والآن شرع العازفون في المغادرة لكن دون عجالة؛ فعليهم حزم الآلات الموسيقية أولا بنحو مناسب، حيث لا يمكن أن تدس بنحو عشوائي فحسب في حقائبها. لقد رتب العازفون أشياءهم بطريقتهم التي لا بد أنها المعتادة وبصورة منظمة، ثم رحلوا هم أيضا بعد ذلك. لا يمكنني تذكر شيء آخر مما قيل بعد ذلك، وما إذا كانت الخالة دون قد استجمعت شتات نفسها كي تعبر عن شكرها لهم، أو تتبعهم حتى باب المنزل؛ فلم يكن بإمكاني أن أعير ذلك اهتماما لأن العم جاسبر قد شرع في الحديث بصوت عال جدا، والشخص الذي وجه إليه كلامه هو أنا. أعتقد أنني أتذكر أن عازفة الكمان صوبت إليه نظرها حينما شرع في الحديث، لكنه تجاهلها تماما أو ربما لم يرها من الأساس. لم تكن نظرة تنم عن الغضب كما يتوقع المرء، أو حتى توحي بالدهشة؛ لقد كانت متعبة بشدة فحسب، وكان وجهها باهتا بصورة ربما لا يتخيلها المرء.
قال العم جاسبر موجها حديثه نحوي كما لو أنه لا يوجد غيري بالمكان: «والآن أخبريني: هل يستمتع والداك بمثل هذه الأشياء؟ أعني، هذا النوع من الموسيقى؟ الحفلات الموسيقية وما شابهها؟ هل دفعا نقودا من قبل من أجل الجلوس لساعتين وهم يتململان من التعب في مقعديهما من أجل الاستماع لشيء لن يتذكراه بعد انقضاء نصف يوم فقط؟ هل يدفعان النقود هكذا ببساطة لكي يخدعا على هذا النحو؟ هل تعرفين إن كانا يفعلان ذلك أم لا؟»
أجبت بالنفي، وكانت هذه هي الحقيقة؛ فلم أرهما يذهبان إلى حفلة موسيقية من قبل، بالرغم من أنهما كانا يحبان الحفلات الموسيقية بوجه عام. «أرأيت؟ إنهما يتحليان بقدر كبير من التعقل؛ الكثير من التعقل الذي يمنعهما من الانضمام إلى كل هؤلاء الأشخاص الذين يحدثون كل ذلك الهرج والتصفيق، ويستمرون في تلك الحماقة كما لو أن الأمر من إحدى عجائب العالم، هل تعرفين تلك النوعية من الأشخاص التي أعنيها؟ إنهم كاذبون، مجرد كومة من روث الخيول؛ إنهم يفعلون ذلك على أمل أن يبدوا من أبناء الطبقة العليا، أو على الأرجح أن يجعلوا زوجاتهم يظهرن بمظهر من ينتمين للطبقة العليا. تذكري ذلك عندما تخرجين إلى العالم. اتفقنا؟»
وافقته في ذلك. إنني لم أشعر بالدهشة على الإطلاق حيال ما قاله؛ إن الكثير من الأشخاص كانوا يفكرون على هذا النحو، وبخاصة الرجال؛ فهناك الكثير من الأشياء التي يبغضها الرجال، أو التي ليس لها أي فائدة، كما كانوا يقولون. وهذا شيء صحيح تماما؛ فهم لا يرون طائلا من ورائها؛ ومن ثم فهم يكرهونها. وربما كان ذلك هو نفس شعوري تجاه علم الجبر؛ فأنا أشك بشدة في أنه سيكون له أي استخدام بالنسبة إلي.
لكني لم أرغب في تجاوز الحدود بالرغبة في أن يمحى هذا العلم من الوجود تماما من أجل ذلك السبب. •••
عندما هبطت للأسفل في الصباح، كان العم جاسبر قد غادر المنزل بالفعل، وكانت برنيس تنظف الأطباق في المطبخ، والخالة دون تضع الكئوس الكريستالية في الخزانة المخصصة للأواني الخزفية. ابتسمت لي لكن لم تكن يداها ثابتتين تماما؛ لذا اصطكت الأكواب بعضها ببعض قليلا محدثة صوتا تحذيريا.
قالت: «إن منزل الرجل هو قلعته الحصينة.»
قلت لها كي أروح عنها: «هذه تورية، إنك تقصدين العم كاسل (في إشارة إلى النطق المتشابه لاسمه ونطق المقابل الإنجليزي لكلمة «قلعة» في العبارة السابقة).»
ابتسمت ثانية، لكني أعتقد أنها لم تكن تعرف حتى ما الذي أتحدث عنه.
قالت: «عندما تكتبين لأمك في غانا، لا أعتقد أنه ينبغي أن تذكري لها ... أعني أنني أعتقد أنه لا ينبغي أن تذكري لها تلك المشكلة البسيطة التي حدثت ليلة أمس؛ أعني أنها عندما ترى الكثير من المشكلات الحقيقية، والناس الذين يتضورون جوعا وكل تلك الأشياء، فسنبدو أمامها أشخاصا تافهين متسمين بالأنانية.»
ناپیژندل شوی مخ