي جميع الأحوال كانت تلك المجالس تخضع بالكامل لهيمنة ملاك الأراضي. علاوة على ذلك، وافقت جميع الدول الألمانية في اجتماع بمدينة كارلزباد عام 1819 على فرض رقابة على الصحف والمجلات، وتبني إجراءات قمعية ضد مؤيدي الأفكار الثورية.
ناپیژندل شوی مخ
ومن الناحية الثقافية، عاش هيجل في العصر الذهبي للأدب الألماني، وبالرغم من كونه أصغر من جوته بعشرين عاما، ومن شيلر بعشرة أعوام، فقد كان كبيرا بما يكفي ليدرك قيمة جميع أعمالهما الناضجة عند ظهورها. كان هيجل صديقا مقربا للشاعر هولدرلين، وعاصر رواد الحركة الرومانسية الألمانية، بما فيهم نوفاليس وهيردر وشلايرماخر والأخوان شليجل. كان لجوته وشيلر أثر عظيم على هيجل، وبالطبع تأثر ببعض أفكار الحركة الرومانسية على الرغم من أنه رفض معظم المبادئ التي كان ينادي بها أتباع تلك الحركة.
شكل : يوهان فولفجانج فون جوته (1749-1832).
كان أكثر التطورات أهمية في حياة هيجل هو وضع الفلسفة الألمانية خلال الفترة التي عمل بها. ولكي نعي خلفية أفكار هيجل، نحتاج أن نبدأ هذه القصة بالفيلسوف كانط ونوضح بإيجاز ما حدث بعد ذلك.
عام 1781 نشر إيمانويل كانط كتاب «نقد العقل المحض»، الذي يعد الآن أحد أعظم الأعمال الفلسفية على الإطلاق. وشرع كانط فيه بتحديد ما يمكن لعقلنا أو فكرنا تحقيقه من عدمه في طريق المعرفة. وقد استنتج أن عقولنا ليست مجرد مستقبل سلبي للمعلومات التي نستخلصها عن طريق أعيننا وآذاننا وغيرها من الحواس. إن المعرفة تكون ممكنة فقط لأن عقلنا يضطلع بدور فعال؛ حيث ينظم الأشياء التي نختبرها ويصنفها. نحن ندرك العالم في إطار المكان والزمان والمادة، لكن تلك الأشياء ليست حقائق موضوعية موجودة «في الخارج»، على نحو مستقل عنا؛ فهي نتاج حدسنا أو عقلنا، اللذين من دونهما لم نكن لندرك العالم. وعليه، قد يتساءل شخص ما بطبيعة الحال عن ماهية العالم في الحقيقة بصرف النظر عن الإطار الذي ندركه من خلاله. يرى كانط أن هذا التساؤل لا يمكن الإجابة عليه مطلقا؛ فالواقع المستقل - الذي يطلق عليه كانط عالم «الشيء في ذاته» - يتخطى دائما حدود معرفتنا.
لم يكن الفضل يرجع لكتاب «نقد العقل المحض» وحده في شهرة كانط الكبيرة في حياته؛ فقد كان له كتابان آخران في النقد؛ وهما كتاب «نقد العقل العملي» حول الأخلاق، وكتاب «نقد ملكة الحكم» الذي يتناول جزء كبير منه الجمال. وقد صور كانط الإنسان في كتابه «نقد العقل العملي» في هيئة كائن قادر على اتباع قانون أخلاقي عقلاني، لكنه أيضا عرضة لأن ينحرف عنه بسبب الرغبات غير العقلانية المتأصلة في طبيعتنا المادية. وهكذا، فإن التصرف بصورة أخلاقية دائما ما يشكل صراعا. ولتحقيق النصر في هذا الصراع، يجب كبح جماح جميع الرغبات، ما عدا احترام القانون الأخلاقي الذي يقودنا إلى القيام بواجبنا لذاته. وعلى عكس وجهة النظر هذه التي ترى أن الأخلاقيات تستند فقط إلى أوجه التفكير العقلاني في الطبيعة البشرية، يصور كانط التذوق الجمالي في كتابه «نقد ملكة الحكم» في هيئة اتحاد متناغم بين إدراكنا وخيالنا.
شكل : إيمانويل كانط (1724-1804).
في الكلمات الختامية من كتابه «نقد العقل المحض»، يعبر كانط عن أمله في أنه باتباع طريق الفلسفة النقدية الذي سلكه يمكن «قبل أن ينتهي القرن الحالي» أن يتحقق ما عجزت العديد من القرون السابقة عن تحقيقه؛ ألا وهو «منح العقل البشري رضا كاملا عما طالما أثار فضوله، لكن دون جدوى حتى الآن.» إن الإنجاز الذي حققه كانط كان عظيما لدرجة أنه في وقت ما بدا حقا - ليس من وجهة نظر كانط وحده، بل وقرائه أيضا - كما لو أن الأمر لا يحتاج سوى بعض التفاصيل لإتمام جميع جوانب الفلسفة. ومع ذلك، بدأت تظهر تدريجيا حالة من عدم الرضا تجاه كانط مع مرور الوقت.
كان مصدر عدم الرضا الأول هو فكرة كانط «الشيء في ذاته»؛ فوجود شيء ما مع عدم القدرة على إدراكه بالكامل، بدا كتحديد غير مقبول لقوى العقل البشري. ألم يكن كانط يناقض نفسه عندما قال إننا يمكن ألا نعرف شيئا عن شيء ما، ومع ذلك نزعم إدراكنا لوجوده وكونه «شيئا»؟ كان يوهان فيخته هو من اتخذ الخطوة الجريئة بإنكار وجود فكرة «الشيء في ذاته»، وبهذا يكون أكثر إخلاصا لفلسفة كانط - كما أكد - من كانط نفسه. فمن وجهة نظر فيخته، أن العالم بأكمله يجب أن يدرك بوصفه شيئا تشكله عقولنا النشطة. فما لا يدركه العقل هو شيء غير موجود.
أما المصدر الثاني لعدم الرضا عن أفكار كانط، فكان انقسام الطبيعة الإنسانية الذي تضمنته فلسفة كانط الأخلاقية. وهنا كان شيلر من بدأ الهجوم على كانط في كتابه «محاضرات عن التربية الجمالية للإنسان»؛ فهو أيضا رأى نفسه كمن يخلص لكانط أكثر من كانط نفسه؛ حيث استخلص من كتابه «نقد ملكة الحكم» نموذج الحكم الجمالي باعتباره اتحادا بين الإدراك والخيال. قطعا - كما أشار شيلر - ينبغي أن تكون حياتنا بأكملها متناغمة على نحو مماثل؛ فتصوير الطبيعة البشرية على أنها دائمة الانقسام بين العقل والعاطفة، وأن حياتنا الأخلاقية في صراع سرمدي بين كليهما، هو أمر مهين وانهزامي. كما أشار شيلر إلى أن كانط ربما كان يصف بدقة الحالة المؤسفة للحياة البشرية اليوم، لكن الحياة لم تكن دوما هكذا، ولا داعي لأن تستمر على هذا النحو للأبد. ففي اليونان القديمة - التي ينظر إليها بإعجاب شديد لنقاء أشكالها الفنية - كان هناك اتحاد متناغم بين العقل والعاطفة. ولوضع أساس لاستعادة هذا التناغم الذي طال غيابه عن الطبيعة البشرية، شجع شيلر على إحياء الحس الجمالي في أوجه الحياة كافة.
كتب هيجل لاحقا أن فلسفة كانط «تشكل أساسا ونقطة انطلاق للفلسفة الألمانية الحديثة.» ويمكننا إضافة أن فيخته وشيلر - كل بطريقته الخاصة - أوضحا الاتجاهات التي يجب أن تتخذها هذه الانطلاقات. فمن وجهة نظر الفلاسفة الذين جاءوا بعد كانط، كان مفهوم الشيء في ذاته الذي لا يمكن إدراكه، وتصور أن الطبيعة البشرية منقسمة على نفسها، مشكلتين تحتاجان إلى حلول.
ناپیژندل شوی مخ
وقد عبر هيجل في مقال سابق عن إعجابه باعتراضات شيلر على وجهة نظر كانط فيما يتعلق بالطبيعة البشرية، ولا سيما فكرة أن هذا التنافر لم يكن حقيقة سرمدية في الطبيعة البشرية، بل مشكلة تحتاج إلى حل. ومع ذلك، لم يقبل فكرة أن التربية الجمالية هي الوسيلة الصحيحة للتغلب على هذه المشكلة، بل كان يرى أنها مهمة الفلسفة.
حياة هيجل
بعد أن أنهى هيجل دراسته الثانوية بنجاح غير معتاد، حصل على منحة دراسية في كلية لاهوتية شهيرة بمدينة توبينجن؛ حيث درس الفلسفة وعلم اللاهوت. وهناك أصبح صديقا للشاعر هولدرلين وطالب آخر أصغر منه سنا ويتمتع بموهبة كبيرة يحمل اسم فريدريش شيلنج. وقد حقق شيلنج شهرة وطنية بوصفه فيلسوفا قبل أن يسمع أي أحد عن هيجل. وعندما تراجعت شهرته أمام شهرة هيجل، اتهم صديقه القديم بسرقة أفكاره. وعلى الرغم من أنه قليلا ما تقرأ أعمال شيلنج هذه الأيام، فإن التشابه بين آرائه وآراء هيجل يضفي بعض المصداقية على هذا الاتهام، شريطة أن نتغاضى عن الكم الهائل من الأفكار الذي أضافه هيجل على النقاط المشتركة بينهما.
شكل : فريدريش شيلر (1759-1805).
عقب إنهاء دراساته في توبينجن، قبل هيجل وظيفة معلم خاص لدى أسرة غنية في سويسرا، ثم قبل وظيفة مماثلة في فرانكفورت. وفي أثناء هذه الفترة، واصل هيجل قراءاته وتأملاته حول المسائل الفلسفية. كما كتب مقالات، ليس بغرض النشر، بل لتوضيح أفكاره. وتظهر تلك المقالات أنه كان يتجه نحو أفكار متطرفة. فقارن المسيح بسقراط، وأدت به المقارنة على نحو قاطع إلى أن المسيح معلم أقل من سقراط فيما يتعلق بالأخلاق. ويرى هيجل أن الأرثوذكسية عائق أمام استعادة الإنسان لحالة التناغم؛ إذ تجعل الإنسان يخضع قواه الفكرية إلى سلطة خارجية. وظل هيجل بقية حياته محافظا على بعض من موقفه من الأرثوذكسية، إلا أن أفكاره المتطرفة انحسرت لدرجة أنه في وقت لاحق اعتبر نفسه مسيحيا لوثريا، وأخذ يحضر الطقوس الدينية الخاصة بالكنيسة اللوثرية بانتظام.
وعند وفاة والده في عام 1799، وجد هيجل أن والده قد ترك له ميراثا متواضعا. فتخلى عن وظيفة المعلم الخاص، وانضم إلى صديقه شيلنج في جامعة ينا بمدينة فايمار الصغيرة. كان شيلر وفيخته موجودين في جامعة ينا، وكان شيلنج قد أصبح مشهورا في ذلك الوقت، أما هيجل فلم يكن قد نشر فعليا أي شيء، وكان قانعا بتقديم محاضرات خاصة، بحيث يزيد دخله فقط من المقابل الزهيد الذي كان يحصل عليه من المجموعة الصغيرة من الطلاب - أحد عشر طالبا في عام 1801، وثلاثين طالبا في 1804 - التي كانت تأتي للاستماع له.
نشر هيجل أثناء وجوده في جامعة ينا كتيبا طويلا حول الاختلافات بين فلسفة فيخته وفلسفة شيلنج، وكان في كل حالة يفضل رأي شيلنج على رأي فيخته. في تلك الأثناء، أسس هو وشيلنج مجلة «كريتيكال جورنال أوف فيلوسوفي»، التي كتب بها عدة مقالات، ثم ترك شيلنج جامعة ينا في عام 1803، وبدأ هيجل في إعداد أول أعماله الرئيسية؛ ألا وهو كتاب «فينومينولوجيا العقل». ونظرا لأن ميراثه كان قد استنزف في ذلك الوقت، كان هيجل بحاجة ماسة إلى المال، فقبل بعقد لناشر قدم له دفعة مسبقة من مستحقاته، لكن العقد تضمن شروطا جزائية صارمة في حال عجزه عن إرسال نسخة الكتاب قبل موعد التسليم الذي كان في 13 أكتوبر 1806. وقد كان هذا هو اليوم الذي احتل فيه الفرنسيون مدينة ينا عقب انتصارهم على القوات البروسية. كان على هيجل أن يسرع في إنهاء الأجزاء الختامية من الكتاب حتى يتمكن من تسليمه في الموعد المحدد، ثم كانت الصدمة عندما اكتشف أنه لا بديل أمامه سوى إرسال نسخة الكتاب، التي كانت النسخة الوحيدة التي يمتلكها، وسط حالة الارتباك التي خلفها وصول الجيوش المتحاربة خارج ينا. ولحسن حظه وصلت نسخة الكتاب دون مشاكل، وظهر الكتاب في أوائل عام 1807.
اتسم رد الفعل المبدئي تجاه الكتاب بالاحترام، وإن لم يكن حماسيا. انزعج شيلنج - على نحو مفهوم - عندما وجد أن مقدمة الكتاب تضمنت هجوما جدليا على ما بدت أنها أفكاره. أوضح هيجل في خطاب له أنه لم يكن يقصد نقد شيلنج، وإنما قصد فقط نقد مقلديه عديمي الكفاءة. فرد عليه شيلنج بأن هذا التمييز لم يظهر في المقدمة، ورفض أن يهدأ. وهكذا انتهت صداقتهما.
عكر الاحتلال الفرنسي صفو الحياة في مدينة ينا. ونتيجة إغلاق جامعة ينا لأبوابها، عمل هيجل لمدة عام محررا صحفيا، ثم قبل وظيفة مدير للمدرسة الثانوية الأكاديمية بمدينة نورنبرج. وظل في هذه الوظيفة لمدة تسع سنوات، وكان ناجحا بها. وبالإضافة للمواد الدراسية المتعارف عليها بصورة أكبر، قام هيجل بتدريس مادة الفلسفة لطلابه، إلا أن أثر محاضراته على طلابه غير معلوم.
أصبحت حياة هيجل الأسرية مستقرة في نورنبرج؛ ففي ينا، أصبح أبا لابن غير شرعي، وكانت الأم هي صاحبة المكان الذي كان يعيش فيه، والمعروف عنها أن لديها طفلين غير شرعيين سابقين من عشاق آخرين. وفي عام 1811، تزوج هيجل، وهو في سن الحادية والأربعين، من سيدة من أسرة عريقة في نورنبرج. وكانت زوجته في نصف عمره بالكاد، لكن زواجهما - بحسب معرفتنا - كان سعيدا؛ فقد رزقا بولدين. وعقب وفاة والدة ابن هيجل الأول، كانت زوجته متسامحة بدرجة كافية لتحتضن ابنه غير الشرعي داخل أسرتها.
ناپیژندل شوی مخ
في أثناء هذه السنوات، نشر هيجل كتابه المطول «علم المنطق»، الذي ظهر في ثلاثة مجلدات في أعوام 1812 و1813 و1816، وأصبحت أعماله في ذلك الوقت تحظى بتقدير أوسع. وتمت دعوته في عام 1816 لتقلد وظيفة أستاذ الفلسفة بجامعة هايدلبرج، وهناك قام بكتابة «موسوعة العلوم الفلسفية» التي تعد عرضا موجزا نسبيا لنسقه الفلسفي بأكمله. وكثير من المادة التي تحتويها الموسوعة متضمن في أعماله الأخرى، لكن بصورة أوسع.
بلغ هيجل من الشهرة مبلغا عظيما، حتى إن وزير التعليم البروسي طلب منه تولي منصب مرموق، وهو أستاذ الفلسفة بجامعة برلين. كان نظام التعليم في بروسيا قد استفاد من الإصلاحات التي أجراها كل من فون شتاين وفون هاردينبرج، وكانت برلين في طريقها لتصبح مركزا فكريا لجميع الدول الألمانية. قبل هيجل العرض بسرعة، وقام بالتدريس في جامعة برلين من عام 1818 وحتى وفاته في عام 1831.
وكانت هذه الفترة الأخيرة هي ذروة حياة هيجل من جميع الجوانب؛ فقام بتأليف كتاب «فلسفة الحق» ونشره، وقدم محاضرات في فلسفة التاريخ وفلسفة الدين وعلم الجمال وتاريخ الفلسفة. لم يكن هيجل محاضرا جيدا بالمعنى المتعارف عليه، لكنه بلا شك أسر عقول طلابه. وفيما يلي وصف لإحدى تلك المحاضرات على لسان أحد طلابه:
في بادئ الأمر عجزت عن استيعاب طريقته في إلقاء المحاضرة أو حتى نمط تفكيره. كان يجلس هناك منهكا وعابسا ومطأطئ الرأس، كأنما انطوى على نفسه. وخلال حديثه، أخذ يقلب الصفحات ويبحث في دفاتر مفكراته، يمينا ويسارا ومن أعلى لأسفل. وكان تنحنحه وسعاله المتواصلان يقاطعان أي انسياب للحديث. فكانت كل جملة قائمة بذاتها، وتخرج بمشقة، مقطعة إلى أجزاء ومشوشة ... وكانت البلاغة المتدفقة منه بسلاسة تقتضي أن يكون المتحدث قد ألم بالموضوع إلماما شاملا ووعاه عن ظهر قلبه ... لكن كان على هذا الرجل إثارة أقوى الأفكار من قاع أكثر الأشياء غموضا ... إن تقديم تصوير أكثر حيوية لهذه الصعاب وهذه المشقة الهائلة مما تم تقديمه من خلال طريقة عرضه كان سيصبح مستحيلا.
أصبح هيجل في ذلك الوقت مصدرا لجذب عدد كبير من الحضور، فأتى الناس ممن يتحدثون باللغة الألمانية من مختلف أنحاء العالم ليستمعوا له، وبات العديد من أذكى العقول تلاميذه. وبعد موته، قاموا بتحرير دفاتر محاضراته ونشرها، مصحوبة بملاحظاتهم الخاصة على ما قاله في تلك المحاضرات. وكانت هذه هي الطريقة التي وصل بها إلينا العديد من أعمال هيجل: «محاضرات في فلسفة التاريخ»، و«محاضرات في علم الجمال»، و«محاضرات في فلسفة الدين»، و«محاضرات في تاريخ الفلسفة».
وتقديرا لمكانة هيجل، تم انتخابه في عام 1830 رئيسا لجامعة برلين. وفي العام التالي، أصابه المرض فجأة ومات في اليوم التالي أثناء نومه عن عمر يناهز الحادية والستين. وكتب أحد زملائه معلقا على هذا: «يا له من فراغ مروع! لقد كان حجر الزاوية في جامعتنا.»
الفصل الثاني
تاريخ له غاية
أخذ هيجل التاريخ على محمل الجد؛ فعلى النقيض من كانط، الذي كان يعتقد أنه من الممكن أن يجزم على أسس فلسفية محضة بماهية الطبيعة البشرية وما يجب أن تكون عليه دائما، قبل هيجل برأي شيلر القائل بأن أسس الحالة البشرية يمكن أن تتغير من حقبة تاريخية لأخرى، كما أن مفهوم التغير - أي التطور على مدار التاريخ - عامل أساسي في وجهة نظر هيجل بشأن العالم. كتب فريدريك إنجلز متأملا أهمية هيجل بالنسبة له ولزميله كارل ماركس:
إن الأمر الذي ميز طريقة تفكير هيجل عن غيره من الفلاسفة هو حسه التاريخي الاستثنائي. ومهما كان الشكل المستخدم مجردا أو مثاليا، كان تطور أفكاره متوازيا دائما مع تطور التاريخ العالمي. ومن المفترض أن يكون التطور الأخير بالتأكيد دليلا على التطور الأول.
ناپیژندل شوی مخ
لسنا بحاجة الآن لأن نقلق بشأن معنى عبارة إنجلز الأخيرة - الإشارة إلى أن تطور التاريخ العالمي هو «دليل» على النسق الفكري لهيجل - نظرا لأن التوازي القاطع بين تطور أفكار هيجل وتطور التاريخ العالمي الذي يشير إليه إنجلز هو مبرر كاف لاستخدام فهم هيجل للتاريخ العالمي كطريق نحو نسقه الفكري .
النقطة الأخرى التي نستنتجها مما كتبه إنجلز هي - ببساطة - أنه في تقييم أهمية تأثير هيجل على ماركس وعلى نفسه، منح الحس التاريخي لدى هيجل المرتبة الأولى؛ ولذلك فإننا في بداية تقديمنا لكتاب هيجل «فلسفة التاريخ»، نبدأ بموضوع محوري، ليس فقط لنسق هيجل الفكري، بل أيضا للأثر المستمر لأفكاره.
ما هي فلسفة التاريخ؟
من الضروري أولا أن نفهم المقصود بمصطلح «فلسفة التاريخ»، من وجهة نظر هيجل. يتضمن كتاب هيجل «فلسفة التاريخ» كمية كبيرة من المعلومات التاريخية، ويمكن أن يجده القارئ موجزا للتاريخ العالمي؛ من الحضارات القديمة في الصين والهند وبلاد فارس، مرورا باليونان القديمة، وصولا إلى العصور الرومانية، ثم تتبع مسار التاريخ الأوروبي من النظام الإقطاعي إلى حركة الإصلاح الديني، ثم إلى عصر التنوير والثورة الفرنسية. وعلى الرغم من ذلك، يبدو أن هيجل لم يكن ينظر إلى كتابه هذا بوصفه مجرد سرد للأحداث التاريخية؛ فعمله عمل فلسفي؛ لأنه يأخذ الحقائق التاريخية المجردة باعتبارها مادة خاما ويحاول أن يتجاوزها لما هو أبعد منها. حتى إن هيجل نفسه قال إن «فلسفة التاريخ تعني فقط التأمل العميق فيه.» ومع أن هذا قد يكون تعريفه الخاص لفلسفة التاريخ، فإنه يعطي فكرة غير كافية عما كان هيجل بصدده في كتابه «فلسفة التاريخ». إن ما غفله هيجل في تعريفه هو مقصده الذي يتمثل في أن «التأمل العميق» للتاريخ ينبغي أن يسعى لتقديم مادته الخام باعتبارها جزءا من عملية تطور عقلانية، وهكذا يكشف معنى تاريخ العالم ودلالته.
وهنا يتضح أحد آراء هيجل المحورية؛ ألا وهو إيمانه بأن التاريخ يحمل بعض المعاني والدلالات. فلو أن هيجل استعرض التاريخ وفقا لرؤية ماكبث البائسة للحياة بوصفه «قصة يرويها معتوه، مليئة بالضجة والغضب، ولا تعني شيئا»؛ لما حاول مطلقا تأليف كتابه «فلسفة التاريخ»، ولكان أهم عمل في حياته مختلفا تماما. بالطبع تتشابه وجهة النظر العلمية الحديثة كثيرا مع رؤية ماكبث؛ فهي تخبرنا بأن كوكبنا مجرد نقطة صغيرة في كون بحجم لا يمكن تخيله، وأن الحياة على هذا الكوكب بدأت من اندماج عرضي للغازات، ثم تطورت بواسطة قوى الانتخاب الطبيعي الجامدة. وتماشيا مع هذه الرؤية لنشأة نوعنا، يرفض معظم الفكر الحديث افتراض أن للتاريخ أي غاية أبعد من الغايات الفردية الهائلة المتنوعة للبشر الذين لا حصر لهم؛ الذين يصنعون التاريخ. في عصر هيجل، لم يكن هناك أي شيء غير مألوف بشأن اعتقاده الراسخ بأن التاريخ البشري ليس مجرد مجموعة غير منظمة من الأحداث؛ بالتأكيد هذا الاعتقاد في الواقع ليس غريبا حتى في وقتنا الحالي؛ نظرا لأن الفكر الديني كان يرى على نحو تقليدي أن هناك معنى ودلالة في مسار التاريخ البشري، حتى وإن لم يكن له دلالة إلا كمقدمة لعالم أفضل لم يأت بعد.
هناك العديد من الطرق المختلفة التي يمكن بواسطتها استيعاب الادعاء الذي يرى أن التاريخ له مغزى؛ فيمكن اعتباره ادعاء يشير إلى أن التاريخ هو من تدابير إله قام بإيجاد هذه العملية بالكامل؛ أو بطريقة أكثر غموضا، يمكن اعتبار أن الغرض منه هو الإشارة إلى أن الكون ذاته قد تكون له غايات على نحو ما. إن التأكيد على أن التاريخ ذو مغزى يمكن استنباطه من جميع الدلالات الدينية أو الروحانية، ويمكن فهمه ببساطة من خلال الزعم الأكثر تقييدا بأن التأمل في ماضينا يمكننا من إدراك مسار التاريخ، والغاية التي سيصل إليها في النهاية. وهذه الغاية، لحسن الحظ، هي غاية مرجوة؛ ومن ثم يمكننا تقبلها باعتبارها هدفا لمساعينا.
يمكن فهم كتاب هيجل «فلسفة التاريخ» بطرق شتى، تتشابه مع هذه الطرق المختلفة لاستيعاب الزعم بأن هناك مغزى للتاريخ. ووفقا لاستراتيجيتنا العامة في تناول أفكار هيجل، سنبدأ بالعناصر الموجودة في الكتاب، والتي تؤكد على أن للتاريخ مغزى، وذلك من خلال الطريقة الثالثة، الأقل غموضا، من الطرق المتعددة لاستيعاب وجهة النظر هذه.
في مقدمة كتابه «فلسفة التاريخ»، يوضح هيجل صراحة وجهة نظره حول مسار التاريخ البشري كله ووجهته، فيقول: «تاريخ العالم ليس إلا تقدم الوعي بالحرية.» تحدد هذه الجملة الفكرة الرئيسية للكتاب بالكامل (بل ويمكن القول بأنها أيضا تلخص الفكرة الرئيسية في فكر هيجل ؛ لكن المزيد عن ذلك سيأتي لاحقا). والآن يجب أن نرى كيف قام هيجل بتوضيح فكرته الرئيسية هذه.
يبدأ هيجل بوصف ما أسماه «العالم الشرقي»، الذي يقصد به الصين والهند والإمبراطورية الفارسية القديمة. ويعتبر هيجل حضارتي الصين والهند القديمتين «جامدتين»؛ أي مجتمعات وصلت لنقطة معينة من التطور، ثم بطريقة ما سرعان ما تجمدت في مكانها. ويصفهما هيجل بأنهما «خارج نطاق تاريخ العالم»؛ أي ليستا جزءا من عملية التطور الشاملة التي هي أساس فلسفته التاريخية. يبدأ التاريخ الحقيقي بالإمبراطورية الفارسية، التي يقول عنها هيجل إنها «الإمبراطورية الأولى التي زالت».
إن حديث هيجل عن العالم الشرقي يتضمن العديد من التفاصيل، تتعلق كلها بفكرة أنه في المجتمع الشرقي يوجد شخص واحد فقط يتمتع بحريته؛ ألا وهو الحاكم، أما بقية المجتمع، فجميعهم يفتقرون إلى الحرية؛ لأنهم يجب أن يخضعوا إرادتهم للبطريرك أو اللاما أو الإمبراطور أو الفرعون أو أيا كان اللقب الذي قد يطلق على الحاكم المطلق المستبد. ويمتد الافتقار إلى الحرية هذا إلى مستوى عميق للغاية؛ فلا يعني هذا فقط أن رعايا الحاكم المطلق يعلمون أنه بإمكان الحاكم معاقبتهم بقسوة لعصيانهم رغبته؛ فذلك قد يوحي بأن لديهم إرادة مستقلة، وأن بإمكانهم التفكير - ويفكرون بالفعل - فيما إذا كان من الحكمة أو الصواب طاعة الحاكم المطلق. يشير هيجل إلى أن الحقيقة هي عدم امتلاك الرعايا الشرقيين إرادة مستقلة بالمعنى الحديث؛ ففي بلاد الشرق، فإن القانون، وحتى الأخلاق ذاتها، يخضعان لتشريع خارجي. فلا يوجد لديهم مفهومنا عن الضمير الفردي؛ ولذلك لا توجد إمكانية لتشكيل الأفراد لأحكامهم الأخلاقية بأنفسهم بشأن الصواب والخطأ. في وجهة نظر سكان الشرق - ما عدا الحاكم - تأتي الآراء المتعلقة بهذه المسائل من الخارج؛ فهي حقائق خاصة بالعالم، ولا يمكن التشكيك فيها مثلها مثل وجود الجبال والبحار.
ناپیژندل شوی مخ
شكل : سيدارتا جوتاما، المعروف باسم بوذا (حوالي 563-483 قبل الميلاد).
وفقا لهيجل، تأخذ حالة انعدام الاستقلالية الشخصية هذه أشكالا مختلفة في الثقافات الشرقية المختلفة، لكن النتيجة دائما ما تكون واحدة. يخبرنا هيجل أن الدولة الصينية كانت مؤسسة على حكم الأسرة؛ فالحكومة قائمة على الحكم الأبوي للإمبراطور، وينظر الآخرون لأنفسهم على أنهم أبناء الدولة. وهذا هو السبب الذي يجعل المجتمع الصيني يشدد بقوة على الاحترام والطاعة اللذين يدين بهما الشخص لوالديه. وفي الهند - على النقيض - لا يوجد مفهوم الحرية الفردية؛ لأن النظام الأساسي للمجتمع - نظام الطبقات الاجتماعية الذي يحدد لكل شخص من ذكر أو أنثى وظيفته في الحياة - لا يعد نظاما سياسيا، بل أمرا طبيعيا؛ ومن ثم غير قابل للتغيير. وهكذا لا تكون السلطة الحاكمة في الهند حاكما بشريا مطلقا مستبدا، وإنما الاستبداد هنا هو استبداد الطبيعة.
أما في بلاد فارس فالأمر مختلف؛ فعلى الرغم من أن الإمبراطور الفارسي يبدو للوهلة الأولى حاكما مطلقا يتشابه في كثير من الأمور مع إمبراطور الصين، فإن أساس الإمبراطورية الفارسية ليس قائما على مبدأ الطاعة الأسرية الطبيعية الذي يمتد إلى جميع أرجاء الدولة فحسب، بل على مبدأ عام يطبق فيه القانون على الحاكم كما يطبق على رعاياه. فبلاد فارس كانت ملكية ثيوقراطية قائمة على ديانة زرادشت، التي كانت تتضمن عبادة «النور». يبدي هيجل اهتماما كبيرا بفكرة النور بوصفه شيئا نقيا وكونيا، مثل الشمس التي تضيء بنورها للجميع وتنفع الجميع على حد سواء. لا يعني هذا بالطبع أن بلاد فارس كانت تؤيد المساواة بين البشر؛ فالإمبراطور ظل هو الحاكم المطلق؛ ومن ثم الشخص الحر الوحيد في الإمبراطورية. لكن حقيقة أن حكمه كان قائما على مبدأ عام ولا ينظر إليه بوصفه حقيقة طبيعية، كانت تعني وجود احتمالية حدوث تطور. إن فكرة الحكم استنادا على مبدأ فكري أو روحي تدل على بداية نمو الوعي بالحرية الذي كان هيجل معنيا بتتبعه؛ وعليه كانت هذه هي بداية «التاريخ الحقيقي».
العالم اليوناني
كانت إمكانية نمو الوعي بالحرية موجودة في الإمبراطورية الفارسية، لكن هذه الإمكانية لم تكن لتتحقق في ظل هيكل الإمبراطورية. لكن في إطار سعي الإمبراطورية للتوسع، تواصلت مع أثينا وأسبرطة وغيرهما من مدن اليونان المستقلة القديمة. فطلب الإمبراطور الفارسي من اليونانيين الإقرار بسيادته، لكنهم رفضوا، فقام الإمبراطور بتعبئة جيش جرار وأسطول ضخم من السفن، والتقى الأسطول الفارسي والأسطول اليوناني عند جزيرة سالاميس. ويشير هيجل إلى أن هذه المعركة الملحمة كانت صراعا بين حاكم مطلق شرقي كان يسعى إلى عالم موحد تحت راية إمبراطور واحد وسيادة واحدة، ودول منفصلة كانت تدرك مبدأ «الحرية الفردية». كان انتصار اليونانيين يعني أن منعطف تاريخ العالم انتقل من العالم الشرقي ذي الحاكم المطلق إلى عالم المدن اليونانية المستقلة.
ومع أن هيجل يرى العالم اليوناني كعالم تحركه فكرة الحرية الفردية، فإنه يرى تلك الحرية لم تتطور أبدا بصورة كاملة في هذه المرحلة من التاريخ. يحتج هيجل بسببين مختلفين لاعتبار الرؤية اليونانية للحرية محدودة. ويتسم أحد هذين السببين بالوضوح، والآخر يشوبه بعض التعقيد.
أما السبب الواضح، فهو أن فكرة الحرية عند اليونانيين تسمح بوجود العبودية. إن استخدام الكلمة «تسمح» بلا شك ضعيف جدا؛ لأن هيجل يرى أن الشكل الديمقراطي لدى اليونانيين كان يتطلب بالتأكيد وجود العبيد كي يؤدي دوره. فإذا كان كل مواطن، كما كان الحال في أثينا، يتمتع بحق وواجب المشاركة في الإكليزيا - وهي الجهة العليا المعنية باتخاذ القرار في المدينة - فمن تبقى لأداء المهام اليومية الخاصة بتوفير ضروريات الحياة؟ يجب أن تكون هناك فئة من العمال الذين يفتقرون لحقوقهم وواجباتهم بوصفهم مواطنين. بعبارة أخرى: يجب أن يكون هناك عبيد.
في العالم الشرقي، هناك شخص واحد فقط حر، وهو الحاكم. ومعنى وجود عبيد أن العالم اليوناني قد تقدم لمرحلة أصبح فيها البعض - لا الكل - أحرارا. لكن هيجل يرى أنه حتى أولئك المواطنين الأحرار في إحدى المدن اليونانية ليسوا أحرارا بالكامل. والسبب الذي يدفعه لهذا الرأي ليس من السهل استيعابه؛ فهو يزعم أن اليونانيين ليس لديهم مفهوم الضمير الفردي. فكما رأينا، كان هيجل يعتقد بانعدام هذا المفهوم في العالم الشرقي أيضا، لكن في حين كانت الشعوب الشرقية تطيع ببساطة ودون تفكير قانونا أخلاقيا فرض عليها من سلطة عليا، كان دافع اليونانيين ينبع من داخلهم. ويوضح هيجل أنهم كانوا يتمتعون بعادة الحياة من أجل بلدهم دون أي تفكير. ولم تكن هذه العادة نابعة من قبول مبدأ مجرد ما، مثل فكرة أن على الجميع العمل من أجل صالح بلدهم. فاليونانيون بفطرتهم آمنوا بأنهم مرتبطون بدولتهم بقوة لا يمكن زعزعتها، بحيث لم يميزوا بين مصالحهم الشخصية ومصالح المجتمع الذي كانوا يعيشون فيه، فلم يتصوروا حياتهم بعيدا عن هذا المجتمع - أو ضده - بشتى عاداته وصور الحياة الاجتماعية به.
كل هذا يعني أن استعداد اليونانيين للقيام بما يخدم مصلحة المجتمع ككل ينبع من داخلهم، وهذا يدل على أن اليونانيين كانوا أحرارا بطريقة لم يتمتع بها الشرقيون؛ فقد كانوا يقومون بما تمليه عليهم أنفسهم، لا ما تمليه عليهم بعض القوانين الخارجية. ومع ذلك، يقول هيجل إن هذا الشكل من الحرية ليس كاملا لمجرد أن الدافع إليه يأتي بصورة طبيعية جدا؛ فنتاج العادات والأعراف التي نتربى عليها ليس نتيجة لاستخدام عقولنا. فإذا أقدمت على فعل شيء نتيجة لعادة، فأنا لم أختر أن أقوم به عن عمد. فيمكن القول بأن أفعالي ما زالت تخضع لقوى خارجة عن إرادتي - القوى الاجتماعية التي منحتني عاداتي - حتى وإن لم يكن هناك حاكم مطلق يخبرني بما علي فعله، وإن بدا أن الدافع وراء الفعل ينبع من داخلي.
وكأحد أعراض هذا الاعتماد على القوى الخارجية، يشير هيجل إلى ميل اليونانيين لاستشارة وسيط روحاني لإرشادهم قبل أن يقدموا على أي مجازفة مهمة. قد تكون مشورة الوسيط الروحاني قائمة على حالة أمعاء حيوان تم ذبحه قربانا، أو على حدث طبيعي آخر ليس له أي علاقة بفكر الشخص. فالأحرار بحق لم يكونوا ليسمحوا بأن تتحدد أهم قراراتهم استنادا إلى مثل هذه الأحداث، بل كانوا يتخذون قراراتهم بأنفسهم مستخدمين قدرتهم على التفكير. فالعقل يرتقي بالأحرار فوق الأحداث الطبيعية العرضية، ويمكنهم من التفكير بصورة انتقادية في موقفهم والقوى التي تؤثر فيهم. وهكذا لا يمكن أن تتحقق الحرية بالكامل دون التأمل أو التفكير النقدي.
ناپیژندل شوی مخ
لذا فإن التأمل أو التفكير النقدي هو المفتاح الرئيسي لإحراز أي تقدم في عملية تطور الحرية. إن أمر الإله أبولو عند اليونانيين كان يدفعهم نحو هذا الطريق: «أيها الإنسان، اعرف نفسك.» هذه الدعوة للبحث الحر وغير المقيد بالمعتقدات العرفية تبناها الفلاسفة اليونانيون، ولا سيما سقراط. يعبر سقراط عن وجهة نظره بطريقة نموذجية في شكل حوار مع شخص بارز من أهل أثينا يعتقد أنه يعرف جيدا ما هو صالح أو عادل. لكن يتضح أن هذه «المعرفة» ليست سوى قدرته على ترديد بعض الأقوال المأثورة عن الصلاح أو العدالة، ولا يجد سقراط أي صعوبة في أن يبرهن على أن هذا المفهوم العرفي للأخلاق لا يمكن أن يكون شاملا؛ فعلى سبيل المثال، على عكس الفكرة السائدة أن العدالة تكمن في إعطاء كل ذي حق حقه، يطرح سقراط مثالا يقوم فيه أحد أصدقائك بإعارتك سلاحا، ثم يصير صديقك هذا مختلا. ربما في هذه الحالة تكون مدينا له بالسلاح، لكن هل من العدل حقا أن ترد له سلاحه؟ وبهذه الطريقة يقود سقراط قراءه للتأمل النقدي في الأخلاق العرفية التي طالما قبلوها. فهذا التأمل النقدي يجعل من العقل، لا الأعراف الاجتماعية، الحكم الفصل في تحديد ما هو صواب وما هو خطأ.
يرى هيجل المبدأ الذي أوضحه سقراط باعتباره قوة ثورية ضد أثينا؛ ولذلك يعتبر الحكم بالإعدام الصادر ضد سقراط ملائما بلا شك؛ فاليونانيون كانوا يدينون العدو الأكثر فتكا بالأخلاق العرفية التي كانت حياتهم المجتمعية تقوم عليها. ومع ذلك كان مبدأ التفكير المستقل راسخا بقوة في أثينا بحيث لا يمكن استئصاله بموت شخص واحد؛ ولذلك جاء اليوم الذي أدين فيه متهمو سقراط، وتمت فيه تبرئة ساحة سقراط نفسه بعد وفاته. وكان مبدأ التفكير المستقل هذا، مع ذلك، هو السبب الرئيسي في سقوط أثينا، ويشير إلى بداية النهاية للدور التاريخي العالمي الذي اضطلعت به الحضارة اليونانية.
العالم الروماني
على عكس التوحد القائم على اتباع العرف والتقاليد غير الخاضعة للتفكير التي شكلت أساس المدن اليونانية القديمة، يصور هيجل الإمبراطورية الرومانية على أنها تكونت من مجموعة متنوعة من الشعوب، تفتقر لجميع الروابط الأبوية الطبيعية أو غيرها من الروابط العرفية؛ ولذلك كانت تتطلب أكثر الأنظمة صرامة ، مدعوما بالقوة؛ وذلك للحفاظ على ترابطها. وهذا يجعل هيمنة روما في المرحلة التالية من تاريخ العالم تبدو كعودة للنموذج الشرقي للحاكم المطلق كما في الإمبراطورية الفارسية. لكن حتى وإن كان مسار تاريخ العالم - كما يعرضه هيجل - لا يتقدم على نحو سلس وثابت، فإنه بالتأكيد لا يعود للخلف أيضا؛ فالمكاسب التي حققت في عصر مضى لا يمكن أبدا خسارتها بالكلية؛ لذلك يميز هيجل بدقة بين المبادئ الأساسية التي قامت عليها كل من الإمبراطورية الفارسية والإمبراطورية الرومانية. ففكرة الحرية الفردية والقدرة الشخصية على الحكم على الأشياء، التي ولدت في العصر اليوناني، لم تتلاش؛ فقد قامت الدولة الرومانية في واقع الأمر على دستور سياسي ونظام قانوني يتضمن الحقوق الفردية باعتبارها أحد مفاهيمه الأساسية. هذا يوضح أن الدولة الرومانية تقر بحرية الفرد بطريقة لم تتمكن الإمبراطورية الفارسية مطلقا من إقرارها؛ الفكرة هي بالطبع أن هذا الإقرار بحرية الفرد مسألة قانونية أو رسمية خالصة؛ يطلق عليها هيجل «الحرية الفردية المجردة». إن الحرية الحقيقية التي تسمح للأفراد بتطوير مجموعة متنوعة من الأفكار وطرق العيش، التي يطلق عليها هيجل «الحرية الفردية المادية»، تتحطم بقسوة على صخرة القوة الغاشمة لروما.
إذن فالاختلاف الحقيقي بين الإمبراطورية الفارسية والإمبراطورية الرومانية يتمثل في أن مبدأ الحكم المطلق الشرقي مهيمن تماما في الإمبراطورية الفارسية، في حين أنه في الإمبراطورية الرومانية يوجد صراع دائم بين السلطة المطلقة للدولة وفكرة الحرية الفردية. كان هذا الصراع منعدما في الإمبراطورية الفارسية؛ لأن فكرة الحرية الفردية كانت لا تزال في طور التطور؛ وكانت منعدمة في العالم اليوناني؛ لأنه على الرغم من بزوغ فكرة الحرية الفردية هناك، فإن السلطة السياسية لم تحتشد بقوة لمقاومتها.
إن العالم الروماني - كما يصوره هيجل - ليس عالما سعيدا؛ حيث تحطمت روح العالم اليوناني الحرة والعفوية التي تتسم بالبهجة. ففي مواجهة مطالبات الدولة بالامتثال الخارجي، لا يمكن العثور على الحرية إلا في الانطواء على النفس واللجوء إلى مذهب فلسفي مثل مذهب الشك أو مذهب الأبيقوريين أو مذهب الرواقيين. لا يعنينا هنا تفاصيل هذه المذاهب الفلسفية المتعارضة، لكن المهم هنا هو الميل المشترك بينها لازدراء كل ما يقدمه العالم الواقعي - الثراء والسلطة السياسية والمجد الدنيوي - في مقابل نموذج للحياة يجعل تابع هذا المذهب غير مبال بأي شيء يمكن للعالم الخارجي أن يحدثه.
يرى هيجل أن انتشار هذه المذاهب الفلسفية كان نتيجة للعجز الذي يشعر به الفرد، الذي يؤمن بأنه كائن حر، في مواجهة السلطة المستبدة التي لا يقدر على تغييرها. إن اللجوء للفلسفة، مع ذلك، هو استجابة سلبية لهذا الموقف؛ فهو شكل من أشكال اليأس أمام عالم عدائي. كانت هناك حاجة لإيجاد حل أكثر إيجابية، وهو الحل الذي قدمته المسيحية.
للتعرف على سبب نظر هيجل للمسيحية على هذا النحو، علينا إدراك أن البشر من وجهة نظر هيجل ليسوا مجرد حيوانات شديدة الذكاء؛ فالبشر يحيون في العالم الطبيعي، مثلهم مثل الحيوانات، لكنهم أيضا يتميزون بأنهم كائنات روحية. وحتى يدرك البشر أنهم كائنات روحية، يظل البشر أسرى في شرك العالم الطبيعي؛ عالم القوى المادية. وعندما يقاوم العالم الطبيعي تطلعهم للحرية معاندا، مثلما فعل العالم الروماني، لا يوجد مفر «داخل» العالم الطبيعي، ما عدا ما سبق وأن ذكرناه من اللجوء إلى فلسفة قائمة على موقف سلبي تماما تجاه العالم الطبيعي. ومع ذلك، ما إن يدرك البشر أنهم كائنات روحية، حتى تنتهي أهمية عدائية العالم الطبيعي، ويكون بالإمكان تجاوزها بطريقة إيجابية لوجود شيء إيجابي يتجاوز العالم الطبيعي.
في نظر هيجل، المسيحية ديانة مميزة؛ لأن المسيح كان إنسانا وفي الوقت نفسه «ابن الإله». وتلقن هذه الحالة البشر درسا مفاده أنه على الرغم من أن لديهم قصورا في بعض النواحي، فإنهم في الوقت ذاته خلقوا على صورة الإله، وبداخلهم قيمة غير محدودة ومصير خالد. وكانت النتيجة تطور ما يطلق عليه هيجل «الوعي الذاتي الديني»؛ الإقرار بأن العالم الروحي، لا العالم الطبيعي، هو موطننا الحقيقي. لتحقيق هذا الوعي، يتعين على البشر كسر قبضة الرغبات الطبيعية، وبالطبع الوجود الطبيعي بأكمله، التي تسيطر عليهم.
إن مهمة الديانة المسيحية هي تحقيق هذا الوعي بأن الطبيعة الروحية للبشر هي الطبيعة المهمة لهم. ومع ذلك، لا يحدث كل ذلك على الفور؛ لأنه لا يتطلب تقوى داخلية فحسب؛ فالتغير الذي يحدث في القلب التقي للمؤمن بالمسيحية يجب أن يحول العالم الخارجي الحقيقي إلى شيء يلبي متطلبات البشر بوصفهم كائنات روحية. وكما سنرى، استغرقت البشرية التاريخ المسيحي بأكمله حتى عصر هيجل كي تصبح قادرة على تحقيق هذا.
ناپیژندل شوی مخ
ما حدث سريعا، إلى حد ما، هو إلغاء القيود المفروضة على الحرية التي اتسم بها العصر اليوناني. أولا: تعارض المسيحية العبودية لأن كل شخص من البشر يتمتع بنفس القيمة غير المحدودة والأساسية. ثانيا: انتهى الاعتماد على الوسطاء الروحانيين؛ نظرا لأن الوسطاء الروحانيين يمثلون هيمنة الأحداث الطبيعية العرضية على الاختيار الحر للكائنات الروحية. ثالثا: ولنفس السبب، حلت الأخلاق القائمة على الفكرة الروحية للحب محل الأخلاق العرفية للمجتمع اليوناني.
بزغت الديانة المسيحية في عهد الإمبراطورية الرومانية، وأصبحت الديانة الرسمية للإمبراطورية في عهد الإمبراطور قسطنطين. وعلى الرغم من سقوط النصف الغربي من الإمبراطورية تحت وطأة غزوات البربر، فإن الإمبراطورية البيزنطية ظلت مسيحية لأكثر من ألف سنة. ومع ذلك، يرى هيجل أن هذه المسيحية جامدة وفاسدة نتيجة لأنها كانت محاولة لوضع مظهر مسيحي زائف فوق أنظمة فاسدة بالفعل حتى النخاع. وقد استلزم الأمر أشخاصا جددا لإيصال العقيدة المسيحية إلى مصيرها المحتوم.
العالم الجرماني
قد يبدو غريبا أن يشير هيجل إلى الفترة التاريخية الممتدة من سقوط الإمبراطورية الرومانية إلى العصور الحديثة بأكملها بوصفها «العالم الجرماني». ويستخدم هيجل المصطلح
Germanische ، الذي يعني «جرماني» بدلا من «ألماني»، ولا يتحدث عن ألمانيا فقط، بل أيضا عن إسكندينافيا وهولندا وحتى بريطانيا. ولم يتغاض أيضا - كما سنرى - عن التطورات التي حدثت في إيطاليا وفرنسا، مع أنه لم يجد روابط لغوية أو عرقية لتبرير استخدام المصطلح «جرماني» على نطاق أوسع ليتضمن هذه الدول. قد يشك البعض في أن إطلاق هيجل اسم «العالم الجرماني» على هذا العصر يتسم بقدر من التعصب العرقي، لكن السبب الرئيسي الذي دفعه للقيام بذلك هو أنه يعتبر حركة الإصلاح الديني هي الحدث التاريخي الرئيسي الأوحد منذ العصر الروماني.
يرسم هيجل صورة مقبضة لأوروبا خلال الألف سنة التي مرت عقب سقوط روما؛ ففي أثناء هذه الفترة يرى هيجل أن الكنيسة أفسدت الروح الدينية الحقيقية، بحيث أقحمت نفسها بين الإنسان والعالم الروحي، وأصرت على الطاعة العمياء لها من أتباعها. ويصف هيجل العصور الوسطى بأنها «ليلة طويلة وطارئة ومفزعة»، ليلة انتهت ببزوغ عصر النهضة الذي يعد «وميض الفجر الذي يبشر بعودة يوم ساطع ومجيد بعد هبوب عواصف لفترة طويلة.» ومع ذلك، يصف هيجل حركة الإصلاح الديني - وليس عصر النهضة - بأنها «الشمس المنيرة» التي أشرقت على يومنا الساطع؛ ألا وهو العصر الحديث.
لقد ظهرت حركة الإصلاح الديني نتيجة لفساد الكنيسة، الذي لم يكن ينظر إليه هيجل كتطور عرضي، بل كنتيجة حتمية لحقيقة أن الكنيسة لا تتعامل مع الألوهية بوصفها شيئا روحيا محضا، بل بدلا من ذلك قامت بتجسيدها في العالم المادي. فالتقيد بالشعائر والطقوس الدينية، وغيرها من المظاهر الخارجية، هو أساسها، ولا يتطلب الأمر سوى الالتزام بها باعتبارها جوهرا للحياة الدينية. وهكذا تم قصر العنصر الروحي في البشر على أشياء مادية مجردة. إن التعبير المطلق عن هذا الفساد المتغلغل هو بيع شيء يمس طبيعة الإنسان الدفينة والأكثر عمقا؛ السلام الروحي الذي يصاحب غفران الخطايا، مقابل أكثر الأشياء دنيوية؛ ألا وهو المال. يشير هيجل بالطبع إلى عملية بيع «صكوك الغفران» التي تسببت في بدء احتجاج لوثر.
ويعتقد هيجل أن الإصلاح الديني كان إنجازا للشعب الجرماني، نبع من «صدق وإخلاص قلبه». يعتبر هيجل «الإخلاص» و«القلب» العنصرين الرئيسيين للإصلاح الديني، الذي بدأه راهب ألماني بسيط، هو لوثر، وترسخ في الشعوب الجرمانية فقط. وكانت نتيجته التخلص من أبهة الكنيسة الكاثوليكية الرومانية ووضعها، وإحلال فكرة أن كل إنسان تربطه، في قلبه، علاقة مباشرة بالمسيح.
إن تقديم حركة الإصلاح الديني بوصفها حدثا داخل جزء معزول من الحياة يسمى «الدين»، مع ذلك، قد يكون مناقضا تماما لوجهة نظر هيجل؛ أولا: طالما أكد هيجل على ترابط الجوانب المختلفة لتطورنا التاريخي. ثانيا : كما رأينا بالفعل، لكي يحقق البشر طبيعتهم الروحية لا يكفي أن يرتقوا بحياتهم الدينية، بل يجب أن يجعلوا من العالم الذي يعيشون فيه مكانا مناسبا لحياة الكائنات الروحية الحرة. وهكذا يرى هيجل حركة الإصلاح الديني أكثر من مجرد هجوم على الكنيسة القديمة واستبدال البروتستانتية بالكاثوليكية الرومانية. تنادي حركة الإصلاح الديني بأنه يمكن لكل إنسان التعرف على حقيقة طبيعته الروحية، ويمكنه تحقيق خلاصه؛ فلا حاجة لوجود سلطة خارجية لتفسير النصوص المقدسة أو لأداء الشعائر. فالضمير الفردي هو الحكم النهائي في تحديد الحقيقة والصلاح. وتأكيدا لهذا، رفعت حركة الإصلاح الديني «راية الروح الحرة» وجعلت مبدأها الرئيسي: «الإنسان بطبيعته خلق ليكون حرا.»
شكل : مارتن لوثر (1483-1546).
ناپیژندل شوی مخ
منذ حركة الإصلاح الديني، أصبح دور التاريخ يقتصر على تغيير شكل العالم وفقا للمبدأ الرئيسي للحركة. وهي مهمة غير سهلة؛ فلو أن كل إنسان قادر بحرية على استخدام قواه الفكرية للحكم على ما هو حقيقي وصالح، لما أمكن العالم أن يلقى قبولا كونيا إلا عندما يطابق المعايير العقلانية؛ ولذا يجب على جميع المؤسسات الاجتماعية - بما في ذلك القانون والتملك والأخلاق الاجتماعية والحكومة والدساتير وغيرها - أن توضع وفقا للمبادئ العامة للعقل، وحينها فقط سيختار الأفراد بحرية قبول ودعم هذه المؤسسات. وحينها فقط سيتوقف كل من القانون والأخلاق والحكومة عن كونها قواعد وقوى قسرية يجب على الإنسان الحر الامتثال لها، وحينها فقط سيكون البشر أحرارا، وفي الوقت نفسه متصالحين بالكامل مع العالم الذي يعيشون فيه.
إن فكرة امتثال جميع المؤسسات الاجتماعية للمبادئ العامة للعقل تحمل في طياتها طابع حركة التنوير؛ فإخضاع كل شيء لضوء العقل البارد والواضح، مع رفض كل ما تأسس على الخرافة أو الامتيازات الموروثة، كان مذهب المفكرين الفرنسيين في القرن الثامن عشر؛ مثل فولتير وديدرو. إن حركة التنوير وما أعقبها من اندلاع الثورة الفرنسية هما بالتأكيد الحدثان التاليان - وتقريبا الأخيران - في حديث هيجل عن تاريخ العالم. ومع ذلك، نجد أن موقف هيجل نحوهما ليس تماما ما يمكن أن يتوقعه المرء من ملاحظاته حول جوهر حركة الإصلاح الديني .
يقبل هيجل وجهة النظر التي تقول بأن الثورة الفرنسية كانت نتيجة الانتقادات الموجهة للنظام الذي كان موجودا في فرنسا من قبل الفلاسفة الفرنسيين. ففرنسا قبل الثورة كانت لديها طبقة نبلاء لا تتمتع بقوة حقيقة، وإنما كانت تتمتع بمجموعة من الامتيازات المضطربة غير القائمة على أي أساس عقلاني. وفي مواجهة هذا الوضع غير العقلاني تماما، تجلى مفهوم الفلاسفة عن حقوق الإنسان وانتصر. ولا يدعنا هيجل نحتار فيما يتعلق بوجهة نظره بشأن أهمية هذا الحدث، فيعلن عنها قائلا:
لم يحدث منذ ظهور الشمس في السماء ودوران الكواكب حولها أن تم إدراك أن وجود الإنسان يكمن في رأسه؛ أي فكره، الذي يلهمه لبناء عالم الواقع ... لم يستطع الإنسان إلا الآن إدراك مبدأ أن الفكر يجب أن يحكم الواقع الروحي. كان هذا إذن فجرا فكريا مجيدا. وجميع البشر شاركوا في الاحتفال بهذا الحدث.
إلا أن النتيجة المباشرة لهذا «الفجر الفكري المجيد» كانت «الإرهاب الثوري»، وهو شكل من أشكال الاستبداد الذي مارس سلطاته دون أي إجراءات قانونية، وكان عقابه يتمثل في الإعدام بالمقصلة. ما الخطأ الذي حدث؟ كان الخطأ هو محاولة تطبيق مبادئ فلسفية مجردة تماما دون النظر إلى طبيعة البشر. فهذه المحاولة كانت تستند إلى سوء فهم لدور الفكر، الذي لا يمكن أن يطبق بمعزل عن المجتمع الحالي والأشخاص الذين يشكلونه.
وهكذا كانت الثورة الفرنسية في ذاتها فاشلة، إلا أن أهميتها التاريخية العالمية تكمن في المبادئ التي نقلتها للشعوب الأخرى، ولا سيما ألمانيا؛ فقد كانت الانتصارات القصيرة الأجل التي حققها نابليون كافية لوضع قانون للحقوق داخل ألمانيا لترسيخ حرية الإنسان وحرية التملك، ولفتح هيئات الدولة أمام أكثر المواطنين كفاءة للعمل فيها، ولإلغاء الالتزامات الإقطاعية. يبقى الملك هو رأس الحكومة، وقراره الشخصي هو القرار النهائي، إلا أنه في ظل القوانين الراسخة والنظام المستقر للدولة لم يتبق للقرار الشخصي للملك - كما يقول هيجل - «في الحقيقة، سوى القليل.»
يصل هيجل بحديثه عن تاريخ العالم إلى نهايته بوصوله إلى العصر الذي عاش فيه. ويختتم هيجل الكتاب بتكرار - وإن بكلمات مختلفة قليلا - الفكرة الرئيسية التي قدمها في البداية: «تاريخ العالم ليس إلا تطور فكرة الحرية»، مقترحا أن تقدم فكرة الحرية قد بلغ الآن مداه. كان المطلوب أمرين: أن يحكم الأفراد أنفسهم وفقا لضمائرهم وقناعاتهم، وأن يتم تنظيم العالم الموضوعي - العالم الواقعي بكل ما فيه من مؤسسات اجتماعية وسياسية - بصورة عقلانية. فلا يكفي أن يحكم الأفراد أنفسهم وفقا لضمائرهم وقناعاتهم؛ لأنها ستكون مجرد «حرية ذاتية»؛ فما دام العالم الموضوعي لم يتم تنظيمه بصورة عقلانية، سيتصارع الأفراد الذين يتصرفون وفقا لضمائرهم الشخصية مع القانون والأخلاق، وسيصبح القانون المطبق والأخلاق القائمة شيئين مناوئين لهم وقيدين على حريتهم. من جهة أخرى، ما إن يتم تنظيم العالم الموضوعي بصورة عقلانية، فسيختار الأفراد الذين يتبعون ضمائرهم بحرية التصرف وفقا لقانون وأخلاقيات العالم الموضوعي. وهكذا ستتحقق الحرية على كل من المستويين الذاتي والموضوعي، ولن تكون هناك قيود على الحرية؛ نظرا لوجود تناغم تام بين الاختيارات الحرة للأفراد واحتياجات المجتمع ككل، وستتحول فكرة الحرية إلى واقع؛ ومن ثم يكون تاريخ العالم قد حقق هدفه.
شكل : كان سقوط سجن الباستيل في 1789 شرارة بدء الثورة الفرنسية.
هذه خاتمة رائعة بالفعل، لكنها تترك سؤالا واضحا معلقا: ما الشكل الذي ينبغي أن يكون عليه التنظيم العقلاني للأخلاق والقانون والمؤسسات الاجتماعية الأخرى؟ ما الدولة العقلانية حقا؟ لم يذكر هيجل في كتابه «فلسفة التاريخ» إلا القليل جدا عن ذلك. فوصفه الوردي لألمانيا في عصره، بالإضافة إلى حديثه عن أن تقدم فكرة الحرية قد بلغ الآن مداه، لا يمكن أن نستشف منه سوى إيمانه بأن بلاده - في عصره - قد وصلت لوضع المجتمع المنظم بعقلانية. ومع ذلك، يمتنع هيجل عن قول ذلك صراحة، ويتسم وصفه لألمانيا الحديثة بالإيجاز الشديد لدرجة لا تسمح لنا باكتشاف سبب اعتباره للتدابير الخاصة التي يصفها أنها أكثر عقلانية من الأشكال السابقة للحكم.
السبب وراء هذا الإيجاز قد يكمن ببساطة في أن كتاب «فلسفة التاريخ» تم تحريره كمجموعة من المحاضرات. والمحاضرات الجامعية - كما نعلم جميعا - كثيرا ما يفتقر فيها المحاضر إلى الوقت قرب نهايتها. لكن يمكن أيضا أن يكون هيجل قد تعمد التحدث بإيجاز عن هذا الموضوع في كتابه «فلسفة التاريخ»؛ لأنه سيكون محور كتابه «فلسفة الحق»، وهو الكتاب الذي يجب أن نقرأه للحصول على صورة أكثر شمولا لما يعتبره هيجل مجتمعا منظما بصورة عقلانية، ومن ثم حرا بحق.
ناپیژندل شوی مخ
الفصل الثالث
الحرية والمجتمع
لغز
رأينا أن هيجل يؤمن بأن أحداث الماضي كلها كانت تتجه نحو تحقيق هدف الحرية. في ختام كتاب «فلسفة التاريخ»، كانت هناك إشارة إلى أن هذا الهدف قد يكون قد تحقق، لكن هيجل قدم بعض الإشارات إلى السبب الذي ينبغي بناء عليه اعتبار بروسيا - أو أي دولة ألمانية أخرى موجودة في ذلك الوقت - النتيجة العظيمة لثلاثة آلاف عام من النضال في تاريخ العالم. عندما ألقى هيجل محاضراته حول فلسفة التاريخ، كان عهد الإصلاح الليبرالي في بروسيا على يد فون شتاين وهاردينبرج قد انتهى. كان الملك ومجموعة صغيرة من العائلات ذوات النفوذ يهيمنون على بروسيا، وافتقرت بروسيا إلى وجود برلمان ذي شأن، حيث حرمت الأغلبية العظمى من مواطنيها من إبداء رأيهم في تصريف شئون الدولة، وفرضت رقابة صارمة. كيف استطاع هيجل أن يعتبر مثل هذا المجتمع قمة الحرية الإنسانية؟ هل لنا أن نستغرب إذن قول الفيلسوف الألماني آرثر شوبنهاور، وفي ذهنه هيجل: «الحكومات تحول الفلسفة إلى وسيلة لخدمة مصالح الدولة، والعلماء يحولونها إلى تجارة»؟ أو اعتقاد كارل بوبر أن هيجل كان لديه هدف واحد وهو «محاربة المجتمع المنفتح؛ وذلك ليخدم سيده، فريدريش فيلهلم ملك بروسيا»؟
في هذا الفصل سأحاول شرح مفهوم هيجل للحرية، وفي حال نجاحي في هذه المهمة، سأكون قد أظهرت أنه بصرف النظر عن دافعه، يجب أخذ فكر هيجل حول هذا الموضوع على محمل الجد؛ لأنه يتعمق بشدة في دراسة افتراضات كثيرا ما نطرحها عندما نقول إن مجتمعا ما حر وآخر غير حر.
لقد شاهدنا أن هيجل في مقدمة كتاب «فلسفة التاريخ» يقول إن تاريخ العالم ليس إلا تقدم الوعي بالحرية، ويضيف هيجل - بعد بضعة أسطر - أن مصطلح «الحرية» هو «مصطلح غير محدد وغامض بصورة هائلة ... وعرضة لوقوع حالات لا حصر لها من سوء الفهم والالتباس والأخطاء.» للأسف، يمتنع هيجل عن تقديم تعريف أوضح من ذلك، قائلا بدلا من ذلك إن الطبيعة الأساسية للحرية «ستظهر» في عملية تفسير تاريخ العالم. لكن هذا لا يكفي تماما. قد تكون دراستنا لكتاب «فلسفة التاريخ» أعطتنا لمحة عن رؤية هيجل للحرية، لكن إن صح هذا، فهي لمحة تستلزم على نحو سريع شرحا إضافيا لتعليقات هيجل الأكثر وضوحا عن الأمر في كتابه «فلسفة الحق».
أولا: سأتحدث عن العنوان. يوحي العنوان: «فلسفة الحق» للقارئ العادي بأن الكتاب يتناول موضوع الصواب والخطأ؛ أي دراسة حول الأخلاق. بالفعل تبرز الأخلاق في الكتاب، لكن موضوعه أقرب للفلسفة السياسية. الكلمة الألمانية في عنوان كتاب هيجل المترجمة إلى «الحق» هي
Recht . قد تعني هذه الكلمة «الحق»، لكن لها دلالات أوسع، بما في ذلك «القانون»، حين نشير إلى «القانون» كمفهوم لا إلى قانون بعينه. وهكذا يعبر كتاب «فلسفة الحق» عن أفكار هيجل الفلسفية حول الأخلاق وعلم القانون والمجتمع والدولة. ونظرا لأن الحرية دائما ما تكون محورية لدى هيجل، يتضمن هذا الكتاب أكثر معالجة تفصيلية للحرية على المستويين الاجتماعي والسياسي. بالطبع يتضمن معالجات لموضوعات أخرى أيضا، لكنني سأتغاضى عنها من أجل السعي وراء مفهوم الحرية المهم.
الحرية المجردة
من الأفضل أن نبدأ بشيء مألوف. تأمل ما يمكن أن نطلق عليه المفهوم الليبرالي الكلاسيكي للحرية. يرى الليبراليون عامة الحرية بوصفها غياب القيود؛ فأنا حر إذا لم يتدخل الآخرون في شئوني ولم يجبروني على فعل شيء لا أرغب في القيام به؛ أنا حر عندما أقوم بما يحلو لي. أنا حر عندما يدعني الآخرون وشأني. هذا هو مفهوم الحرية الذي أطلق عليه أشعيا برلين «الحرية السلبية» في مقاله الشهير «مفهومان للحرية».
ناپیژندل شوی مخ
كان هيجل على دراية بهذا المفهوم للحرية، لكنه، على عكس برلين وكثير غيره من الليبراليين والمؤمنين بحرية الإرادة المعاصرين الذين يرون أن هذا هو أفضل شكل للحرية، يشير إليه بالحرية الشكلية أو المجردة ؛ أي إنه يتسم بمظهر الحرية لكن دون جوهرها. يقول هيجل: «إذا سمعنا من يقول إن تعريف الحرية هو القدرة على فعل ما يحلو لنا، فإن هذه الفكرة لا تعكس سوى عدم نضوج فكري تام؛ لأنها لا تتضمن حتى تلميحا إلى الإرادة الحرة كليا والحق والحياة الأخلاقية وغيرها.» إن اعتراض هيجل على هذا المفهوم للحرية يرجع إلى أنه يجعل اختيارات الفرد الأساس الذي يجب أن تبدأ منه الحرية؛ أما كيف ولماذا يتم اتخاذ هذه الاختيارات، فهو السؤال الذي لا يطرحه أصحاب هذا المفهوم بشأن الحرية. لكن هيجل يطرح هذا السؤال، وإجابته هي أن اختيار الفرد، بمعزل عن أي شيء آخر، هو نتاج ظروف قسرية؛ لذا فهو اختيار غير حر حقا.
يبدو هذا غطرسة؛ فكيف يجرؤ هيجل على إخبارنا بأن اختياراتنا قسرية، بينما اختياراته - كما هو مفترض - حرة بحق؟ أليست هذه محاولة سافرة لفرض قيمه علينا؟
ربما، لكن قد نصبح أكثر تعاطفا مع ما يحاول هيجل قوله إذا ما تأملنا جدالا معاصرا مشابها. يعتقد بعض علماء الاقتصاد أن الاختبار الحقيقي لقياس سلامة أي نظام اقتصادي هو مدى تمكينه للناس من تلبية تفضيلاتهم. يتخذ علماء الاقتصاد هؤلاء من التفضيلات الفردية أساسا يجب أن تبدأ منه عملية التقييم. هم لا يسألون عن كيفية تشكل هذه التفضيلات. يقول علماء الاقتصاد هؤلاء إن الاختيار من بين التفضيلات، وإعطاء بعض التفضيلات أهمية أكثر من الأخرى - دون النظر إلى مستويات الأهمية المختلفة التي وضعها الأفراد أنفسهم لتفضيلاتهم - قد تكون محاولة سافرة لفرض قيمنا الشخصية على الآخرين عبر إنكار قدرتهم على تحديد ما يرغبون فيه حقا من حياتهم.
شكل : أشعيا برلين (1909-1997).
سأطلق على علماء الاقتصاد هؤلاء «الاقتصاديين الليبراليين»، وهناك أيضا نقاد لهؤلاء الاقتصاديين، سأطلق عليهم «الاقتصاديين الراديكاليين». يطرح الاقتصاديون الراديكاليون بعض الأسئلة حول كيفية تشكل التفضيلات الفردية قبل أن يوافقوا على اعتبار هذه التفضيلات الأساس الأوحد لحكمهم على سلامة أي نظام اقتصادي. ويضربون أمثلة مشابهة لما يلي: افترض أن في وقت ما تقبل الناس في مجتمعنا رائحة الجسد البشري الطبيعية كأمر مسلم به، وأن عرق الإنسان وإمكانية أن تفوح رائحة منه هما من الأشياء التي لا يلاحظونها إلا بالكاد؛ وبقدر عدم ملاحظتهم لها، هم لا يعتبرون تلك الرائحة كريهة. ثم يكتشف شخص ما منتجا يمنع العرق والرائحة التي تنتج عنه. هذا اكتشاف رائع، لكن في المجتمع الذي وصفناه، سيكون الاهتمام بهذا المنتج محدودا للغاية. ومع ذلك، لا يستسلم صاحب المنتج بسهولة، ويطرح حملة دعائية ذكية تم تصميمها لتثير قلق الناس بشأن ما إذا كانوا يتصببون عرقا أكثر من الآخرين، وما إذا كان أصدقاؤهم قد يجدون رائحة جسدهم كريهة. تنجح حملته الدعائية، ويتشكل لدى الناس تفضيل لاستخدام المنتج الجديد. ونظرا لتوافر المنتج على نطاق واسع وبسعر في متناولهم، يمكنهم تلبية هذا التفضيل. من وجهة نظر الاقتصاديين الليبراليين، كل هذا رائع؛ فعمل الاقتصاد بهذه الطريقة لا يعطيهم أي سبب لمنحه تصنيفا أقل إيجابية مما كان من الممكن أن يمنحوه إياه بخلاف ذلك. أما الاقتصاديون الراديكاليون، فيرون أن هذا عبث واضح. ولتجنب مثل هذا العبث - في رأيهم - يجب على الاقتصاديين التصدي للمهمة الصعبة المتمثلة في التدقيق في أساس تكوين هذه التفضيلات والحكم على الأنظمة الاقتصادية وفقا لقدرتها على تلبية - ليس فقط أي تفضيلات، ولكن - التفضيلات القائمة على احتياجات إنسانية حقيقية أو التي تسهم في تحقيق منفعة إنسانية فعلية. يقول الاقتصاديون الراديكاليون بأننا إذا اتبعنا طريقتهم، فلا يمكننا الزعم بأن تقييمنا سيكون متجردا من القيمة، لكنهم يضيفون أنه لا توجد أي طريقة لتقييم أي نظام اقتصادي يمكن أن تكون متجردة من القيمة. فطريقة التقييم التي يستخدمها الاقتصاديون الليبراليون اعتمدت ببساطة على قيمة تلبية التفضيلات الحالية فقط. وهكذا يكون الحكم القيمي مضمنا في استخدام هذه الطريقة، على الرغم من كونه متخفيا تحت عباءة الموضوعية. فالاقتصاديون الليبراليون يباركون في الواقع أي ظروف تصادف تأثيرها على تفضيلات الناس.
هناك تشابه واضح بين هذا الجدال وجدال هيجل مع من يعرفون الحرية بأنها القدرة على فعل ما يحلو لنا. فهذا المفهوم السلبي للحرية يشبه مفهوم الاقتصاديين الليبراليين عن النظام الاقتصادي الجيد؛ فهو يرفض طرح أسئلة حول المؤثرات التي تشكل «المتع» التي نستمتع بها عندما نكون أحرارا في فعل ما يحلو لنا. يؤكد أصحاب هذا المفهوم عن الحرية أن طرح مثل هذا السؤال واستخدام الإجابات عنه كأساس لفرز الاختيارات الحرة الحقيقية عن الاختيارات الحرة في ظاهرها فقط وليس في جوهرها، سيكون كمن يسجل قيمه الشخصية في مفهوم الحرية. ويأتي رد هيجل، مثل رد الاقتصاديين الراديكاليين، أن المفهوم السلبي للحرية يستند بالفعل إلى قيمة، قيمة الفعل التي تستند إلى الاختيار، بصرف النظر عن كيفية الوصول إلى هذا الاختيار أو مدى كونه قسريا. بكلمات أخرى، يبارك مفهوم الحرية السلبي أي ظروف تصادف تأثيرها على طريقة اختيار الناس.
إذا كنت موافقا على أنه من العبث عدم رؤية أي وجه اعتراض على نظام اقتصادي يقوم بإنشاء تفضيلات جديدة على نحو زائف، حتى يتربح البعض من تلبية تلك التفضيلات، فيجب حينها أن تقر بأن الاقتصاديين الراديكاليين على حق. بالطبع سيكون من الصعب فرز التفضيلات التي تسهم في تحقيق منفعة إنسانية حقيقية عن التفضيلات التي لا تفعل ذلك. وقد يكون من المستحيل الوصول إلى اتفاق بهذا الشأن. ومع ذلك، يجب ألا تكون صعوبة المهمة سببا لتقبل جميع التفضيلات كمقياس لسلامة أي نظام اقتصادي.
إذا كنت موافقا على أن الاقتصاديين الراديكاليين على حق، فلا ينقصك إلا خطوة واحدة صغيرة كي توافق على أن هيجل على حق. في الواقع، هي ليست خطوة على الإطلاق؛ فقد استبق هيجل النقطة الرئيسية لموقف الاقتصاديين الراديكاليين، وهي النقطة التي أصبحت شائعة في العصور الحديثة على يد جيه كيه جالبريث وفانس باكارد ومجموعة كبيرة من النقاد الآخرين للاقتصاد الصناعي. فنجد هيجل يكتب في مستهل أيام المجتمع الاستهلاكي، لكن بإدراك كاف للتعرف على الطريق الذي كان يسلكه:
إن ما يطلق عليه الإنجليز «الراحة» هو شيء لامتناه ولا حد له. ويمكن أن يكشف لك آخرون أن ما تعتبره راحة في مرحلة ما هو مشقة، ومثل هذه الاكتشافات لا تنتهي أبدا . ولذلك فإن الحاجة إلى مقدار أكبر من الراحة لا تنبع تحديدا من داخلك مباشرة، بل يوحي إليك بها أولئك الذين يأملون في التربح منها.
يأتي هذا التعليق في جزء من كتاب «فلسفة الحق» يتناول ما يطلق عليه هيجل «نسق الحاجات»، ويأتي على إثر إشارة إلى شخصيات بارزة في النظرية الاقتصادية الليبرالية الكلاسيكية، وهم آدم سميث وجيه بي ساي وديفيد ريكاردو. يوضح نقد هيجل لنسق الحاجات هذا أن سبب معارضته للرؤية الاقتصادية الليبرالية للمجتمع هو في جوهره السبب نفسه الذي يبديه الاقتصاديون الراديكاليون اليوم. وخلف هذا يكمن منظور هيجل التاريخي الثابت. فلا تغيب عن ناظره مطلقا حقيقة أن احتياجاتنا ورغباتنا يشكلها المجتمع الذي نحيا فيه، وأن هذا المجتمع في المقابل هو مرحلة في عملية تاريخية. وهكذا تكون الحرية المجردة - أي حرية أن نفعل ما يحلو لنا - هي الحرية في أن تقودنا القوى الاجتماعية والتاريخية لعصورنا.
ناپیژندل شوی مخ
ينبغي أن تكون وجهة نظر هيجل الآن قد بدت منطقية بما يكفي بوصفها نقدا للمفهوم السلبي للحرية. ومع ذلك، ماذا ينوي أن يضع مكانه؟ فجميعنا يجب أن يحيا في مجتمع محدد وفترة محددة من التاريخ. وسنتشكل جميعا بواسطة المجتمع والعصور التي نحيا فيها. فكيف يمكن إذن للحرية أن تكون أي شيء بخلاف حرية أن نفعل ما تسوقنا القوى الاجتماعية والتاريخية إلى فعله؟
الحرية والواجب
بعض رغباتنا هي نتيجة لطبيعتنا، مثل الرغبة في الأكل التي ولدنا بها، أو الرغبات الجنسية التي ولدنا بإمكانية تنميتها. وتشكلت معظم رغباتنا الأخرى نتيجة لنشأتنا وتعليمنا والمجتمع الذي نحيا فيه والبيئة المحيطة بنا عموما. وسواء أكان أصل هذه الرغبات بيولوجيا أو اجتماعيا، ففي كلتا الحالتين نحن لم نخترها. ونظرا لأننا لم نختر رغباتنا، فنحن لسنا أحرارا عندما نتصرف وفقا لرغباتنا.
هذه الحجة تذكرنا بكانط أكثر مما تذكرنا بهيجل، لكن هيجل يتفق معها حتى حد معين. لنتتبع هذه الحجة لأبعد من ذلك قليلا. إذا لم نكن أحرارا عندما نتصرف وفقا لرغباتنا، فحينها يبدو أن الطريق الوحيد الممكن نحو الحرية هو تطهير أنفسنا من كل الرغبات. لكن ماذا سيتبقى لنا حينئذ؟ يجيب كانط عن هذا السؤال بقوله: العقل. إن الدافع للعمل يمكن أن يأتي من الرغبات أو من العقل. تخلصوا من الرغبات، وسيتبقى لنا عقل عملي خالص.
إن فكرة كون الأفعال تستند إلى العقل وحده ليس من السهل استيعابها. يمكننا التحدث بسهولة عن كون أفعال شخص ما عقلانية أو غير عقلانية، لكننا عادة ما نفعل ذلك في معرض الغايات أو الأهداف النهائية لهذا الشخص، وهذه الغايات ستكون قائمة على الرغبات. فعلى سبيل المثال، إن معرفة أن هيلين، وهي ممثلة شابة وموهوبة، ترغب في اقتحام عالم السينما يمكن أن تجعلني أقول إنه سيكون تصرفا غير عقلاني منها أن تأكل الكثير من الحلوى لدرجة تصبح معها بدينة، لكن في حال سئلت إذا ما كنت أعتبر رغبة هيلين في أن تصبح نجمة سينمائية هو تصرف عقلاني، فماذا يمكن أن أقول؟ يمكن فقط أن أقول إن هذا النوع من الرغبات أساسي للغاية بحيث لا يمكن أن يكون عقلانيا أو غير عقلاني: إنه مجرد شيء لا يمكن تفسيره عن المرأة. هل من الممكن أن يكون هناك أحكام تتعلق بالعقلانية أو عدم العقلانية لا تستند إلى رغبات أساسية من هذا النوع؟
يقول كانط إن ذلك ممكن. فعندما نتخلص من جميع الرغبات الخاصة، حتى أكثرها أساسية، لا يتبقى لنا سوى عامل العقلانية المجرد والأساسي؛ وهذا العامل المجرد والأساسي هو الشكل الكوني العام للقانون الأخلاقي ذاته. هذا هو مبدأ كانط الشهير «الأمر المطلق» الذي يصيغه كما يلي: «تصرف دائما بحيث يمكن لمبدأ فعلك أن يكون قانونا كونيا للطبيعة.»
إن الخطوة الأكثر إرباكا في هذا هي الانتقال من العقلانية المجردة والأساسية إلى فكرة شيء كوني. يعتقد كانط - ويوافقه هيجل على نحو واضح - أن العقل كوني ضمنيا. فإذا علمنا أن جميع البشر فانون وأن سقراط كان إنسانا، فإذن تخبرنا قاعدة عقلية أن سقراط فان. إن القاعدة العقلية التي تخبرنا بهذا هي قاعدة كونية؛ فهي لا تقتصر على اليونانيين أو الفلاسفة أو حتى سكان كوكب الأرض فقط، بل تمتد لتشمل جميع الكائنات العاقلة. في التفكير العملي - أي التفكير بشأن ما تفعل - كثيرا ما يتم حجب هذا العامل الكوني من خلال حقيقة أننا نبدأ من رغبات خاصة غير كونية على الإطلاق. تأمل هذا النموذج من التفكير العملي: «أريد أن أصبح غنيا، ويمكنني الاحتيال على صاحب العمل في مبلغ مليون دولار دون أن يكتشف أمري؛ لذا ينبغي أن أحتال على صاحب العمل.» هنا يبدأ التفكير من منطلق رغبتي في أن أصبح غنيا. لا يوجد أي شيء كوني بشأن هذه الرغبة. «لا تنخدع بحقيقة أن كثيرا من الناس يرغبون في أن يصبحوا أغنياء؛ الرغبة التي بدأت منها هذا التفكير هي رغبتي أنا، بيتر سينجر، في أن أصبح غنيا. القليل جدا جدا من الناس يشتركون معي في هذه الرغبة.» ونظرا لعدم وجود أي شيء كوني بشأن نقطة انطلاق هذا النموذج من التفكير، فلا يوجد أي شيء كوني بشأن نتيجته، التي لا تنطبق بالتأكيد على جميع الكائنات العاقلة. ومع ذلك، فإن كنا نفكر بشأن ما نفعله دون الانطلاق من أي رغبة خاصة، فليس هناك ما يمنع تفكيرنا من أن ينطبق على جميع الكائنات العاقلة. التفكير العملي المحض، بعيدا عن الرغبات الخاصة، يمكن فقط أن يجسد العامل الكوني في التفكير. ويؤكد كانط أنه هكذا يأخذ الشكل الذي يقتضيه الأمر المطلق.
إذا كان كانط على حق، فشكل التصرف الوحيد الذي لا ينتج عن رغباتنا الفطرية أو الاجتماعية هو التصرف وفقا للأمر المطلق. إذن فالتصرف يكون حرا فقط إذا كان وفقا للأمر المطلق. ونظرا لأن التصرف الحر فقط هو الذي يمكن أن يكون ذا قيمة أخلاقية حقيقية، يجب ألا يقتصر الأمر المطلق على كونه الأمر الأعلى للعقل، بل أن يكون أيضا القانون الأعلى للأخلاق.
هناك نقطة أخيرة ضرورية لإكمال الصورة. إذا كان تصرفي حرا، فلا يمكن أن يكون دافعي للتصرف وفقا للأمر المطلق هو أي رغبة خاصة يمكن أن تكون لدي؛ لذلك لا يمكن أن تكون رغبتي أن أدخل الجنة أو أن أحظى باحترام أصدقائي، ولا رغبتي الخيرية في فعل الخير للآخرين. يجب أن يكون دافعي ببساطة هو التصرف وفقا للقانون الكوني للعقل والأخلاق لذاته، ويجب أن أقوم بواجبي لأنه واجبي. إن الدافع الأعلى للعمل الأخلاقي عند كانط أحيانا ما تلخص في الشعار التالي: «الواجب من أجل الواجب.» إنه ينبع بالتأكيد مما قاله كانط بأننا أحرار عندما نقوم بواجبنا لذاته وليس خلاف ذلك.
وهكذا وصلنا إلى استنتاج أن الحرية تكمن في القيام بواجبنا. سيجد القارئ المعاصر هذا الاستنتاج متناقضا؛ فمصطلح «الواجب» أصبح مرتبطا بطاعة قوانين المؤسسات التقليدية، مثل الجيش والأسرة. وعندما نتحدث عن القيام بواجبنا، كثيرا ما نقصد أننا نقوم بما لا نفضل القيام به، لكن نشعر بأننا مجبرون على القيام به وفقا للقوانين العرفية التي لا نرغب في تحديها. إن «الواجب» بهذا المعنى هو مضاد الحرية.
ناپیژندل شوی مخ
إذا كان هذا هو أساس اعتبار هذا الاستنتاج - أن الحرية تكمن في القيام بواجبنا - متناقضا، فإذن ينبغي أن ننحيه جانبا. فاستنتاج كانط كان أن الحرية تكمن في القيام بما نراه واجبنا حقا بالمعنى الأوسع للمصطلح. ولصياغة وجهة نظره بطريقة قد يكون القارئ المعاصر أكثر استعدادا لقبولها نقول: الحرية تكمن في اتباع الضمير الشخصي. هذا يعبر بدقة عما قصده كانط، ما دمنا نتذكر أن «الضمير» هنا لا يعني «الصوت الداخلي» المشروط بظروف اجتماعية الذي قد أسمعه، بل يعني الضمير الذي يستند إلى قبول عقلاني للأمر المطلق بوصفه القانون الأخلاقي الأعلى. وبهذه الصياغة، قد لا يزال الاستنتاج الذي توصلنا له حتى الآن صعب التصديق، لكن ينبغي ألا يبدو متناقضا بعد الآن. فحرية الضمير، على أي حال، معروفة على نطاق واسع بأنها جزء محوري مما نؤمن بأنه الحرية، حتى وإن لم تكن الحرية بأكملها.
حان وقت العودة إلى هيجل. الكثير مما كنت أصفه على أنه رأي كانط، هو أيضا رأي هيجل. فنحن لسنا أحرارا عندما نتصرف انطلاقا من رغبات فطرية أو اجتماعية معينة، والعقل كوني بصورة أساسية، كما أن الحرية يمكن العثور عليها في ما هو كوني؛ كل هذه الآراء يستقيها هيجل من كانط ويتبناها. علاوة على ذلك، في كتاب «فلسفة التاريخ» - كما رأينا - يعتبر هيجل حركة الإصلاح الديني فجر العصر الجديد للحرية؛ لأنها تنادي بحقوق الضمير الفردي. وهكذا يرى هيجل - مثله مثل كانط - علاقة بين الحرية وتطور الضمير الفردي. كما لا يعارض هيجل فكرة أن الحرية تكمن في القيام بواجبنا. الواجب - يقول هيجل - يظهر كقيد على رغباتنا الطبيعية أو القسرية، لكن الحقيقة هي أن «في الواجب، يجد الفرد تحرره ... من دافع طبيعي خالص ... في الواجب يكتسب الفرد حريته الحقيقية.» قال هيجل معلقا بشكل مباشر على ما قاله كانط: «عند القيام بواجبي، أنا مستقل وحر. إن التأكيد على هذا المعنى للواجب يشكل أهم ما يميز فلسفة كانط وشموخ رؤيتها.»
إذن يرى هيجل أن القيام بواجبنا لذاته هو تقدم بارز عن الفكرة السلبية للحرية بوصفها فعل ما يحلو لنا. ومع ذلك، نجد أن هيجل غير راض عن رؤية كانط. نعم هو يرى العوامل الإيجابية فيه، لكنه في الوقت ذاته من أشد النقاد اللاذعين له. فالجزء الثاني من كتاب «فلسفة الحق»، الذي يحمل عنوان «الأخلاق»، هو في معظمه هجوم على نظرية كانط الأخلاقية.
لهيجل وجها اعتراض؛ يتمثل أولهما في أن نظرية كانط لا تتعمق مطلقا إلى تفاصيل ما يجب أن نفعله. وذلك ليس نتيجة لعدم اهتمام كانط نفسه بمثل هذه المسائل العملية، لكن نتيجة لأن نظريته بالكامل تؤكد بشدة أن الأخلاق يجب أن تستند إلى التفكير العقلي العملي المحض، مجردة من أي دوافع خاصة. ونتيجة لذلك، لا يمكن أن تقدم النظرية سوى الشكل المجرد والكوني للقانون الأخلاقي؛ فهي لا تستطيع أن تخبرنا بماهية واجباتنا المحددة. يقول هيجل إن هذا الشكل الكوني هو ببساطة مبدأ الاتساق أو عدم التناقض. فإن لم تكن لدينا نقطة لننطلق منها، فلن نصل إلى أي مكان. على سبيل المثال، إن قبلنا بصحة التملك، تكون السرقة غير متسقة؛ لكن يمكننا إنكار أن التملك يولد أي حقوق، ونكون لصوصا متسقين تماما. فإذا كان التوجيه «تصرف بما لا يناقض ذاتك !» هو المحرك الوحيد لتصرفاتنا ، فقد نجد أنفسنا لا نفعل شيئا على الإطلاق.
شكل : هيجل أثناء إلقاء محاضرة.
سيكون هذا الاعتراض على مبدأ الأمر المطلق الخاص بكانط مألوفا ليس فقط لتلاميذ كانط، بل أيضا للمهتمين بالفلسفة الأخلاقية المعاصرة. لا يزال هناك إصرار واسع النطاق على أهمية مطلب كون المبادئ الأخلاقية كونية في شكلها - على سبيل المثال، من قبل آر إم هير، مؤلف كتابي «الحرية والعقل» و«التفكير الأخلاقي» - كما أن الاعتراض على أن هذا المطلب هو نوع من الشكليات الفارغة التي لا تخبرنا بشيء لا يزال يطرح على نحو متكرر. ودفاعا عن كانط، قد تم اقتراح تفسير نظريته بوصفها تسمح لنا بالانطلاق من رغباتنا، لكنها تتطلب منا التصرف حيالها فقط في حال قدرتنا على وضعها في شكل كوني؛ أي أن نقبلها كأساس ملائم للتصرف لأي شخص في موقف مماثل. يستبق هيجل هذا التفسير زاعما أن أي رغبة يمكن أن توضع في شكل كوني؛ ولذا ما إن يسمح بأن نتخذ رغبات خاصة كنقطة انطلاق لتصرفاتنا، فلا يمكن لمطلب الشكل الكوني منعنا من تبرير أي تصرف غير أخلاقي يخطر ببالنا.
أما اعتراض هيجل الثاني على كانط، فهو أن رؤية كانط تجعل الإنسان منقسما على نفسه، وتضع العقل في صراع أبدي مع الرغبة، وتحرم الجانب الطبيعي للإنسان من أي حق للإشباع. فرغباتنا الطبيعية هي شيء يجب كبته، ويكلف كانط العقل بمهمة كبتها الشاقة، إن لم تكن المستحيلة. في هذا الاعتراض - كما رأينا - كان هيجل يتفق مع طرح شيلر في كتابه «محاضرات في التربية الجمالية للإنسان»، إلا أن هيجل استغل نقد شيلر بطريقته الخاصة.
يمكننا وضع هذه النقطة في سياق مشكلة أخرى مألوفة متعلقة بالأخلاق الحديثة. إن اعتراض هيجل الرئيسي الثاني على نظرية كانط الأخلاقية هو أنها لا تقدم حلا للتعارض بين الأخلاق والمصلحة الشخصية؛ فكانط ترك السؤال التالي دون إجابة ودون إمكانية الإجابة عنه أبدا: «لماذا ينبغي أن نكون على خلق؟» لقد أخبرنا أنه ينبغي علينا القيام بواجبنا لذاته، وأن البحث عن أي سبب آخر هو بعد عن الدافع الحر والخالص الذي تتطلبه الأخلاق؛ لكن هذه ليست إجابة بأي حال من الأحوال، بل مجرد رفض للسماح للسؤال بأن يطرح.
في كتابه «محاضرات في التربية الجمالية للإنسان»، أشار شيلر إلى وقت مضى لم يكن فيه هذا السؤال ببساطة قد طرح، ولم تكن فيه الأخلاق قد انفصلت عن المثل العرفية للحياة الجيدة، ولم يكن فيه هناك مفهوم كانط عن الواجب. رأى هيجل أنه بمجرد أن طرح السؤال، أصبح من المستحيل عودة الأخلاق العرفية. على أي حال، اعتبر هيجل مفهوم كانط عن الواجب تقدما يجب عدم الندم عليه؛ لأنه يساعد الإنسان الحديث في أن يصبح حرا بطريقة لم يتمكن اليونانيون - وهم مكبلون في آفاقهم العرفية الضيقة - مطلقا من تحقيقها. إن ما سعى هيجل لفعله هو أن يجيب عن السؤال على نحو يجمع بين الإشباع الطبيعي لأسلوب حياة اليونانيين والضمير الحر لفكرة كانط عن الأخلاق. وكانت إجابته في الوقت ذاته تقدم علاجا للخلل الرئيسي الآخر في نظرية كانط؛ ألا وهو الافتقار التام للمضمون.
المجتمع العضوي
ناپیژندل شوی مخ
يجد هيجل أن الجمع بين الإشباع الفردي والحرية يتوافق مع الطبيعة الاجتماعية للمجتمع العضوي. السؤال الآن: ما شكل المجتمع الذي كان يجول في خاطره؟
قرب نهاية القرن التاسع عشر، تبنى الفيلسوف البريطاني إف إتش برادلي - الذي قد لا يكون على نفس مستوى هيجل بوصفه مفكرا أصيلا، لكنه بالتأكيد يتفوق عليه في أسلوب الكتابة - فكرة هيجل عن المجتمع العضوي؛ لذلك سأجعل عرض برادلي لأساس التناغم بين المصلحة الشخصية والقيم المجتمعية يتحدث نيابة عن هيجل. يصف برادلي تطور الطفل الذي ينشأ في مجتمع كالتالي:
يولد ... الطفل ... في عالم حي ... هو لا يفكر حتى في ذاته المستقلة؛ ينمو مع عالمه، عقله يملأ نفسه ويأمرها؛ وعندما يستطيع فصل ذاته عن ذلك العالم والتعرف عليها بعيدا عنه، تكون نفسه - المسئولة عن وعيه بذاته - حينئذ قد تم اختراقها وإفسادها، ويجد بها آخرين. ويظهر مضمونها في كل جانب منها الارتباط بالمجتمع. فهو يتعلم، أو ربما يكون قد تعلم بالفعل، أن يتحدث، وهنا يستغل الإرث المشترك لبني جنسه، اللغة التي يعتبرها خاصة به هي لغة بلاده، فهي ... نفسها التي يتحدث بها الآخرون وتحمل إلى عقله أفكار بني جنسه وعواطفهم ... وتميزها بسمة لا يمكن محوها. يكبر في إطار القدوة والتقاليد العامة ... وروحه التي بداخله تشبعت، وامتلأت، وتميزت، وتكيفت، وتوصلت إلى جوهرها، وأنشأت نفسها، هي ذاتها الحياة في الحياة الكونية، وإذا ما انقلب عليها، فهو ينقلب على نفسه.
شكل : إف إتش برادلي (1846-1924).
إن وجهة نظر برادلي، وهيجل، هي أنه نظرا لأن احتياجاتنا ورغباتنا يشكلها المجتمع، يقوم المجتمع العضوي بتشجيع الرغبات التي تفيده أكثر، كما يرسخ في أذهان أعضائه أن هويتهم تكمن في كونهم جزءا منه حتى لا يفكروا مطلقا في الخروج عليه سعيا وراء مصالحهم الشخصية، وهذا يشبه تفكير أحد أعضاء الجسم البشري، كأن تفكر الذراع اليسرى في الانفصال عن الكتف سعيا لإيجاد شيء أفضل للقيام به بدلا من إدخال الطعام في فم الإنسان. وينبغي أيضا ألا ننسى أن العلاقة بين الكائن الحي وأعضائه هي علاقة تبادلية؛ فأنا بحاجة إلى ذراعي اليسرى وذراعي اليسرى بحاجة إلي. لن يتجاهل المجتمع العضوي مصالح أعضائه مثلما لا يمكنني تجاهل حدوث إصابة في ذراعي اليسرى.
إذا أمكننا قبول هذا النموذج العضوي للمجتمع، فيمكننا ضمان أنه سينهي الصراع القديم بين مصالح الفرد ومصالح المجتمع. لكن كيف يحافظ هذا النموذج على الحرية؟ ألا يظهر مجرد امتثال ضيق الأفق للعادات والتقاليد؟ وفيم يختلف عن المجتمعات اليونانية التي يعتبرها هيجل مفتقرة للمبدأ الرئيسي للحرية الإنسانية الذي قدمته حركة الإصلاح الديني، والذي عبر عنه - ولو من جانب واحد - مفهوم كانط عن الواجب؟
يختلف مواطنو مجتمع هيجل عن مواطني العالم اليوناني؛ لأنهم بالتأكيد ينتمون إلى عصر تاريخي مختلف، ولديهم الإنجازات التي حققتها روما، والمسيحية، وحركة الإصلاح الديني باعتبارها جزءا من تراثهم الفكري. وهم على دراية بقدرتهم على تحقيق الحرية وقدرتهم على اتخاذ قراراتهم الشخصية وفقا لضمائرهم. فالأخلاق العرفية، التي تتطلب الامتثال لقوانينها لأن العرف ببساطة يقضي بالامتثال لها، لا يمكن أن تتحكم في طاعة الأشخاص ذوي التفكير الحر (لقد رأينا كيف كان تشكيك سقراط تهديدا خطيرا لأساس المجتمع في أثينا). لا يمكن أن يمتثل الأشخاص ذوو التفكير الحر إلا للمؤسسات التي يؤمنون أنها تعمل وفقا للمبادئ العقلانية؛ لذا فإن المجتمع العضوي الحديث، على عكس المجتمعات القديمة، يجب أن يقوم على مبادئ العقل.
رأينا في كتاب «فلسفة التاريخ» ما حدث عندما تجرأ الناس للمرة الأولى على إسقاط المؤسسات غير العقلانية وتأسيس دولة جديدة تستند إلى المبادئ العقلانية الخالصة. لقد أدرك قادة الثورة الفرنسية العقل بمعناه المجرد والكوني الخالص، الذي لم يكن ليتسامح مع النزعات الطبيعية للمجتمع. كانت الثورة هي التجسيد السياسي للخطأ الذي وقع فيه كانط فيما يتعلق بمفهومه المجرد والكوني الخالص عن الواجب، الذي لم يكن ليتسامح مع الجانب الطبيعي للبشر. وامتثالا لهذه العقلانية الخالصة، تم إلغاء الملكية، وجميع طبقات النبلاء الأخرى، وتم إحلال ديانة «عبادة العقل» محل الديانة المسيحية، وتم إلغاء نظام الموازين والمقاييس القديم لإفساح المجال للنظام المتري الأكثر عقلانية، حتى التقويم تم إصلاحه؛ وكانت النتيجة الإرهاب، الذي يتصارع فيه ما هو كوني خالص مع الفرد ويتخلص منه. أو لنصيغه بكلمات مختلفة عن لغة هيجل: ترى الدولة الأفراد بوصفهم أعداءها وتقتلهم.
وعلى الرغم من فجاعة فشل الثورة الفرنسية بالنسبة لأولئك الذين عانوا منها، هناك درس مهم يجب تعلمه؛ وهو أنه لبناء دولة على أساس عقلاني بحق يجب ألا ندمر كل شيء ونحاول البدء من نقطة الصفر تماما، بل يجب أن نبحث عما هو عقلاني في العالم الحالي ونسمح لهذا العامل العقلاني بالانطلاق لأقصى مدى. وبهذه الطريقة، يمكننا أن نضيف إلى العقل والفضيلة الموجودين بالفعل في المجتمع.
فيما يلي قصة رمزية حديثة يمكن أن توضح سبب نظرة هيجل إلى الثورة الفرنسية باعتبارها فشلا مجيدا، وما قد نتعلمه منها: عندما بدأ الناس الحياة في المدن، لم يفكر أحد في تخطيط المدن، بل قاموا فقط بإنشاء منازلهم ومتاجرهم ومصانعهم في أي مكان بدا لهم أكثر ملاءمة، ونمت المدن بطريقة فوضوية تماما. ثم أتى شخص ما وقال: «هذا أمر سيئ! نحن لا نفكر بشأن المظهر الذي نرغب في أن تبدو عليه مدننا. حياتنا تحكمها المصادفة! نحتاج شخصا ما لتخطيط مدننا، ليجعلها تتماشى مع تصورنا للجمال والحياة الجيدة.» وهكذا ظهر مخططو المدن، الذين أزالوا الأحياء القديمة وأنشئوا مباني سكنية عالية عصرية، يحيط بها طوق من المروج الخضراء. وتم توسيع الطرق وتسويتها، ووضع مراكز التسوق في منتصف مساحات شاسعة لانتظار السيارات، وعزل المصانع بعناية بعيدا عن المناطق السكنية. ثم جلس مخططو المدن في انتظار أن يشكرهم الناس، لكن الناس تذمروا؛ لأنهم عندما ينظرون من شققهم المرتفعة لا يتمكنون من رؤية أطفالهم وهم يلعبون في المروج التي تبعد مسافة عشرة أدوار عنهم؛ تذمروا لافتقادهم المتاجر الصغيرة المحلية، ولأن المسافة كانت بعيدة ليعبروا كل هذه المروج الخضراء وأماكن انتظار السيارات ليصلوا إلى مراكز التسوق؛ تذمروا لأنه نتيجة لاضطرار كل شخص الآن أن يقود سيارته إلى العمل، أصبحت تلك الطرق المستوية والواسعة الجديدة تعاني من اختناق مروري. وأسوأ من كل ذلك، أنهم تذمروا لأن أحدا لم يعد يسير في الشوارع؛ مما جعل الشوارع غير آمنة، وأصبح السير عبر هذه المروج الخضراء الفاتنة بعد أن يحل الظلام أمرا خطيرا. ولذلك تم الاستغناء عن مخططي المدن القدامى وظهر جيل جديد من مخططي المدن، كان قد تعلم من أخطاء سابقيهم. وأول ما قام به مخططو المدن الجدد هو وقف هدم الأحياء القديمة. وبدلا من هذا، بدءوا ملاحظة السمات الإيجابية في المدن القديمة غير المخططة، وراقتهم الآفاق المتعددة للشوارع الضيقة غير المستوية، ولاحظوا كيف كان ملائما وجود متاجر ومساكن وحتى مصانع صغيرة بعضها بجانب بعض، كما لاحظوا كيف حدت هذه الشوارع من حركة المرور، وشجعت الناس على السير، وجعلت مركز المدينة نشطا وآمنا. وهذا لا يعني أن إعجابهم بالمدن القديمة غير المخططة كان بلا تحفظات؛ فكان هناك بعض الأشياء التي تحتاج إلى تنظيم، فتم نقل بعض الصناعات المزعجة على وجه الخصوص من المناطق السكنية، وتم ترميم العديد من المباني القديمة أو إحلال مبان بدلا منها تتماشى مع البيئة المحيطة. ومع ذلك، فإن ما اكتشفه مخططو المدن الجدد هو أن المدن القديمة كانت جيدة، وهذا هو العامل الذي كان يجب الحفاظ عليه، بصرف النظر عن الإصلاحات التي قد تظل مرجوة.
ناپیژندل شوی مخ
إن المدن القديمة غير المخططة تشبه المجتمعات القديمة التي نشأت على أساس التقاليد، ويشبه مخططو المدن الأوائل الثوار الفرنسيين في حماستهم لفرض العقلانية على الواقعية، بينما يمثل الجيل الثاني من مخططي المدن أتباع هيجل الحقيقيين، الذين أصبحوا أكثر حكمة لتعلمهم من الماضي وأصبحوا مستعدين للعثور على العقلانية في عالم يعد ناتجا للتكيف العملي أكثر من التخطيط المدروس.
يمكننا الآن رؤية سبب امتثال المواطنين الأحرار في العصر الحديث للمجتمع الذي - للوهلة الأولى - لا يختلف بدرجة كبيرة عن مجتمعات العالم القديم القائمة على التقاليد. يدرك هؤلاء المواطنون الأحرار المبادئ العقلانية التي يقوم عليها مجتمعهم؛ لذلك يختارون الالتزام بها بحرية.
هناك بالطبع بعض الاختلافات بين المجتمع العقلاني الحديث ومجتمعات اليونان القديمة. فنظرا لأن العصر الحديث يعلم أن جميع البشر أحرار، فقد تم إلغاء العبودية. يؤمن هيجل أنه بدون العبودية لا يستطيع الشكل الديمقراطي المستنزف للوقت المتبع في أثينا أن ينجح. أيضا لا يؤمن هيجل بالديمقراطية النيابية التي تتضمن الانتخاب العام، ويرجع ذلك من جهة إلى اعتقاده بأن الأفراد لا يمكن تمثيلهم (يقول إن «المجالات المحورية في المجتمع ومصالحها العامة» هي فقط التي يمكن تمثيلها). ومن جهة أخرى لأنه في الانتخاب العام يكون لكل صوت فردي أهمية قليلة؛ مما ينتج عنه لامبالاة واسعة الانتشار، وتصبح السلطة في يد مجمع حزبي صغير ذي مصالح خاصة.
شكل : مجتمع مخطط.
يقول هيجل إن المجتمع العقلاني هو عبارة عن ملكية دستورية. فالملكية مطلوبة لضرورة وجود سلطة القرار النهائي في مكان ما في منظومة الحكم، وفي المجتمع الحر ينبغي التعبير عن هذه السلطة بواسطة القرار الحر لشخص ما (قارن بالمجتمعات اليونانية التي كثيرا ما كانت تلجأ إلى استشارة وسيط روحي - قوة خارج المجتمع - لإرشادهم إلى القرار النهائي في المسائل العسيرة). من ناحية أخرى، يقول هيجل إنه في حال كان الدستور مستقرا، كثيرا ما لا يتبقى للملك سوى التوقيع باسمه. وهكذا يكون تكوينه الشخصي غير مهم، وسلطته غير مطلقة مثل الحاكم المطلق الشرقي. أما العناصر الأخرى للحكم في الملكية الدستورية، فهي السلطة التنفيذية والسلطة التشريعية. تتكون السلطة التنفيذية من الموظفين العموميين. والمعيار الموضوعي الوحيد لتقلد تلك الوظائف هو الكفاءة، لكن عندما يكون هناك العديد من المرشحين المؤهلين للوظيفة، وقدراتهم النسبية لا يمكن تحديدها بدقة، يتم إدخال شرط ذاتي، ويكون تحديده هو مهمة الملك. لذلك يحتفظ الملك بحق تعيين أعضاء السلطة التنفيذية، أما السلطة التشريعية - اتساقا مع أفكار هيجل بشأن التمثيل النيابي - فتتضمن مجلسين تشريعيين، يتكون الأعلى منهما من طبقة الأعيان، أما الأدنى فيتكون من الطبقة العاملة. ومع ذلك، يتم تمثيل أصحاب «المصالح العامة»، مثل المجالس والنقابات المهنية، في المجلس التشريعي الأدنى، وليس المواطنين كأفراد.
شكل : مجتمع غير مخطط.
تناولت سريعا هذه التفاصيل المتعلقة برؤية هيجل بشأن المجتمع العقلاني؛ لأن من وجهة نظر القارئ الذي يعيش في القرن الحادي والعشرين قد تبدو تفضيلات هيجل غريبة، وقد ظهر كثيرا - وإن لم يكن دائما - عبر التجارب اللاحقة أن براهينه عليها خاطئة. وفيما يتعلق بمفهوم هيجل عن الحرية، فإن التنظيم المؤسسي الذي يفضله ليس مهما. فينبغي أن يتضح الآن أن هيجل لا يتحدث عن الحرية بالمعنى السياسي حيث تكون السيادة للشعب العامل الأساسي للمجتمع الحر، بل هو مهتم بالحرية بمعنى أعمق وأكثر تجريدا. هيجل يرى الحرية بمعنى أننا أحرار عندما نكون قادرين على الاختيار دون إجبار من أشخاص آخرين أو رغباتنا الطبيعية أو الظروف الاجتماعية. كما رأينا، يؤمن هيجل بأن مثل هذه الحرية يمكن أن تتحقق فقط عندما نختار بعقلانية، ونحن نختار على نحو عقلاني فقط عندما نختار وفقا للمبادئ الكونية. وإذا كانت هذه الاختيارات قادرة على تحقيق الإشباع الذي نستحقه، فيجب تجسيد المبادئ الكونية في مجتمع عضوي منظم على أسس عقلانية. في مثل هذا المجتمع، تتناغم مصالح الفرد ومصالح المجتمع ككل. فعند اختيار القيام بواجبي، فأنا أختار بحرية لأنني أختار بعقلانية، وأحقق إنجازي الخاص في خدمة الشكل الموضوعي لما هو كوني؛ أي الدولة. علاوة على ذلك - وهنا نجد علاج الخلل الثاني الرئيسي في نظرية كانط عن الأخلاق - ونظرا لأن القانون الكوني يتجسد في المؤسسات المادية للدولة، فقد توقف عن كونه مجردا وفارغا. فهو يصف لي الواجبات المحددة لمكاني ودوري في المجتمع.
يمكننا أن نرفض تماما وصف هيجل للمجتمع المنظم بعقلانية، ولن يؤثر رفضنا هذا على صحة مفهومه عن الحرية. كان هيجل يسعى لوصف مجتمع تكون فيه مصالح الفرد ومصالح المجتمع ككل متناغمة، وإن كان قد فشل في ذلك، فيمكن لآخرين أن يواصلوا البحث. وإن لم ينجح أحد في هذه المهمة، وإن قبلنا أنه لن ينجح أحد أبدا في ذلك، فيجب علينا أن نقر بأن الحرية - بالمعنى الذي يقصده هيجل - لا يمكن أن تتحقق. وحتى هذا لن يبطل زعم هيجل بأنه وصف الشكل الحقيقي الأوحد للحرية، ويمكن أن يظل هذا الشكل من الحرية نموذجا مثاليا.
هل هيجل ليبرالي أم محافظ أم شمولي؟
بدأنا هذا الفصل بلغز؛ كيف أمكن لهيجل، الذي يؤكد على أهمية الحرية لدرجة أنه جعل منها غاية التاريخ، القول بأن الحرية قد تحققت في المجتمع الألماني الاستبدادي في عصره؟ أكان متملقا ذليلا أراد أن يتقرب لحكامه عن طريق تحريف معنى المصطلح إلى المعنى المضاد له تماما؟ وأسوأ من ذلك، أكان هو الأب الروحي الفكري لنوع الدولة الشمولية التي ظهرت في ألمانيا بعد مائة عام من موته؟
ناپیژندل شوی مخ
إن الخطوة الأولى لتوضيح هذا اللغز هي أن نطرح سؤالا واقعيا: هل الدولة العقلانية على نحو مثالي، التي يصفها هيجل، هي مجرد وصف لدولة بروسيا في الوقت الذي كان يكتب فيه؟ لا ليس الأمر كذلك. هناك تشابهات قوية، لكن هناك أيضا اختلافات جوهرية. سأذكر منها أربعة اختلافات. ربما أهم اختلاف هو أن الملك الدستوري عند هيجل لديه - بصورة مثالية - القليل ليقوم به عدا التوقيع باسمه، بينما كان فريدريش فيلهلم الثالث ملك بروسيا أقرب للملك المطلق المستبد. الاختلاف الثاني هو عدم وجود برلمان عامل نهائيا في بروسيا، بينما السلطة التشريعية عند هيجل - على الرغم من كونها عديمة السلطة نسبيا - تقدم متنفسا للتعبير عن الرأي العام. الاختلاف الثالث يكمن في أن هيجل كان - ولو في حدود محدودة للغاية - مؤيدا لحرية الرأي. بمعايير اليوم بالطبع يبدو ضيق الأفق جدا فيما يتعلق بهذه القضية؛ لأنه استثنى من هذه الحرية أي شيء من شأنه تشويه سمعة الحكومة ووزرائها، أو الإساءة إليهم، أو عمل «رسوم ساخرة مقززة» ضدهم. نحن لا نسعى الآن إلى الحكم عليه وفقا لمعايير اليوم، ولكن لمقارنة أفكاره بالوضع القائم في بروسيا في وقت كتابته. ونظرا لأن كتاب «فلسفة الحق» ظهر بعد ثمانية عشر شهرا فقط من فرض الرقابة الصارمة بموجب مراسيم كارلزباد لعام 1819، كان هيجل بلا شك يدافع عن مساحة من حرية التعبير أكبر مما كان مسموحا بها في عصره. الاختلاف الرابع يتمثل في أن هيجل كان يؤيد المحاكمة بواسطة هيئة المحلفين باعتبارها طريقة لإشراك المواطنين في العملية القانونية، ومع ذلك لم يكن هناك حق للمحاكمة بواسطة هيئة محلفين في بروسيا في ذلك الوقت.
هذه الاختلافات كافية لتبرئة هيجل من تهمة أنه قد وضع فلسفته بالكامل بهدف إرضاء حكام بروسيا. ومع ذلك، لا تجعل هذه الاختلافات من هيجل ليبراليا بالمعنى الحديث. ويكفي لإظهار ذلك رفضه لحق الاقتراع والقيود التي فرضها على حرية التعبير. لقد تمادى في كرهه لأي شيء يتعلق بالتمثيل الشعبي، لدرجة أنه كتب مقالا يعارض فيه قانون إصلاح النظام الانتخابي الإنجليزي، الذي عند إقراره أخيرا في عام 1832 أنهى تحيزات ومساوئ في عملية انتخاب أعضاء مجلس العموم البريطاني (على الرغم من أنه كان لا يزال يستبعد غالبية الذكور البالغين - فضلا عن الإناث - من لائحة الناخبين).
وعلى الرغم من ذلك، ينبغي ألا يفاجئنا هذا بعد ما رأيناه من أفكار هيجل عن الحرية؛ فقد كان هيجل يعتقد أن الانتخاب العام سينتهي إلى إدلاء الناس بأصواتهم وفقا لمصالحهم المادية، أو وفقا لتفضيلات يهيمن عليها التقلب، بل وحتى الهوى، قد تتكون لديهم بشأن أحد المرشحين دون آخر. ولو أنه أتيحت له مشاهدة عملية انتخابية في دولة ديمقراطية حديثة، لما كان سيغير رأيه بهذا الشأن. إن أولئك الذين يدافعون عن الديمقراطية اليوم لن يختلفوا كثيرا مع هيجل حول الطريقة التي يقرر بها معظم الناخبين تأييد المرشحين، لكنهم سيختلفون معه تماما في كون الانتخابات عاملا أساسيا في المجتمع الحر، بصرف النظر عما يمكن أن يكون عليه معظم الناخبين من اندفاع أو عدم عقلانية. كان هيجل يرفض هذا بالتأكيد بحجة أن الاختيار المندفع أو غير العقلاني ليس تصرفا حرا. فنحن أحرار فقط عندما يستند اختيارنا إلى العقل. إن جعل اتجاه الدولة بالكامل يستند إلى مثل هذه الاختيارات غير العقلانية - في رأيه - يساوي ترك مصير المجتمع للمصادفة.
هل يعني هذا أن هيجل بالفعل مدافع عن الدولة الشمولية؟ هذا هو رأي كارل بوبر في كتابه الشهير «المجتمع المنفتح وأعداؤه»، ويدعم رأيه باقتباسات لهيجل تثير سخط أي قارئ ليبرالي حديث. وفيما يلي بعض الأمثلة:
الدولة هي الفكرة الإلهية كما توجد على الأرض ... علينا إذن أن نعبد الدولة كتجل للرب على الأرض ... إن الدولة هي مسيرة الإله في العالم ... إن الدولة ... قائمة لذاتها.
يرى كارل بوبر أن هذه الاقتباسات كافية لإظهار إصرار هيجل على «السلطة الأخلاقية المطلقة للدولة التي تهيمن على كل الأخلاق الشخصية وكل الضمائر»، ولتوضيح دور هيجل المهم في تطور الشمولية الحديثة.
إن تأكيد هيجل على العقلانية باعتبارها عاملا أساسيا في الحرية يعطي هذا التفسير المزيد من المصداقية. فمن الذي سيحدد ما هو عقلاني؟ فأي حاكم مدعوم بالاعتقاد بأن الاختيارات العقلانية فقط هي الاختيارات الحرة يمكنه تبرير قمع كل من يعارض خططه العقلانية الخاصة بمستقبل الدولة. فإذا كانت خططه عقلانية، فدافع من يعارضوه ليس العقل، وإنما رغباتهم الأنانية أو أهواؤهم غير العقلانية. ونظرا لأن اختياراتهم لا تستند إلى العقل، فلا يمكن أن تكون حرة؛ وعليه فإن حجب صحفهم ومنشوراتهم ليس قمعا لحرية الرأي، واعتقال قادتهم ليس اعتداء على حريتهم في التصرف، وغلق كنائسهم وتأسيس أشكال جديدة وأكثر عقلانية من العبادة ليس اعتداء على حريتهم الدينية . ولن يصبح هؤلاء الأشخاص المضللون المثيرون للشفقة أحرارا حقا حتى يقدروا - نتيجة لهذه الأساليب - عقلانية خطط قائدهم! فإذا كان هذا هو مفهوم هيجل عن الحرية، فهل قام فيلسوف مطلقا بإعطاء مثال أفضل لازدواجية الخطاب الأورويلي - نسبة لإحدى روايات جورج أورويل - التي استخدمها هتلر وستالين بفاعلية كبيرة لتطبيق مخططاتهما الشمولية؟
إن حجة كارل بوبر ليست بالقوة التي تبدو عليها. أولا: تقريبا جميع الاقتباسات التي استشهد بها ليست من كتابات هيجل نفسه، لكن من الملاحظات التي كتبها طلابه على محاضراته ونشرها بعد مماته محرر ذكر في مقدمته أنه قام بقدر ما من إعادة الصياغة. ثانيا: واحدة على الأقل من هذه الاقتباسات الرنانة ترجمت خطأ؛ فالعبارة التي اقتبسها كارل بوبر «إن الدولة هي مسيرة الإله في العالم»، قد تكون الترجمة الأكثر دقة لها هي: «إن نهج الإله في العالم، أن توجد الدولة.» وهذا لا يعني أكثر من رأيه القائل بأن وجود الدول هو جزء من الخطة الإلهية على نحو ما. ثالثا: من وجهة نظر هيجل، «الدولة» لا تعني ببساطة «الحكومة»، بل تشير إلى الحياة الاجتماعية بأكملها. وهكذا لا يمجد هيجل الحكومة ضد الشعب، لكنه يشير إلى المجتمع ككل. رابعا: تحتاج هذه الاقتباسات إلى موازنتها باقتباسات أخرى؛ فكثيرا ما يقدم هيجل جانبا من موضوع في شكل متطرف قبل أن يوازنه مقابل جانب آخر؛ لذا تأتي تعليقات هيجل على الدولة في أثر فقرات سابقة يقول فيها: «إن الحق في الحرية الذاتية هو محور ومركز الاختلاف بين العصور القديمة والعصور الحديثة.» ويواصل كلامه قائلا إن هذا الحق «في عدم محدوديته» قد أصبح «المبدأ الفعال الكوني» لشكل الحضارة الجديد. وفيما بعد، نجده يقول: «أهم شيء أن قانون العقل ينبغي أن يكون ممزوجا بقانون الحرية الخاصة ...» بالإضافة إلى ذلك، يصر هيجل على أنه «نتيجة لحق الوعي الذاتي»، لا يمكن للقوانين أن تتمتع بقوة ملزمة إلا إذا كانت معروفة للناس. فليس من العدل أن تعلق القوانين عاليا حتى لا يستطيع أي مواطن قراءتها - بالطريقة التي يقال إن ديونيسيس الطاغية قد قام بها - أو أن تدفنها في مجلدات لغتها صعبة لا يمكن لمواطن عادي قراءتها. وعلى نحو مماثل، جاء هجوم هيجل اللاذع على الكاتب الرجعي فون هالر، الذي دافع عن مبدأ: «القوة تصنع الحق» الذي كان يناسب هتلر تماما، ويقول هيجل عن هذا الكاتب: «إن كراهية القانون وأن يصبح الحق مقررا في القانون، هما الأساس الذي يظهر من خلاله بكل وضوح التعصب والحماقة ونفاق النوايا الحسنة، بغض النظر عن الصور التي قد تظهر بها.» إن مثل هذا الدفاع الشديد القوة عن سيادة القانون هو أساس غير ملائم لبناء دولة شمولية بما تتضمنه من شرطة سرية وسلطة استبدادية.
لا شك في أن كلا من اللغة المفرطة التي استخدمها هيجل لوصف الدولة وفكرته أن الحرية الحقيقية تكمن في الاختيارات العقلانية، يمكن إساءة استخدامه وتحريفه تماما لخدمة الدولة الشمولية؛ لكن لا شك أيضا في كونها مجرد إساءة استخدام وتحريف. لقد رأينا ما يكفي من آراء هيجل بشأن الملكية الدستورية وحرية التعبير وسيادة القانون والمحاكمة بواسطة هيئة محلفين لتوضيح هذا. المشكلة هي أن هيجل كان جادا فيما يتعلق بالعقل لدرجة قليل منا قد يصل إليها الآن. فعندما يخبرنا شخص ما بكيفية إدارة شئون الدولة بأكثر الطرق عقلانية، ننظر إليه على أنه يعبر عن تفضيلاته الشخصية، ونفترض أن آخرين سيكون لديهم تفضيلات أخرى؛ وفيما يتعلق بأكثر الطرق «عقلانية»، حسنا، نظرا لأنه لا يوجد منا من يستطيع أن يجزم بهذا الشأن، فيمكننا أيضا أن نتغاضى عن هذا ونقبل بما نفضله أكثر. لذلك عندما يكتب هيجل عن «عبادة» الدولة أو عن تحقيق الحرية في دولة عقلانية، نميل إلى تطبيق هذه التعليقات على أي نوع من أنواع الدول التي تخطر ببالنا؛ وهو تفسير مخالف تماما لما قصده هيجل. إن هيجل قصد بمصطلح «الدولة العقلانية» شيئا موضوعيا ومحددا تماما؛ فيجب أن تكون دولة يختار فيها الأفراد حقا الامتثال لها وتأييدها؛ لأنهم توافقوا بصدق مع مبادئها، ووجدوا بالفعل إشباعهم الفردي في كونهم جزءا منها. يرى هيجل أنه لا يمكن أبدا لأي دولة عقلانية أن تتعامل مع مواطنيها بالطريقة التي تعاملت بها كل من الدولة النازية ودولة ستالين مع مواطنيها. فالفكرة ذاتها تبدو متناقضة. وبالمثل، يزول خطر حدوث صراع بين مصالح الدولة وحقوق الفرد وسحقها لها بقسوة، عندما ندرك أنه في دولة هيجل العقلانية تتناغم مصالح الفرد والمجتمع.
على الأرجح سيكون رد فعل القارئ المعاصر على كل هذا هو «نعم، ولكن ...» «نعم» للإشارة إلى أن هيجل نفسه لم يكن مؤيدا للشمولية، و«لكن» لإظهار أنه في هذا التفسير كان هيجل متفائلا على نحو مفرط بشأن إمكانية حدوث تناغم بين البشر، وكان على خلاف مع الواقع على نحو غريب إذا ما آمن أن التناغم يمكن أن يتحقق في نوع الدولة التي وصفها.
ناپیژندل شوی مخ